بدأ التقويم الهجري (القمري) بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم، من مكة إلى المدينة، في محرم الموافق لسنة 622م، كانت حينئذ هجرة بدين المضطهدين والمستضعفين، للتمكين في دولة المصطفين الأخيار، من الأنصار والمهاجرين، هجرة “جيوتاريخية”، مكانية ومادية، للأبدان في البلدان، لم ولن تتكرر، وهجرة “سوسيوبولتيكية”، مكنونة ومعنوية، دائمة، بُذل فيها الغالي والنفيس، وأبدل فيها الظلم بالعدل، والخوف بالأمن، والعادة بالعبادة. القاسم المشترك بين الهجرتين هو الخروج، ففي الأولى يكون الخروج بالعبادة إلى بر الأمان، وفي الثانية يكون الخروج من العادة إلى بحر الإيمان، والمحفز المباشر لهما توجهه الشجاعة، والإرادة، والعزيمة، والتضحية، وشرطهما الجوهري هو العلم والقدرة، ومقومهما العام هو الشعور والإحساس، والدافع الأساسي لهما هو الارتقاء والتنمية.
يهل علينا هلال عام 1439هـ، عام جديد وعلى عملنا شاهد، عام مضى بالأفراح والأقراح، وباللذات والأتعاب، وبالليالي والأيام، وبالدقائق والساعات، وبالأسابيع والشهور، عقارب الساعة تعمل فينا، تسرق منا الشباب، ويسرع بنا الزمان، وتزين لنا الحياة، ونحن نستبطئ التوبة، ونسوف الهجرة.
الهجرة المكانية: هجرة بالعبادة
إذا كان السلف الصالح من الصحابة، رضوان الله عليهم، قد هاجروا بالدين وبالعبادة، من مكة التي فتنوا فيها، إلى المدينة التي فرحوا فيها، فإنهم قاموا بهذا العمل السامي والمقام العالي، أصالة عن أنفسهم ونيابة عن الأمة، لأن الله تعالى انتدبهم لهذه المهمة الصعبة، لأنهم كانوا أهلا لها، فروا من قدر الله إلى قدر الله، كما قال تعالى: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات، ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا، يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون، ولك أن تتصور لو وكّل لنا هذا الأمر اليوم، ماذا نحن فاعلون؟ ولك أن تسأل التاريخ، ماذا فعل أجدادنا، رحمهم الله، في القدس التي حررها صلاح الدين، وباعها أعداء الدين؟ ماذا فعل الخونة بالأوطان، التي كان حبها من الإيمان، ألم يدخلوا علينا الاستعمار والانتداب والحماية؟ حتى تداعت علينا الأمم لمّا أصابنا الوهن (حب الدنيا وكراهية الموت) والهوى والهوان… ففي الهجرة المكانية قال الصادق المصدوق، صلى الله عليه وسلم، في الحديث المتفق عليه: “لا هجرة بعد الفتح؛ لكن جهاد ونية”، إيذانا منه، عليه الصلاة والسلام، بنهاية الهجرة بالعبادة والدين لأي مكان، لا إلى جبال أفغانستان ولا إلى أدغال إفريقيا، كما هي قاعدة بعض الدعاة اليوم، وإنما اقتضت السنة النبوية، ما يتضمنه الحديث النبوي الشريف، الذي أخرجه مسلم رحمه الله، عن معقل بن يسار عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “العبادة في الهرج كهجرة إليّ”، والهرج هو ما تعيش عليه الأمة اليوم، من اضطراب واختلاط و”اختلاف” وقاتل ومقتول، كلها مؤشرات تؤكد ضرورة استيعاب معاني ومقاصد العبادة، ودعوة صريحة لعودة الأمة إلى دينها “المهجور”. أما القائلون بهجران العبادة والدين، وتركهما وتخطيهما، والتخلص منهما، للالتحاق بالركب الحداثي (الحداثية المذهبية وهي غير الحداثة الفطرية)، التي تنورت بها باريس يوم تخلصت من عبادتها للقيصر والقس والبابا في إمبراطورية الفاتيكان، نعاود القول لهؤلاء، وننبههم أن لا يسقطوا في مزلق “القياس الفاسد”، حينما يقيسون: الدين الإسلامي على la religion أو يخلطون بين تصرفات المسلمين، وتصورات الإسلام. يقدسون العقلانية، ويحتقرون الغيبيات، ويزدرون العبادات، ويطمسون المعالم الدنية باسم المدنية، هؤلاء يُهجّرون العبادة من الأبدان والبلدان، ويفصلون الأرواح عن الأبدان. لا تسمع لما يقولون وانظر إلى ما يفعلون، بل انظر ما فعلت الحداثة في مجتمعهم: سفهت أحلامهم، ولطخت أخلاقهم، وأنكرت أسلافهم، وزادت من أسقامهم، وشوهت وجدانهم… أفبعد هذا، نقتفي آثارهم، في تعاملنا مع العبادة والدين؟ ومع ذلك فإننا لا ننكر هجرانهم للطاغوت السياسي وإنكارهم للاستبداد الديني، وتلك حكمة نجعلها ضالتنا، وهجرة مكنونة ننشدها…
الهجرة المكنونة: هجرة العادة
الهجرة المكنونة، كما أسلفنا الحديث، تحتاج إلى محفز مباشر، الذي أشار إليه حديث الفاروق عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، الذي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه”. متفق عليه، انظر، حفظك الله، إلى البيان اللغوي في هذا البلاغ النبوي، في التوكيد اللفظي لقوله “فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله”، تأكيد على أهمية الهجرة المكانية بالعبادة وخصوصيتها، وأولويتها، فالهجرة إلى الله ورسوله هي أيضا هجرة الاستبداد والفساد والديكتاتورية، وكل ما من شأنه أن ينازع الله في ملكه ورسول الله في أمته، دون أن ينكر، الحديث، الهجرة المكنونة، التي عبر عنها بقوله “فهجرته إلى ما هاجر إليه”، وهي تفيد العموم، فكل يعرف الهجرة التي يجب أن يهجرها، والأعمال التي يجب أن يتركها، والسلوكات والممارسات السيئة الواجب التخلص منها، والعادات التي كبلت الإرادة، والشهوات التي قيدت النفس، والنزوات التي زيفت الإنسان، والرفقة الفاسدة المطلوب مقاطعتها، والمجتمع الأعوج المفروض تقويم اعوجاجه، والدولة الظالمة المنتظر إشاعة العدل فيها.
موانع الهجرة المكنونة، إذن، أحدها ذاتي والآخر موضوعي، أما الموانع الذاتية فترتبط بالإرادة، والهمة، والنية، وصدق العزيمة، ويغلب عليها سيطرة الهوى، وتفشي الأمية، وهيمنة الأنفة، والغرور، والإعجاب بالنفس، واللامبالاة، والتسويف، والفقر، هي مؤشرات مرضية قابلة للعلاج. وأما الموانع الموضوعية فكثيرة الأنواع، ومتعددة الفروع، ومتباعدة الأطراف، ترتبط بالبيئة، وبالواقع المعيش، مبدؤها الصحبة والرفقة التي تزين المشهد وتأثث المظهر، مرورا بالمجتمع الصامت والعاجز، وانتهاءً بالدولة الظالمة والفاسدة، التي جوعت، وفقرت، وجهلت، وأفسدت، واستكبرت.
الهجرة المكنونة، هي الهجرة الدائمة، وهي الهجرة المتجددة، والتي تحدث عنها الحديث النبوي الشريف، فعن معاوية – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: “لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها”. رواه أحمد وغيره. طلوع الشمس وغروبها، آيات من كتاب الله المكتوب وكتابه المنظور، علامات وصوى، ورسائل ربانية، ولطائف إلهية، للعبرة والاتعاظ، غايتها التوبة التي هي تاج الهجرة المكنونة، من يضمن أن لا تطلع شمسه غدا من مغربها؟ فلماذا نسوف التوبة، ولماذا نؤجل الهجرة؟ استمع يا أخي إلى ابن عمر رضي الله عنهما، لما يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك).
وفي الختام، أصغ، رحمك الله، وحفظك، ورعاك، إلى هذه الحكمة من ابن عطاء الله السكندري رحمه الله: (لا ترحل من كون إلى كون، فتكون كحمار الرحى، يسير والمكان الذي ارتحل إليه هو المكان الذي ارتحل منه، ولكن ارحل من الأكوان إلى المكون وأن إلى ربك المنتهى، وانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم: “فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أوامرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه”، وافهم قوله صلى الله عليه وسلم، وتأمل هذا الأمر إن كنت ذا فهم).