الهجرة النبوية من مدرسة الشدائد إلى النصرة والمؤاخاة

Cover Image for الهجرة النبوية من مدرسة الشدائد إلى النصرة والمؤاخاة
نشر بتاريخ

ها قد هلت علينا ذكرى تجدد في النفوس كثيرا من المعاني السامقة، والدروس البليغة، هي ذكرى الهجرة النبوية التي تحمل المواقف الجليلة، التي يقف لها المسلم مكبرا متتلمذا، يغترف من معانيها، ويلتمس فيها المدد، والزاد في نهجه للوصول إلى الله، ليصحح طريقه. فلتكن نية تخليد هذه الذكرى هي الاستنباط والاتعاظ بمواقف الصبر والنصر والمؤاخاة لإيقاظ النفس لاقتحام العقبات.

مدرسة الشدائد

إنها مدة ليست بالهينة إنها ثلاثة عشر عاما، عانى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة الذين حظوا بالصحبة المباركة رضي الله عنهم، أشد أنواع الأذى اللفظي والجسدي، والقتل والاغتيال، والحصار والمحاصرة. نالت القيادة النبوية وجيوش الجهاد، الذين تربوا تحت كنف رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحظ الوافر من الصبر. فقد أيقنوا إيقانا تام وعلموا أن كلمة الحق، والعدل، والإحسان، وقيادة دولة الإسلام، لا بد له من تضحية واسترخاص لكل شيء. فقد كانوا خريجي مدرسة الشدائد التي تربوا فيها تربية مكنتهم من الانقطاع عن الماضي السيء، وعن مألوفات الحاضر، وعن الراحة والعلاقة بكل شيء يشدهم إلى الأرض وشهواتها. ليرتبطوا بموعود الله عز وجلـ فهان عليهم الموت، وهان عليهم ما دونه بذلُ المال والجهد.

من هنا تخرج المهاجرون والأنصار فردا فردا، فقد كان ما تلقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة وشعابها أكبر منعرج في تكوين شخصية إسلامية قيادية، تخرج جيل الجهاد. من حديث أخرجه أبو نعيم والطبراني أن المقداد بن الأسود قال: “لقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم في أشد حال بعث عليه نبي من الأنبياء”. فقد كانت الهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإليه، انتقالا من مكان إلى مكان، قلبا وقالبا، وترك العشيرة والماضي والأصل والجاه والارتماء في “المجهول”.

 لم تكن هذه الهجرة عسلا مصفّى ولا لبنا سائغا لذة للشاربين. بل بابا من المعاناة، ما كان يعرفه العرب وهم من نعرف حنينا إلى الأوطان، ولصوقا بالربوع والديار. كل هذا ينضاف إلى عقبات مدرسة الشدائد. لكنه هان لما اشتدت رابطة المسلم بالله ورسول الله صلى الله عليه وسلم وبإخوانه. فهذه الهجرة قبل أن تطبق على أرض الواقع ولدت وشبّت في النفس، وطردت هواجس الخوف، فقد كان هناك ميلاد مجتمع جديد، وتضامن على أساس جديد، وتلاحم شديد.

رغم بقاء المؤمنين على نطاق الأسرة والعشيرة، فقد أدت التربية النبوية التي تعد أساس مدرسة الشدائد، مهمتها على خلق إنسان جديد، بصمود جماعة المؤمنين وتماسكها وبرهنتها على أنها مجتمع متميز لا تنال منه المحن.

كان الهدف الأسمى من بناء دولة الحق والقانون، وتكوين جيل يحمل هم التجديد، والبناء الجديد الشامل ببعديه العدلي والإحساني. فقبل الهجرة إلى يثرب كانت هناك هجرة إلى الطائف، والحبشة، والإسراء والمعراج. كل هذا لم يقدم الأرض الخصبة، والسماء الممطرة، لبناء دولة الإسلام. فالهجرة إلى الطائف فردا لم يغنم منها سوى العبد عداس النصراني، والهجرة إلى الحبشة جماعة، فما كان العطف المحايد لتمكين الدعوة في الارض ولا تأسيس دولة الإسلام في أرض لا تفتح ذراعيها لدين جديد.

فإن كانت الهجرة بذرة فالنصرة والمؤاخاة هي الأرض الخصبة لبذرها وهذا ما لم يتيسر إلا في الهجرة إلى يثرب.

النصرة والمؤاخاة

قال الإمام البنا رحمه الله “وإن ذلك المهاجر الذي كان يترك أهله، ويفارق أرضه في مكة ويفر بدينه، كان يجد أمامه أبناء الإسلام من فتيان يثرب ينتظرون، وكلهم شوق وحنين إليه، وحب له، وسرور بمقدمه. ما كان لهم به سابق معرفة ولا قديم صلة، وما ربطهم به شجية من صهر أو عمومة، ما دفعتهم إليه غاية أو منفعة. وإنما هي عقيدة الإسلام، جعلتهم يحنون إليه ويتصلون به، ويعدونه جزء من أنفسهم، وشقيقا لأرواحهم. وما هو إلا أن يصل المسجد حتى يلتف حوله الغُرُّ الميامين من الأوس والخزرج، كلهم يدعوه إلى بيته ويُوثره على نفسه، ويفديه بروحه وعياله، ويتشبث بمطلبه هذا حتى يؤول الأمر إلى الاقتراع. فقد روى الإمام البخاري ما معناه “ما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة” حتى خلد القرآن للأنصار ذلك أبد الدهر، فما زال يبدو غُرَّة مشرقة في جبين السنين”.

هنا يتضح جليا المعنى الواضح للمؤاخاة، رغم أن الأنصار علموا أنها عداوة العرب، وأنها الحرب لا مفر، وأنه الموت المحتم، اختاروه عن رضى طاعة لله ورسوله صلوات الله عليه مهما كانت النتائج، فقد التزموا بالنفقة في العسر واليسر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحماية حامل الرسالة صلى الله عليه وسلم.

بعد هذا تجلى في الأفق المشع الإيثار الذي مدحه الله عز وجل حيث قال: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (الحشر: 9). إن المؤاخاة والإيثار الرائع لم يكونا زهرة عاطفية أينعت مع الجماعة، بل كانت بذل يحتقر معه المؤمن متاع الدنيا بجانب حق الأخوة وجزاء الجنة.

وهنا الأسوة في هذا لغد الإسلام ودولة القرآن، مغزاه ومرماه أن تكون إعادة قسمة وإعلان عدل الإسلام ورخاء الإسلام القاعدة المادية لبناء دولة الاسلام؛ فقد كانت الهجرة والنصرة والمؤاخاة والإيثار برهانا قويا على فعالية القيادة النبوية ونهج مدرسة الشدائد.

فيا من شددت الرحال مهاجرا إلى الله، ويا من وليت وجهك شرط رسول الله صلى الله عليه وسلم. اعلم أنك تحتاج في طريقك إلى جهد وبذل وتضحية بمقابل ابتلاء من الله، أعد نفسك عن السير بالصبر على الحق مع الصابرين، ولا تحسب أن الطريق مروج ومراعي، فأنت طالب العلى، كي يزف لك النصر والتمكين. نصرنا الله وإياكم وسدد الله خطانا آمين يا رب.