النسق السياسي المغربي بأعين “مقدس” 19

Cover Image for النسق السياسي المغربي بأعين “مقدس” 19
نشر بتاريخ

النسق السياسي

يعرف البعض النسق السياسي بأنه عبارة عن نسق يتعلق بالسلطة السياسية، ويتكون من عدة أجزاء (المؤسسات الرسمية وغير الرسمية) تترابط فيما بينها، ويتفاعل هذا النسق مع البيئة (الداخلية والخارجية) بما يؤدى إلى بقائه واستمراره. وهدف أشخاص النسق هو البقاء في السلطة أو بقاء النظام السياسي لأطول فترة ممكنة؛ أي تحقيق الاستقرار السياسي، ولا تحصل هذه الغاية إلا بتكيف النظام مع البيئة المحيطة به والتفاعل معها.

وإذا كان النظام السياسي هو مجموعة من المؤسسات السياسية المتناسقة، فإنه لا يعدو أن يكون عنصرا في مجموعة واسعة تشمل – بالإضافة الى المؤسسات السياسية – البنيات السوسيو- اقتصادية والتقاليد التاريخية والقيم… هذه العناصر كلها بمجموعها هي التي تشكل النسق السياسي.

“مقدس”

كلمة “مقدس” هي الاسم المختصر للمجلس القطري للدائرة السياسية لجماعة العدل والإحسان، تيمنا ببيت المقدس، أولى القبلتين وثالث الحرمين، وزئبق حرارة عزة الأمة الإسلامية، فمتى ارتفعت حرارة العزة في جسم الأمة كان بيت المقدس في حضنها، ومتى انخفضت صار بيت في يد أعدائها، صليبيين وصهاينة.

ويعتبر “مقدس” أعلى هيئة تقريرية في عمل الدائرة السياسية، وتعد مخرجاته زبدة نظرة الجماعة للشق السياسي، تشخيصا للواقع وإنتاجا للرؤى والمقترحات الآنية والمستقبلية. وقد عقد المجلس القطري للدائرة السياسية لجماعة العدل والإحسان دورته التاسعة عشرة، يومي السبت والأحد 2 و3 صفر 1437هـ الموافق 14 و15 نونبر 2015م. وحملت هذه الدورة اسم دورة علي سقراط رحمه الله). وتناولت محاور عدة كان أبرزها التقريرين التنظيمي والسياسي، وقضايا الأمة ودور الجماعة في الدفاع عنها، إضافة إلى عرض ونقاش البرنامج السنوي، كما تخللتها فقرات مفتوحة ونفحات ربانية.

خصائص النسق السياسي المغربي

ركز التقرير السياسي لـ”مقدس” لهذه الدورة على تحليل الأوضاع والسياقات الدولية والاقليمية والمحلية في مختلف المجالات بلغة دقيقة وتحليل عميق، مما يجعل هذا التقرير وثيقة مهمة في يد السياسيين للوقوف عند تشخيصها للواقع المتردي ومقترحاتها لتجاوزه، كما أنه مادة خام للباحثين والأكاديميين المعنيين بالشأن السياسي المغربي، محليين أو أجانب، للاطلاع على حقيقة الأوضاع بالبلاد، كما تعتبر هذه الوثيقة إسهاما من الجماعة في إثراء النقاش حول المغرب الممكن.

لقد حدد التقرير السياسي لهذه الدورة خصائص مهمة للنسق السياسي المغربي، ووصفه بأوصاف دقيقة بعيدة عن تلك التي يرمي بها الخطاب الرسمي المزيف للحقائق، وبعيدة عن نظرة التحامل والتبرير السلبي للموقف السياسي. ولعل أهم تلك الصفات:

– صفة الانغلاق: حيث إن اتجاه النظام السياسي المغربي إلى تقوية جوهره الاستبدادي وتقليص كل الهوامش المتاحة يُحوّله إلى نظام سلطوي مغلق متحكم في كل تفاعلاته السياسية من خلال واجهة ديمقراطية مزيفة)، فضلا عن التمادي في حصار المعارضة الجادة وحرمانها من حقوقها المشروعة في التنظيم والإعلام والمجال العمومي لدرجة صار معها التضييق عليها من مسلمات السياسة المخزنية، سواء منعا أو تهميشا أو قمعا). ولا شك أن هذه الصفة تدفع بالمشهد السياسي المغربي إلى اكتساب صفة الاختناق، المفضية بدورها إلى الانفجار، خاصة في ظل وجود ملفات حارقة كثيرة.

– صفة الاحتكار: وتتجلى هذه الصفة في احتكار النظام المخزني لتدبير الملفات الأساسية ووضع السياسات الكبرى، فسواء على مستوى السياسة الداخلية أو الخارجية يظل القصر هو المُوجِّه لكل شيء، في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية والأمنية والخارجية، بصفة مباشرة وغير مباشرة، بحكم الدستور والممارسة بعيدا عن أية رقابة أو محاسبة). أما المؤسسات المنتخبة فهي لا تعدو أن تكون شكلية، فسلطة الحكومة لا يمكنها أن تستمر وتعمل إلا تحت إمْرة الملك. أما البرلمان فما زال غرفة تسجيل بعيدة عن سلطة تشريعية حقيقية، وما يشهده من سجالات عقيمة تدل بالملموس على أنه تحول إلى ساحة للمبارزة الكلامية الفاضحة لنخب تعلم أن السلطة الوحيدة الموجودة هي للملك).

– صفة السلطوية: حيث تبين ممارسات النظام السياسي المغربي نزعته إلى التحكم والانفراد وتثبيت السلطوية وإضعاف الأحزاب وتهميش الشعب وصناعة قوانين ومؤسسات على مقاسه فاقدة لأي شرعية شعبية وجدوى عملية واستقلالية حقيقية وقدرة على الإنجاز بدون رضى المخزن). وهذا ما يجعل الانتخابات بمختلف أشكالها تصطبغ بصفة الإلهاء، فهي لا تعدو أن تكون ملْهاة يشغل بها النظام الحاكم عموم الشعب ويُعيد من خلالها توزيع المناصب على خدامه الأوفياء ويلمع بها صورته داخليا ويروج لمقولاته خارجيا).

– صفة المركزية: على عكس الخطاب الرسمي الرائج حول الحكامة والجهوية الموسعة، فإن المركزية تظل الصفة المميزة للنظام السياسي المغربي، ولا أدل على ذلك من الانتخابات الجماعية والجهوية الأخيرة، حيث مَثَّلت هذه المناسبة لحظة جديدة لكشف المركزية المفرطة للنظام المخزني بعد إفراغه للامركزية من محتواها).

ملفات حارقة

إن نسقا سياسيا هذه أوصافه، لن يظل بالطبع جامدا، بل هو في سيرورة مستمرة نحو الانفجار، خصوصا أن هذه الخصائص أفرزت ملفات حارقة تنتظر شرارة تزيد الأوضاع اشتعالا، وبالتالي تهديد استمرار هذا النسق بشاكلته الحالية. وعوض معالجة اختلالات النسق السياسي البنيوية يلجأ القيمون عليه إلى وسائل أخرى؛ مثل المناورة والالتفاف والتنفيس وصناعة أحداث ملهية. ومن الأكيد والمؤكد أن هذه الوسائل لن تنجح في تجاوز هذه الاختلالات بقدر ما تؤجل انفجارها لا غير. ويمكن تحديد الملفات الحارقة حسب “مقدس” في ثلاثة كبرى:

– ملف الحقوق والحريات: إذ لم يعد خافيا على أي متتبع مدى الانحدار الذي وصل إليه وضع الحقوق والحريات في المغرب، حيث صار باديا للعيان حجم الانتهاكات التي ترتكبها السلطات المغربية ضد عموم الشعب، وخاصة ضد المعارضين للنظام، وهو ما كان موضوع تنديد دولي، إذ أجمعت التقارير الحقوقية الدولية والمحلية على ارتفاع حدة الاعتداءات المخزنية ضد حقوق الأفراد والجماعات بأنماط متعددة ومتكررة).

ويظهر التردي أيضا في مسودة القانون الجنائي، الذي من المفروض أن يكون سياجا للحقوق والحريات وضمانة للمحاكمة العادلة، حيث يغلب على هذه المسودة تغول سلطات الاتهام والإخلال بالتوازن الواجب بين جهاز النيابة العامة وجهة الدفاع، في إطار مبدأ التوازن بين طرفي الخصومة الجنائية، إذ تم اللجوء إلى تبني منظومة الاختراق كآلية لملاحقة الجريمة في غياب البنية البشرية المؤهلة علميا وأخلاقيا لتنزيل مثل هذه المنظومات، واللجوء بشكل مكثف للإجراءات القسرية التي تستبعد شرط رضا الأشخاص، وشرعنة الاعتقال التحكمي بعدم احتساب المدة التي يتطلبها نقل المحتجز من مكان إلقاء القبض إلى أماكن الحجز ضمن مدة الحراسة القضائية).

– الملف الاجتماعي: فالوضع الاجتماعي اتسم بتصاعد التوتر وتنامي الاحتجاجات القطاعية، كان أبرزها احتجاجات طلبة كليات الطب والأطباء الداخليين وطلبة المراكز الجهوية للتكوين إضافة إلى الاحتجاجات التي عمت مدن الشمال على الغلاء الفاحش في أثمنة الماء والكهرباء والاستهداف الفظيع من قبل الشركات الأجنبية لجيوب المغاربة بتواطؤ مفضوح من قبل السلطات المخزنية، وبسبب استمرار الدولة في الضغط على الوضع الاجتماعي بحثا عن التوازنات المالية على حساب التوازنات الاجتماعية، وقد تجسد ذلك في الزيادات في الأسعار وتقليص فاتورة صندوق المقاصة فضلا عن ضعف الخدمات، بل تهاويها، خاصة في مجالي الصحة والتعليم، ويضاف إليه انفراد الحكومة بملف إصلاح أنظمة التقاعد ضدا على إرادة عموم الشغيلة المغربية والإطارات النقابية. وهذا ما أفرز تدهورا مستمرا في الأوضاع المعيشية والقدرة الشرائية لفئات واسعة من المغاربة، خاصة الطبقات الوسطى والفقيرة).

ويبقى قطاع التعليم أبرز تجليات الأزمة الاجتماعية. فرغم سلسلة الاجراءات المتخذة من تدابير ذات أولوية) أو تقارير الرؤية الاستراتيجية)، إلا أنه ضاعت المردودية في مختلف الأسلاك التعليمية ويظهر ذلك في تقلص بنيات استقبال التلاميذ في طور التعليم الأولي على نحو يجعل ما يقرب من 36% من هؤلاء التلاميذ خارج الاحتضان المدرسي في هذه السن المصيرية، وكذا في ضعف ولوج التعليم الثانوي الإعدادي، حيث إن 31% من الأطفال القرويين لا يتمكنون من ولوج هذا التعليم و70% من أطفال القرى المغربية لا يصلون التعليم الثانوي التأهيلي أيضا). دونما إغفال لمعضلة السياسة اللغوية التي كذبت كل الشعارات المرفوعة في قضية تعريب التعليم. كما أن المدرسة المغربية افتقدت إلى وظيفتها التربوية القيمية، خصوصا أمام التردي الأخلاقي الفظيع، وانتشار كل أنواع العنف والميوعة في الوسط المدرسي.

وإذا كانت الأزمة الاجتماعية قد لامست مختلف الفئات الاجتماعية، فيمكن اعتبار المرأة الضحية التي نالت الحظ الأوفر من تداعيات هذه المنظومة المختلة، حيث تصاعدت وتيرة العنف ضد المرأة بمختلف أشكاله، وارتفعت نسبة الطلاق مقابل تراجع نسب الزواج، وتزايدت نسب الأمية في صفوف النساء، إضافة إلى ضعف خدمات الرعاية الصحية، خاصة تلك المرتبطة بالصحة الإنجابية، أما حالات الحمل غير الشرعي، وعدد الأبناء خارج إطار مؤسسة الزواج، ومعدلات الإجهاض، ونسب الدعارة، ومآسي خادمات البيوت واستغلال القطاع غير المهيكل للنساء بأجور زهيدة، فحدث ولا حرج.

– الملف الاقتصادي: لم يتجاوز النمو الاقتصادي، منذ متم 2011، في المتوسط %4، وهو معدل لا يمكن من التنمية الاقتصادية المستدامة. أما قطاع الفلاحة فبعد سنوات من تطبيق مخطط “المغرب الأخضر” وصرف ملايير الدراهم لم تتجاوز المساحات المغطاة ٪44 مما هو مستهدف من مشاريع في الدعامة الأولى. أما الصيد البحري وإن عرف رقم المعاملات ارتفاعا بنسبة %5,13 بفضل التصدير، فإن تراجع الكميات المصطادة بنسبة %8,12 يبرز استنزاف الموارد البحرية سنة بعد أخرى. أما قطاع الاتصالات فهو بدوره تميز بانكماش في حجم السوق نظرا لتعدد العروض والانخفاضات المتتالية في التسعيرات والأثمان، والرفع من مساهمة الشركة الفرنسية ORANGE في رأسمال MEDITELCOM من %40 إلى %49. أما قطاع البناء والأشغال العمومية فإن أهم ما طبعه السلوك الانتظاري للمستثمرين وضعف مستوى قروض العقار وتراجع الأثمنة، ليبقى سوق البنيات التحتية المحرك الرئيس للقطاع . في حين عرفت السياحة في الأشهر الستة الأولى من 2015 تراجعا على مستوى مداخيل الأسفار ب %6,8 وانخفاض السياحة الخارجية بـ%1,1 مقارنة مع نفس المدة من السنة الفارطة، متأثرة خصوصا بانخفاض الطلب الفرنسي ب %7… إضافة إلى ملفي صندوقي المقاصة والتقاعد اللذين لا تزال المقاربة الأحادية والتجزيئية في حلهما هي سيدة الموقف.

ما المخرج؟

بعد التشخيص الدقيق للواقع المغربي في مختلف مجالاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، جاءت مقترحات الحل بنفس القوة والغيرة الوطنية الصادقة بعيدا عن المناكفات السياسية. ولن يكون المخرج سوى الانخراط في اللقاء الموضوعي بين شرفاء البلد والعمل الواعي والإرادي على توفير شروط التغيير… حوار شامل وصريح من أجل إزالة العقبات وبناء صرح الثقة)، وهي خطوة كبيرة في مسار بناء جبهة موسعة للتغيير الحقيقي بالمغرب وتحقيق آمال الملايين من أبناء شعبنا التواقين للتحرر من الاستبداد والفساد، والعيش في دولة الحرية والكرامة والعدل).

مصدر الاستشهادات: ملخص التقرير السياسي للمجلس القطري للدائرة السياسية لجماعة العدل والإحسان المنشور في موقع الجماعة نت.