الميثاق السياسي والمسألة الدستورية في الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان (1)

Cover Image for الميثاق السياسي والمسألة الدستورية في الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان (1)
نشر بتاريخ

تناولت الوثيقة السياسية للجماعة المسألة الدستورية في المحور السياسي، وأكدت على أهمية الميثاق والتوافق السياسي لإنجاز دستور ديمقراطي، كمدخل استراتيجي لتحقيق نظام سياسي قائم على سلط حقيقية ومستقلة ومتوازنة ومتعاونة، وعلى مؤسسات مدنية فاعلة ومبادرة، من أجل إرساء دولة العدل؛ وهي دولة مدنية 1 قائمة على حكم عادل ومنضبط للتعاقد الدستوري المنبثق عن الإرادة الشعبية، وهي الدولة التي ينبغي أن تنضبط لمجموعة من المبادئ كما نصت على ذلك الوثيقة:

– مساواة الجميع أمام القانون، حكاما ومحكومين، وحماية حقوق وحريات كل المواطنين بواسطة نص الدستور والمؤسسات والآليات القانونية والقضائية، التي تسمح بمواجهة كل شطط من شأنه المس بالحقوق والحريات.

– جعل كرامة الإنسان في المقام الأول، فلا معنى لوجود حرية وديمقراطية سياسية في ظل استعباد اقتصادي واجتماعي للمواطن بدعاوى مختلفة.

– جعل التعددية السياسية أساس العمل السياسي، مع ما يتطلب ذلك من ترسيخ لثقافة القبول بالآخر مهما كانت الاختلافات والتباينات. فالوطن يسع جميع أبنائه، وثقل تركة الاستبداد يفرض على كل الغيورين أن يمدوا أيديهم لإنقاذ هذا الوطن والنهوض به من جديد.

– تحييد المساجد والمؤسسات الدينية عن الصراع الحزبي والانتخابي، ومنع احتكارها وتوظيفها لتبرير التسلط من قبل الدولة ومؤسساتها الرسمية، مع ضرورة تأطيرها وتنظيمها لجعلها مجالا للمجتمع وقواه الدعوية والعلمية والمدنية.

نستهل تحليل ثنائية الميثاق السياسي والمسألة الدستورية في علاقتهما بتحقيق النظام الديمقراطي بهذا الاقتباس من الوثيقة السياسية، الذي نصه كما يلي: “نستحث الفاعلين والتيارات والأحزاب على توسيع مساحات التوافق بحثا عن تلاقي إرادة الشعب بإرادة نخبه الحية. إننا نروم هنا استبعاد وتجاوز منطق الغلبة والاكتساح الذي تتيحه الآلية الانتخابية حين يختار الشعب الجمعية التأسيسية المكلفة بوضع الدستور، ونطمح أن تبحث القوى عن أفضل السبل وأنجعها للوصول إلى » هيئة منتخبة «تحظى بأوسع قدر من التوافق، يجد الجميع فيها ذاته وتشكل اختيارا ينتصر لكل المغاربة. ولعل من الصيغ الممكن التوافق عليها تقديم مرشحين مشتركين للجمعية التأسيسية 2.

بهذا المنطلق لا تنفك رؤية الجماعة للمسألة الدستورية عن ثنائية الدستور والتوافق السياسي؛ لتلتقي إرادة الشعب بتطلعات نخبه، بعيدا عن أسلوب الاحتكار والغلبة الذي قد تفرضه الديمقراطية العددية، وما يفرزه هذا المنطق التغلبي من توترات وارتدادات، قد تعصف بمسار البناء الديمقراطي خاصة في المراحل الانتقالية، الشيء الذي أثبتته التجارب السابقة والمعاصرة، ولنا في تجارب ما بعد ربيع 2011 دروسا وعبرا مثلى.

لذلك تقترح الوثيقة السياسية مدخل الميثاق السياسي، بما يقتضيه من البحث عن المساحات المشتركة عبر الحوار البناء في أفق ترسيم توافقات وتسويات وتفاهمات تشكل إطارا مرجعيا بمثابة ميثاق سياسي، يترجم المبادئ المؤسسة.

وبالرجوع إلى الوثيقة السياسية نستخلص أنها ركزت على عنصريين أساسيين بخصوص علاقة الدستور الديمقراطي ببناء دولة العدل، ويتعلق الأمر بأهمية التعاقد من خلال ميثاق سياسي يعبر عن إرادة التوافق (الفرع الأول)، ويتعلق الأمر الثاني بالسلطة التأسيسية الجماعية كمدخل جوهري للدستور الديمقراطي (الفرع الثاني).

الفرع الأول: الميثاق السياسي إطار مرجعي جامع

تركز مختلف التجارب التاريخية على أهمية التوافق السياسي في صياغة الوثائق الدستورية الانتقالية، التي تعبر عن إرادة التوافق بين مكوناتها، على اعتبار أن هذا الدستور حينها يشكل ميثاقا سياسيا، يترجم إرادة أطرافه في بناء مستقبل الديمقراطية، فماهي مقترحات الوثيقة السياسية لعقد هذا الميثاق الجامع؟

يعرف الميثاق لغة بأنه: العهد والاتفاق، والتوثيق والضبط. موثوق فيه أي عدل حاز الثقة. والميثاق على وزن “مِفْعالٍ” اسم آلة وأداة لبناء الثقة. أما في الاصطلاح السياسي، فيقصد به التوافق بين مكونات مجتمعية على أساس المشترك 3 والمتفق عليه.

وفي هذا الإطار تقترح الوثيقة السياسية في مسلسل صياغة دستور ديمقراطي مجموعة من المقترحات، منها صياغة ميثاق جامع عن طريق الحوار والتوافق، يعبر عما أسمته الوثيقة بـ”الرؤية الاستراتيجية” التي يمكن الاصطلاح عليها بـ”وثيقة المبادئ فوق الدستورية”.

يتعزز هذا المقترح باستحضار التجارب الناجحة في التوافق السياسي وأهميته في تحقيق الانتقال السلس، ومنها اتفاقية “لامنكلوا” في التجربة الإسبانية الملهمة التي يمكن اعتبارها مثالا نموذجيا في هذا الإطار، وقد ساعدت هذه الاتفاقية في خلق سلم اجتماعي حقيقي مكن من تحقيق قفزة اقتصادية حقيقية 4.

كما أن التوافق السياسي بين أطراف الميثاق يجعل من النص الدستوري مادة حيوية مؤطرة لكل مسار ومراحل الانتقال 5 ولا يصبح بذلك عمل أفراد بل عمل مؤسسات، وهذا ما يستشف من تحليل Camau Michel عندما قال بأن: “الأطراف السياسية للانتقال الديمقراطي تضع الشرط القانوني باعتباره أولوية الأجندة السياسية، ومن ثم فهي تجعل عمل الانتقال ليس مجرد عمل أشخاص حاملين لفكرة الانتقال ولكن أيضا عمل مؤسسات” 6.

وهذا ما يكرس مبدأ الاتفاقية الدستورية حيث يعتبر Pierre Avril أن الدستور “لا يختزل في القانون المكتوب 7، لأن الدستور في هكذا سياقات لم يعد نصا نظريا منتجا لسلوكات إكراهية، بل هو مرتبط بطبيعة السياق السياسي الذي أفرزه، ورهان الأطراف السياسية التي أنتجته، وهذا ما أكدته لنا التجارب المقارنة، ومنها التجربة الإسبانية 8.

وتبين لنا هذه التجربة المتميزة، أهمية الدستور الإسباني التوافقي لسنة 1978 في إنجاز الانتقال الديمقراطي السلس، من خلال إشراك جميع الأطراف في صياغته، والذي جاء نتيجة تعاون بين مختلف الحساسيات السياسية، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، مقارنة مع باقي الدساتير التي شهدتها إسبانيا في الماضي 9.

وبهذا الصدد، فقد سعت حكومة أدولفو سواريث إلى إشراك جميع الحركات السياسية في مشروع تحرير بنود الدستور لتحقيق الإجماع وتفادي فشل الدساتير السابقة التي بلغت 12 دستورا منذ بداية القرن 19، انتهت كلها بالفشل 10.

وارتباطا، دائما بالتجارب المقارنة، تقدم تجربة جنوب إفريقيا نموذجا متميزا لمسلسلات الدمقرطة، حيث اتضحت أهمية وأولوية المدخل الدستوري في معادلة الانتقال، وهو ما أسس لنقاش مؤسساتي قادر ليس فقط على تحقيق لحظة الانتقال الديمقراطي، ولكن الارتقاء بمسلسل الدمقرطة إلى مستوى التدعيم 11.

يتأكد مما سبق أهمية فكرة الميثاق كما اقترحتها الوثيقة السياسية وعززتها التجارب المقارنة، هذا الميثاق السياسي الذي يشكل آلية لتأطير مسار إنتاج القواعد الدستورية، ولصياغة وثيقة دستورية توافقية، تعيد تشكيل فلسفة النظام السياسي والعلاقة بين السلط وفق جغرافية دستورية جديدة مؤسسة لأركان النظام السياسي الجديد المتفق بين مكوناته حول شكله ومضامينه، وهي وظيفة الدستور التي تكمن في “مأسسة الحياة السياسية بما يعني ذلك من إرساء بنيات وآليات لتنظيم وتأطير ممارسة السلطة والصراع للوصول إليها” 12.


[1] تعرف الوثيقة السياسية الدولة المدنية “بكل ما يعنيه ذلك من بعد عن طبيعة الدول التيوقراطية والعسكرية والبوليسية، دولة القانون والمؤسسات القائمة على الفصل والتوازن والتعاون بين السلطات، وعلى التداول السلمي للسلطة من خلال انتخابات حرة ونزيهة ومنتظمة وفعالة، دولة تسعى عبر مؤسساتها وبرامجها إلى مشاركة المواطنين في الحياة العامة، مع خضوع مسؤوليها للمحاسبة والمساءلة بغض النظر عن مكانتهم السياسية ومواقعهم الاجتماعية” ص: 34.
[2] الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان، ص: 38.
[3] GHASSAN SALAME : “Démocratie sons démocratie”, paris fouyord, 1994, p: 56.
[4] مجدوبي حسين: “الانتقال الديمقراطي في إسبانيا”. وجهة نظر عدد 17، 2002، ص: 37.
[5] Raluca Grosescu : «Une analyse critique de la transitologie, Valeur heuristiques», Roomanian Political Science Review,  vol.XII, n°3, 2012, p :13.،
[6] Camau Michel : « Trois Questions Apropos de la Démocratisation dans le monde arabe » in, Démocratie et démocratisations dans le monde arabe, Dossier le CEDEJ,le caire1992 , p :44.
[7] “Avril Pierre : «les conventions de la constitution _normes non écrit du droit politique», ed, press universitaires de France, octo,1997, p:2.
[8] جوردي سولي تورا: “تجربة الانتقال الديمقراطي بإسبانيا”، دفاتر الشمال، ربيع 1997، العدد2، من ص: 5 إلى ص: 31.
[9] مجدوبي حسين: “الانتقال الديمقراطي في إسبانيا”، مرجع سابق، ص: 37.
[10] المرجع نفسه: ص: 37.
[11] أتركين محمد: “الميثاق السياسي بجنوب إفريقيا وميلاد دستور صك الحقوق”. وجهة نظر عدد 17، خريف 2002، ص: 33.
[12] Ardant Philipe : “institutions politiques et Droit constitutionnelle”, 16éd, LGDJ, éd Delta, 2004, p: 1.