النظام التعليمي المغربي وإعادة إنتاج التبعية والتسلط

Cover Image for النظام التعليمي المغربي وإعادة إنتاج التبعية والتسلط
نشر بتاريخ

مقدمة:

يعتبر التعليم رافعة تقدم البلدان واستقرار المجتمعات ونماء الحضارات وازدهار الأوطان؛ فمنه يتخرج العالم والمفكر والفيلسوف والخبير والطبيب والتقني وغيرهم، ومنه تنبع قيم الاستقامة والتربية والوعي الفردي والجماعي، وداخل أسوار مدارسه وجامعاته ومعاهده  تصان الكرامة وتحفظ الهوية وتحمى الذاكرة الجماعية لمتعلم اليوم ورجل الغد؛ هو مصنع رجال ونساء المستقبل بعقول مبدعة وإرادة حرة وسواعد عاملة.

وحري بتعليم هذه أسسه وغاياته الكبرى أن تكون له فلسفة تنطلق من مرجعيات مؤسسة للنهوض والرقي المجتمعي، بما هي قيم متجذرة في الوعي الفردي والجماعي تعكس هوية أصيلة متأصلة تربط صناعة المستقبل بفهم سليم للحاضر الذي لن يتأتى إلا بإعادة قراءة الماضي، لتمييز الإنجازات عن الانحرافات والانكسارات التي ميزت مسيرة الشعوب عبر التاريخ.

إضافة إلى ذلك فالتعليم منظومة لتحقيق التوازن الاجتماعي والمساواة بين أفراده وفئاته، فمن خلاله تتحقق العدالة الاجتماعية، وعبر مساره تتقلص الفوارق الطبقية؛ عندما يستفيد كل أفراد المجتمع من نفس الحظوظ التعليمية ونفس الامتيازات التكوينية ونفس فرص التوظيف والترقي الاجتماعي.

ومن هذه المنطلقات تؤسس المناهج التعليمية على ركائز التحصين القيمي والهوياتي وتنفتح بالمتعلم على آفاق العلم والعلوم واللغات وكل مشارب الفكر والإبداع الإنسانيين، راسمة لخطى التغيير والنهوض وحفز المبادرة والابتكار والتجديد في الوسائل والآليات.

ويبقى رجل التربية والتعليم حجر الزاوية في نجاح هذا النموذج التعليمي المنشود عبر تبوئه المكان اللائق به في ضمير المجتمع، وكفايته همّ المعاش وهموم الحياة  ليتفرغ لجهد وجهاد بناء إنسان معتز بأصالته وهويته، متمكن من ناصية العلم والعلوم الحقة والإنسانية والاجتماعية.

من المؤكد أن هذه الغايات والمرامي لن تصاغ ولن تجد طريقها إلى التطبيق إلا إذا كان النظام السياسي نابعا من المجتمع متماهيا مع طموحاته، يسعى إلى تحقيق العدل السياسي والاقتصادي والاجتماعي. فما حظ نظامنا التعليمي من هذه الأسس والركائز؟ وهل هو نظام يسعى لتحقيق العدالة المجتمعية؟ أم أداة لإعادة إنتاج التسلط السياسي والقهر الاجتماعي  وهيمنة التبعية؟

من تعليم يصنع الحرية إلى تعليم يكرس التبعية

كان التعليم حاضرا في الأجندة الاستعمارية خلال فترة الحماية الفرنسية والإسبانية على المغرب (1912-1956)، وقد امتدت يد المستعمر منذ البدايات الأولى إلى التعليم العمومي المغربي ففصلته على المقاس الذي يخدم الأجندة الاستعمارية، فكان تسطيح الوعي الجمعي للمغاربة وسلخهم من هويتهم ودمغهم بهوية المستعمر وثقافته ولغته حاضرا في السياسة التعليمية الاستعمارية، بل تفتقت عبقرية المستعمر عن خطة تعليمية لتكوين وتدريب خلفائه من بعده.

وبالمقابل، لم يغفل رجال الحركة الوطنية القضية التعليمية من برنامجهم الكفاحي بل كان حاضرا منذ البدايات الأولى لظهور المقاومة السياسية، فكان التعليم الحر بوابة لتكوين أجيال متشبعة بالقيم الإسلامية ومتمكنة من اللغة العربية وتاريخ المغرب والإسلام عموما. فكان من نتائجه أن تغلغل الفكر الكفاحي الوطني داخل الأوساط الشعبية، وظهرت قيادات شابة متعلمة تزعمت العمل المقاوم بكل أنواعه سواء بالقلم عبر المجلات والجرائد داخل وخارج المغرب، أو بالعمل الفدائي المنظم، ولم يجد المستعمر بدا من الرحيل لكن بعد أن اطمأن على خلفه من بعده.

وعوض أن يتصدى خريجو المدرسة الوطنية الكفاحية لتدبير شأن المغرب المستقل، نجح وكلاء المستعمر في النفاذ إلى مختلف دواليب الدولة الجديدة، فأصبحت مهمة النظام التعليمي تثبيت مصالح المستعمر بعد رحيله المادي. وعوض تأسيس التعليم على ركائز الهوية الأصيلة للأمة وقيم التفوق والإبداع للانعتاق والتحرر شرعت الأبواب لثقافة المستعمر ولغته، وأصبحت المدرسة المغربية بشقيها العمومي والخصوصي تحت رحمة سياسة تعليمية تؤسس لهجانة ثقافية واستهداف قيمي، وتوجيه لطاقات المغرب نحو اقتصادي تبعي يغذي أسواق المستعمر بمقدرات المغرب الاستراتيجية وخيراته الطبيعية، ويجعل البلد سوقا خلفية لفوائض الصناعات الأجنبية ونفاياته المادية والمعنوية.

من تعليم شعبي إلى تعليم يكرس التسلط

إن قراءة بسيطة في مضامين المرجعيات المؤطرة للفلسفة التربوية للنظام التعليمي المغربي تجعلك تقف عند غياب واضح لبوصلة موجهة للعملية التربوية والتكوينية، فنجد خليطا هجينا وبلقنة مقصودة في المرجعيات؛ ما بين مرجعية كونية مؤطرة بحقوق الإنسان بمفهومها المستورد، ومرجعية خصوصية ممططة ومففكة لأغراض غير تربوية طبعا. وهذا ما يظهر الخلفية الموجهة لهذا التشرذم الهوياتي بهدف صناعة أجيال مشوشة الوعي بالذات وبالزمن والمجال لغرض الضبط الجماعي عبر قوالب تعليمية جاهزة.

وتأتي المناهج التربوية لتؤدلج العملية التعليمية عوض حفز العلم والتعلم وتشجيع الإبداع والابتكار، فتكرس النمطية وتكبل عقول الناشئة بأوهام سلطوية  وقيود تكبح العقل وتشل الإرادة الحرة وتغذي الوعي بالدونية عبر ترسيخ ثقافة الرعية عوض ثقافة المواطنة الكاملة خاصة في المواد الحاملة للقيم. أما على مستوى النموذج البيداغوجي فيسجل المتصفح غياب رؤية واضحة، بل يلاحظ تجميعا تلفيقيا لعدد من البيداغوجيات على مستوى الشعارات دون أن تجد منفذا إلى واقع مثقل بالإكراهات المؤسساتية والبشرية والتقنية.

وفي الوقت الذي تعزز فيه الدول الصاعدة حضورها في سباق العلم والاقتصاد بتقوية لغاتها الوطنية والانفتاح على لغات العلم والتكنولوجيا والاقتصاد، يكرس النظام التعليمي المغربي لغة المستعمر شبه الميتة في العالم زاحفا على اللغات الوطنية ومهمشا للغات الحية في العالم.

وعوض تكريس المساواة الاجتماعية في الاستفادة من التربية والتعليم والتكوين تم تنظيم القطاع لإعادة إنتاج التفاوت الصارخ بين الطبقات الاجتماعية، عبر الترويج للقطاع الخاص والاتجاه نحو تقليص المجانية واستهداف المدرسة العمومية في المخيال الشعبي وحرمانها من خيرة أطرها عبر الإعفاءات التعسفية والترسيب الانتقامي لكل غيور على هذه المنظومة، إضافة إلى تسفيه دور الجامعة والترويج لتكوين مهني يخرج سواعد عاملة فقط دون عقول مفكرة مبدعة.

وقد نال رجل التربية والتعليم حظه الوافر من هذا التنقيص عبر الاستهداف المعنوي بجعله مادة للتنكيت والتنقيص الاجتماعي، وأيضا عبر الاستهداف المادي برهن حريته وقدراته وتركيزه بهموم المعاش وشرك القروض البنكية، وتقييد حرياته النقابية والسياسية، والأدهى اعتماد نظام التعاقد في تشغيله، لينسحب من ميدان التربية والتعليم لصالح أدوات التخريب الاجتماعي التي تسهل السبل والطرق للفتك بزهرات شباب الوطن أو الدفع بهم نحو ركب المجهول في قوارب الموت أو الرمي في غياهب السجون كل من بقيت فيه جذوة عزة وكرامة ينافح بها عن قضايا الوطن والمواطنين.