الهجرة النبوية وطوفان الأقصى: التجلي المتجدد لسنن الابتلاء وبشائر النصر والتمكين

Cover Image for الهجرة النبوية وطوفان الأقصى: التجلي المتجدد لسنن الابتلاء وبشائر النصر والتمكين
نشر بتاريخ

شكلت الهجرة النبوية لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة سنة 13 للبعثة النبوية الموافق لسنة 622م منعطفا مفصليا في تاريخ الرسالة المحمدية، وإعلانا عن بداية التمكين بعد الابتلاء، وبناء لمجتمع العدل بعد سنوات الاستضعاف. واليوم، في ظل ملحمة طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023، تُطرح الهجرة من جديد كمنظور للتأمل والتفسير والاستشراف.

فكما كانت الهجرة النبوية تحولا في ميزان القوى وميلادا لدولة المدينة، فإن طوفان الأقصى مثّل لحظة كسرٍ رمزي وعسكري وثقافي لمنظومة الهيمنة الصهيونية، وإعادة توجيه بوصلة وعي الأمة باتجاه إعادة ترتيب الأولويات والمواقف والآفاق. وبين الحدثين وفيهما تتجسد معاني المقاومة، والثبات، والصمود، والاصطفاء، والصبر على طريق النصر.

1. الهجرة في المشروع المنهاجي النبوي: التربية والإعداد قبل المواجهة

تمثل الهجرة تتويجا لمسار تربوي طويل، وصبر جماعي، ورباط تنظيمي. فالهجرة لم تكن انسحابا تكتيكيا من بطش قريش، بل انتقالا في سنن التمكين بعد تحقق شروطها: الإيمان، التنظيم، النصرة. ففي السيرة النبوية وسير الأنبياء عليهم السلام وتاريخ القائمين ضد الظلم والمقاومين للباطل لا يُكتب النصر للمقاومة إلا بعد أن تصقلها المحن، وتُربَّى في مدرسة الشدائد، وتَثبت عند الابتلاء، وتُبرهن صدق ولائها وصبرها في مواطن البلاء.

ويوازي هذا المعنى ما رأيناه في طوفان الأقصى من الإعداد عبر عقود، من التربية على المقاومة، من بناء التنظيم ودقة التخطيط، ومن الإبداع المحلي الخالص؛ حتى إذا سنحت الفرصة، كانت الهجرة الكبرى من واقع الاستكانة إلى المبادرة، من العجز إلى الفعل. ففي غزة العزة لم تعد موازين القوى تُقاس فقط بكمية السلاح وتفوق التكنولوجيا، بل أفرز طوفان الأقصى معادلة جديدة أعادت تشكيل المفهوم التقليدي للقوة. فبرغم الفارق الهائل في العتاد والعدة، استطاعت المقاومة أن تنتقل من موقع ردّ الفعل إلى موقع الفعل والمبادرة، وفرضت معادلة ردع فعالة قلبت مسار الصراع، وأربكت حسابات الاحتلال، وأظهرت أن الإرادة الواعية، المرتكزة على عقيدة صلبة واستراتيجية ذكية، قادرة على تعديل الكفة وكسر منطق التفوق العسكري الأجوف للجيش الذي لا يقهر.

إن فقه التغيير يؤكد على أن لحظات التحول الحاسمة لا تأتي بالفجأة ولا بالمفاجأة ولا بالأماني المعسولة، بل تتحقق بعد إعداد وصبر طويل وتربية وتزكية متواصلة، وبناء للرجال والمؤسسات، تماما كما في دروس غزة وفلسطين وغيرها من دروس المقاومين الصادقين.

2. من الهجرة إلى طوفان الأقصى: فقه الابتلاء وسنن النصر

تتجلى وحدة المنهاج الرباني في صناعة التغيير في أن الهجرة النبوية وطوفان الأقصى رغم كونهما حدثين متباعدين في الزمان، لكنهما مساران متكاملان في سياق واحد من سنن الابتلاء والتمكين. فكما كانت الهجرة حدثا فارقا في بناء أمة شاهدة بالقسط، يُجسد طوفان الأقصى اليوم لحظة مفصلية في مسار يقظة الأمة يعيد تشكيل وعي الأمة ويبعث فيها روح المقاومة ويذكي في وجدانها معاني الإيمان والصبر والنصرة، إيذانا بمرحلة جديدة من مراحل الاستخلاف والتمكين. وكلاهما امتحان للإرادة الإيمانية، وابتلاء يمحص الصف، وهجرة من الضعف إلى القوة، ومن التشرذم إلى الوحدة، ومن القهر إلى التحرر. وبشارة بانبلاج فجر جديد بعد ليل المعاناة الطويل. وفي كليهما، واجهت الجماعة المؤمنة عدوا يتفوق ماديا لكنه مهزوم عقديا وسننيا وأخلاقيا.

إن الدرس الحاسم والمهم هو أن السنن والأسباب الكونية لا تتخلف، وأن بناء القوة يبدأ من الإيمان بالمشروع، وأن سقوط الباطل ليس مسألة تاريخية فقط، بل ضرورة قرآنية تتحقق كلما صَدَق أهل الحق ما عاهدوا الله عليه. فكما هزم سيدنا موسى عليه السلام الطاغية المستعلي فرعون، وأغرق الله جنده، وكما استسلمت قريش في فتح مكة، فإن الهجرة تؤكد أن مصير الطغيان إلى زوال. وفي طوفان الأقصى تجلى بعض من هذا النصر الرباني الموعود في الفشل الاستخباراتي الصهيوني الذريع، وانهيار أسطورة مملكة بني صهيون، وانكشاف هشاشة كيانهم، وتصدع صورته عالميا. لقد زلزلت عملية واحدة من منطقة محاصرة منظومة عسكرية عمرها أكثر من سبعة عقود. وما ذلك إلا ترجمة عملية لقول الله عز وجل: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ، وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات: 171-172-173]. فالطغيان مهما تمادى، محكوم بزوال حتمي إذا توفرت شروط التدافع في المظلوم: تربية، وعي، حرية، استقلالية، تنظيم، تضحية، عزيمة، وتوكل.

3. في زمن طوفان الأقصى: لا لثقافة الهزيمة نعم لروح المقاومة

في لحظة يسارع فيها المتخاذلون المنهزمون إلى التطبيع مع كيان غاصب مرفوض ومجرَّم عالميا، وتُخوَّن فيها القضية الفلسطينية، وتُشيطن فيها المقاومة، تصبح الهجرة درسا متجددا في رفض واقع الذل والانفكاك عن مسارات الانهزام. كما هاجر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من دار الباطل إلى مدينة الحق، يهاجر بنا طوفان الأقصى من ثقافة الهزيمة إلى روح المقاومة. ومن التبعية للغرب إلى الاعتماد على الذات. ومن الفردانية القاعدة إلى الأمة الجامعة.

وتماما كما فضحت الهجرة في المدينة جذور النفاق العميقة المثبطة وزعيمها رأس النفاق عبد الله بن أبي ابن سلول الذي انزل فيه قول الله تعالى: يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ۚ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ [المنافقون: 08]، فقد أسقط طوفان الأقصى أقنعة المطبعين وفضح مناوراتهم، وأسس لمنهج التمايز والفرز بين من مع الحق المتمثل في المقاومة الشرعية لمحتل غاصب ومن مع صف الباطل الصهيوني المستكبر.

إن الهجرة لم تكن حادثا عابرا، بل نموذجا حيا دائما في سنن الله عز وجل. وكما كانت الهجرة بوابة النصر في بدر، فإن طوفان الأقصى بكل يقين وبإذن الله تعالى هو بداية لتحول استراتيجي في وعي الأمة، إذا وُعيت دروسه، واستثمرته في مشروع جماعي للتغيير؛ إنها هجرة وعي الأمة من الاستسلام إلى الاقتحام ومن التخاذل إلى الإرادة، ومن العجز إلى الفعل…

فلا ينبغي قراءة الهجرة النبوية كتاريخ فقط، بل كمشروع عمل: في التربية، في التنظيم، في الإعداد، في الصبر، في فقه سنن التغيير، وفي بناء الأمة المستخلفة بإذن الله عز وجل.

وما بين الهجرة والطوفان، يعلو النداء الرباني الخالد: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[محمد: 7].