الهجرة والنصرة (1)

Cover Image for الهجرة والنصرة (1)
نشر بتاريخ

للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً، وينصرون الله ورسوله، أولئك هم الصادقون، والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم، يحبون من هاجر إليهم، ولا يجدون في صدورهم حاجة ممآ أوتوا، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. ومن يوق شح نفسه فأولـئك هم المفلحون.

الكلمات المفاتيح في هذه الآيات الكريمة -وكلام الله كله مفتاح حروفُه وكلماته وجمله- هي ثلاث: الهجرة والنصرة والصدق (أو الصديقية نسبة إلى أبي بكر الصديق سيد الصادقين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم). والهجرة والنصرة شعبة من شعب الإيمان وتحديدا من شعب خصلة الصدق.

الهجرة صحبة وولاية

عن ابن عمر أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال لأبي بكر أنت صاحبي على الحوض وصاحبي في الغار. “قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَبَيْنَمَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي نَحْوِ الظَّهِيرَةِ، قَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقَنَّعًا فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا. قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: فِدًا لَهُ أَبِي وَأُمِّي، وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا أَمْرٌ، قَالَ: فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ فَقَالَ النَّبِيُّ لِأَبِي بَكْرٍ: «أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ»، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ»، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الصُّحْبَةُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ»، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَخُذْ -بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ- إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بِالثَّمَنِ»”.

“رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الْغَارِ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ لِأَدْخُلَ قَبْلَكَ، فَإِنْ كَانَتْ حَيَّةٌ أَوْ شَيْءٌ كَانَتْ بِي قَبْلَكَ. قَالَ: «ادْخُلْ»، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَجَعَلَ يَلْتَمِسُ بِيَدِهِ، فَكُلَّمَا رَأَى جُحْرًا مَالَ بِثَوْبِهِ فَشَقَّهُ ثُمَّ أَلْقَمَهُ الْجُحْرَ، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ بِثَوْبِهِ أَجْمَعَ فَبَقِيَ جُحْرٌ فَوَضَعَ عَقَبِهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيْنَ ثَوْبُكَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟» فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي صَنَعَ، فَرَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ أَبَا بَكْرٍ مَعِيَ فِي دَرَجَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدِ اسْتَجَابَ لَكَ” 1.

وهي اتباع للنبي عليه الصلاة والسلام: لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والانصار الذين اتبعوه الآية. وَٱلسَّابِقُونَ ٱلأَوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنْصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ. ترتيب إيماني وظيفي بمقتضى الصحبة والاتباع والاقتداء، فالنبوة ثم الهجرة ثم النصرة ثم التابعية بإحسان.

والهجرة ولاية وموالاة بين المهاجرين والأنصار: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. تَعَرَّضَتِ الْآيَةُ إِلَى مَرَاتِبِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا فَابْتَدَأَتْ بِبَيَانِ فَرِيقَيْنِ اتَّحَدَتْ أَحْكَامُهُمْ فِي الْوِلَايَةِ وَالْمُؤَاسَاةِ حَتَّى صَارُوا بِمَنْزِلَةِ فَرِيقٍ وَاحِدٍ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ فَرِيقَا الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ.

الَّذِينَ امْتَازُوا بِتَأْيِيدِ الدِّينِ. فَالْمُهَاجِرُونَ امْتَازُوا بِالسَّبْقِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَتَكَبَّدُوا مُفَارَقَةَ الْوَطَنِ. وَالْأَنْصَارُ امْتَازُوا بِإِيوَائِهِمْ، وَبِمَجْمُوعِ الْعَمَلَيْنِ حَصَلَ إِظْهَارُ الْبَرَاءَةِ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ، وَقَدِ اشْتَرَكَ الْفَرِيقَانِ فِي أَنَّهُمْ آمَنُوا وَأَنَّهُمْ جَاهَدُوا، وَاخْتُصَّ الْمُهَاجِرُونَ بِأَنَّهُمْ هَاجَرُوا وَاخْتُصَّ الْأَنْصَارُ بِأَنَّهُمْ آوَوْا وَنَصَرُوا، وَكَانَ فَضْلُ الْمُهَاجِرِينَ أَقْوَى لِأَنَّهُمْ فَضَّلُوا الْإِسْلَامَ عَلَى وَطَنِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ، وَبَادَرَ إِلَيْهِ أَكْثَرُهُمْ، فَكَانُوا قُدْوَةً وَمِثَالًا صَالِحًا لِلنَّاسِ.

ومنعت الولاية عن الذين آمنوا ولم يهاجروا، فجعل سبحانه وتعالى الهجرة شرطا للولاية. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الْمُهَاجِرُ لَا يَتَوَلَّى الْأَعْرَابِيَّ وَلَا يَرِثُهُ (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) وَلَا يَرِثُ الْأَعْرَابِيُّ الْمُهَاجِرَ- أَيْ وَلَوْ كَانَ عَاصِبًا 2.

الهجرة صحبة للوالدين وبر بهما

“عن عبد الله بن عمرو قال: أقبل رجلٌ إلى نبيِّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال: أُبايِعْك على الهجرةِ والجهادِ، أبتغي الأجرَ من اللهِ. قال “فهل من والدَيك أحدٌ حيٌّ؟” قال: نعم. بل كلاهما. قال “فتبتغي الأجرَ من اللهِ؟” قال: نعم. قال “فارجِعْ إلى والدَيك فأحسِنْ صُحبتَهما”” 3.

وهي بر وصلة لذوي الأرحام حيث يجعل ربنا عز وجل لذوي الرحم الولاية نفسها التي للمهاجرين والأنصار ببركة الهجرة والنصرة وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. قَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ قَوْلُهُ: (فَأُولئِكَ مِنْكُمْ أَيْ مِثْلُكُمْ فِي النَّصْرِ وَالْمُوَالَاةِ)، قَالَ مَالِكٌ: (إِنَّ الْآيَةَ لَيْسَتْ فِي الْمَوَارِيثِ)، وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: (قَوْلُهُ: فَأُولئِكَ مِنْكُمْ “يَعْنِي فِي الْمُوَالَاةِ وَالْمِيرَاثِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ”).

الهجرة شعبة من مجموع إيماني

يعضد بعضه بعضا ويتدرج من خلاله المؤمن في سلوكه إلى الله ابتداء من السمع والطاعة وهذا يوازي هجرة البادي ثم تدرج إلى الجهاد والاستنفار وهو أفضل الهجرة ثم إلى الهجرة الباتة التي تثبت مع الله ورسوله مداومة وحضورا ومواظبة ثم إلى الاندماج العضوي الكلي في جماعة المومنين فلا يرى العضو حياته إلا ضمنها وإذا فارقها بقلبه أو حسه أو معناه قيد شبر فقد مات ميتة جاهلية قبل مماته الطبيعي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنَّ اللهَ أمرَ يحيى بن زكريا بخمسِ كلماتٍ أن يعملَ بِهَا، ويأمرَ بني إسرائيلَ أن يعملوا بها، وإنهُ كادَ أن يُبطئَ بها. وأنا آمركُم بخمسٍ اللهُ أمرنِي بهنَّ: السمعُ والطاعةُ والجهادُ والهجرةُ والجماعةُ، فإنه من فارقَ الجماعةَ قيدَ شبرٍ، فقد خلعَ ربقةَ الإسلامِ من عنقهِ إلا أن يُرَاجعَ. ومن ادّعَى دعوى الجاهليةِ، فإنه من جَثْىِ جهنمَ، فقال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ وإن صلّى وصامَ؟ فقال: وإن صلّى وصامَ. فادعوا بدعْوى اللهِ الذي سماكُم المسلمينَ المؤمنينَ عبادَ اللهِ” 4.

كلمة “الهجرة” خروج ووصول

خروج من الديار والأموال والملذات والشهوات والعادات المألوفة والعقليات الخاملة الناعسة الرعوية التي يدبر لها غيرها وهي لا تدبر ومن الأنانيات المستسلمة لذاتيتها وفردانيتها لا يهمها إلا امتلاء ما هي فيه وطلب المزيد مما هي فيه. الهجرة قطع لحبال الجاهلية وفطام أمة عن أوحال الفتنة، وفي الحديث “قال “مالك يا عمرو؟” قال قلت: أردت أن أشترط. قال “تشترط بماذا؟” قلت: أن يغفر لي. قال “أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله؟”” 5.

وهي وصول إلى ابتغاء فضل الله ورضوانه في الدنيا والآخرة ونصرة الله ورسوله. ثم هي وصول إلى درجة الصديقية الكاملة الصدق مع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. ووصول إلى الخلافة على منهاج النبوة.

والهجرة هجران وتواصل

أي تهجر من هجر الله ورسوله وحاد الله ورسوله وتتبرأ منه وتهجر ما هجر اللهُ ورسولُه، وهكذا سمي المهاجرون الأولون بذلك لهجرانهم قومهم الكفار ومقاطعتهم إياهم. ثم هي تواصل مع أنصار الله ورسوله الذين أحبوا وآووا ونصروا وعزروا وآثروا. تواصل قلبي وجداني عقلي جهادي مع من تبوأ الدار والايمان.

الهجرة عبادة وجهاد ونية

عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “العِبادةُ في الهرَجِ كالهِجرةِ إليَّ” 6. ففي زمن الفتنة وطغيان حضارة السوق تعتبر العبادة بمفهومها الشامل هجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فأيُّ الإيمانِ أفضلُ؟ قال: الهجرةُ قال: وما الهجرةُ؟ قال: أنْ تهجرَ السوءَ قال: فأيُّ الهجرةِ أفضلُ؟ قال: الجهادُ” 7. وهي مستمرة ما استمر الجهاد. عن جنادة بن أبي أمية قال: “فانطلقت إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقلت يا رسولَ اللهِ إن ناسًا يقولون إن الهجرةَ قد انقطعت، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إن الهجرةَ لا تنقطعُ ما كان الجهادُ” 8.

وهي نية والنية شعبة من شعب خصلة الصدق، “عن عطاء بن أبي رباح قال زُرتُ عائشةَ مع عُبيدِ بنِ عُمَيرٍ اللَّيثيِّ، فسَألناها عن الهِجرَةِ فقالت: لا هجرة بعد اليومَ، كان المؤمنون يَفِرُّ أَحَدُهُمْ بِدِينِهِ إلى اللهِ تعالى وإلى رسولِهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، مخافةَ أن يُفْتَنَ عليهِ، فأما اليومَ فقد أظهرَ اللهُ الإسلامَ، والمؤمن يعبد ربهُ حيث شاءَ، ولكن جِهادٌ ونيَّةٌ. صحيح رواه البخاري. وعنها رضي الله عنها قالت: سُئل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن الهجرةِ؟ فقال (لا هجرةَ بعد الفتحِ. ولكن جهادٌ ونيَّةٌ. وإذا استنفِرُتم فانفِروا)” 9.

الهجرة هجرتان: هجرة البادي وهجرة الحاضر

“عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ! أيُّ الهجرةِ أفضلُ؟ قال: أن تهجر ما كرهَ ربُّك عز وجل وقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ الهجرةُ هجرتانِ، هجرةُ الحاضرِ، وهجرةُ البادي، فأما البادي فيجيب إذا دُعِيَ، ويطيع إذا أُمرَ، وأما الحاضرُ فهو أعظمُهما بليَّةً، وأعظمُهما أجرًا” 10.

وهجرة البادي أقل شأنا من هجرة الحاضر، فالبادي يُستنفر إذا استنفر ويسمع إذا أمر ويطيع فهو من سواد جماعة المؤمنين سكنا وإيمانا. بينما الحاضر يشارك ويقترح ويبادر وحاضر غير غائب، لا يستنفر لأنه يصنع النفير، يجاهد بماله ونفسه، يعيش للدعوة ويتنفس هواءها، سيطرت نصرة الله ورسوله على عقله وفكره وقلبه وهمه وحركته. أولئك هم صناع الشهادة وأولئك هم صناع التاريخ، أولئك أعظم درجة وأشد بلية من غيرهم. أولئك هم الصادقون. وهي بهذا المعنى قيمة كبرى وميزة عظمى لا ينالها إلا أولو العزم من الرجال. “عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أنَّ أعرابيًّا سأل رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن الهجرةِ فقال ويحكَ إنَّ شأنَ الهجرةِ شديدٌ، فهل لك من إبلٍ؟ قال: نعم! قال: فهل تؤدي صدقتَها قال: نعم! قال: فاعملْ من وراءِ البحارِ، فإنَّ اللهَ عز وجل لن يَتِركَ من عملك شيئًا” 11.

الهجرة للذكر والأنثى

المهاجرون تطلق على النساء والرجاء بالسواء، فليس الرجال أحق بالهجرة وفضلها من النساء، بل من النساء من نالت فضل الهجرتين. وفي هذا الحوار اللطيف بين سيدنا عمر رضي الله وعنه وسيدتنا أسماء بنت عميس ما يثلج الصدر ويفصح عن مدى انفتاح المجتمع المسلم الذي رباه رسول الله عليه الصلاة والسلام: (بلغَنَا مخْرَجُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ونحنُ باليمنِ، فخرجنا إليهِ أنا وأَخَوانِ لي أنا أصغَرُهُم، أحدُهُما أبو بُرْدَةَ والآخرُ أبو رُهْمٍ، إما قال: في بضعِ، وإما قال: في ثلاثةِ وخمسينَ، أو اثْنَينِ وخمسينَ رجلاً في قومي، فركِبْنا سفينةً، فألْقَتنا سفينَتُنا إلى النجاشيِّ بالحبَشةِ، فوافَقنا جعفرَ بنَ أبي طالبٍ، فأقَمنا معه حتى قدِمنا جميعًا، فوافَقنا النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- حين افتَتَحَ خيبرَ، وكان أناسٌ مِنَ الناسِ يقولون لنا يعني لأهلِ السفينةِ: سبَقناكم بالهِجرةِ. ودَخلت أسماءُ بنتُ عُميسٍ، وهي مِمن قدِم معنا، على حفصةَ زوجِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- زائرةً، وقد كانت هاجرت إلى النجاشيِّ فِيمَن هاجرَ، فدخل عمرُ على حفصةَ وأسماءُ عِندَها، فقال عمرُ حين رأى أسماءَ: مَن هذه؟ قالت: أسماء ُبنتُ عُمَيسٍ، قال عمرُ: آلحبشيةُ هذه، آلبحريةُ هذه؟ قالت أسماء: نعم، قال: سبَقناكم بالهجرةِ، فنحن أحقُّ برسولِ اللهِ منكم، فغضبتْ وقالت: كلاَّ واللهِ، كنتم مع رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يُطعمُ جائِعكُم، ويَعظُ جاهِلَكُم، وكنا في دارِ -أو في أرضِ- البُعَداءِ البُغَضاءِ بالحبشةِ، وذلك في اللهِ ورسولهِ -صلى الله عليه وسلم-، وايمُ اللهِ لا أطْعَمُ طعامًا ولا أشربُ شرابًا، حتى أذكرَ ما قلتُ لرسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ونحن كنا نُؤذى ونخافُ، وسأذكرُ ذلك للنبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وأسألُه واللهِ ولا أكذبُ ولا أزيغُ ولا أزيدُ عليه. فلما جاء النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- قالت: يا نبيَّ اللهِ إن عمرَ قال كذا وكذا؟ قال: (فما قُلتِ له). قالت: قلتُ له كذا وكذا، قال: “ليس بأحقَّ بي منكم، وله ولأصحابهِ هجرةٌ واحدةُ، ولكم أنتم – أهلَ السفينةِ – هجرتان”. قالت: فلقد رأيتُ أبا موسى وأصحاب السفينة يأتونني أرسالا، يسألونني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو بردة: قالت أسماء: رأيت أبا موسى وإنه ليستعيد هذا الحديث مني. رواه البخاري عن ابي موسى الأشعري رضي الله عنه. وفي هذا الحديث أكبر دليل على أن الهجرة صحبة وفوز برسول الله.

وعن أم سلمة هند بنت ابي أمية أنَّها قالت: يا رسولَ اللَّهِ، لا نسمعُ اللَّهَ ذَكَر النِّساءَ في الهجرةِ بشيءٍ؟ فأنزلَ اللَّهُ تعالى: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، إلى آخرِ الآيةِ. وقالتِ الأنصارُ: هيَ أوَّلُ ظعينةٍ قدمَتْ علَينا. حكاه ابن العربي في عارضة الأحوذي واحمد شاكر في عمدة التفسير.

وعن أم سليم بنت ملحان رضي الله عنها أنَّها قالت: يا رسولَ اللهِ أوصِني، قال: اهجُري المعاصيَ فإنَّها أفضلُ الهجرةِ وحافظِي على الفرائضِ فإنَّها أفضلُ الجهادِ وأكثِري من ذكرِ اللهِ فإنَّك لا تأتين اللهَ بشيءٍ أحبَّ إليه من كثرةِ ذكرِه. رواه المنذري في الترغيب والترهيب، إسناده جيد.

الهجرة إمامة

تشترط الهجرة في الإمامة للصلاة إذا استووا في القرآن والسنة. عن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأكبرهم سنا ولا يؤم الرجل في سلطانه ولا يجلس على تكرمته في بيته إلا بإذنه” 12، وعند الدارقطني حديث يقدم فيه الهجرة على ما سواها.

وهي إمامة في الخلافة، لقد اختار المهاجرون والأنصار خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق من المهاجرين ويعتبر اجتهادهم اجتهادا شرعيا يقتدى به.

الأعرابية بعد الهجرة من الكبائر

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الكبائر سبع: الإشراك بالله وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وقذف المحصنة والفرار من الزحف وأكل الربا وأكل مال اليتيم والرجوع إلى الأعرابية بعد الهجرة” 13. وروي عن عبدِ اللَّهِ بن مسعود قالَ: “آكلُ الرِّبا، وموكلُهُ، وَكاتبُهُ إذا علِموا ذلِكَ، والواشمةُ، والموشومَةُ للحُسنِ، ولاوي الصَّدقةِ، والمرتدُّ أعرابيًّا بعدَ الهجرةِ مَلعونونَ علَى لسانِ محمَّدٍ يومَ القيامةِ” 14.


[1] سير السلف الصالحين للاصبهاني ج1 ص20.
[2] التحرير والتنوير للعلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله.
[3] رواه مسلم.
[4] رواه الترمذي عن الحارث بن الحارث الأشعري رضي الله عنه.
[5] رواه مسلم.
[6] رواه الترمذي.
[7] الحديث رواه عمرو بن عبسة رضي الله عنه اسناده حسن (المنذري في الترغيب والترهيب).
[8] رواه الهيثمي في مجمع الزوائد وقال رجاله رجال الصحيح.
[9] رواه مسلم.
[10] رواه النسائي وصححه الألباني.
[11] صحيح رواه النسائي.
[12] رواه البخاري.
[13] رواه الطبراني.
[14] رواه النسائي وصححه الألباني.