المنهاج النبوي والبحث عن المعنى

Cover Image for المنهاج النبوي والبحث عن المعنى
نشر بتاريخ

التفتيش عن المعنى والسؤال عنه كان أحد شواغل الأستاذ ياسين، كان أحد أسباب بناء نظرية المنهاج النبوي، تمهيدا لما يمكن أن نسميه العالمية الخاتمة الخلافة على منهاج النبوة)، على اعتبار أن افتقادنا للمنهاج في التاريخ والواقع معناه افتقادنا لخيط المعنى ودخولنا دائرة العبث وقبولنا بالهزيمة النفسية تجاه تيار الاستبداد والفساد وانحدارنا في سلم القيم والذوق وتطبيعنا مع الانحطاط..

ولم يكن ثمة شيء أقسى على فكر الأستاذ ياسين من مضي العقل المسلم في تبرير العبث وتقبله وتقمصه والتنافس فيه وتزيينه، وبالقدر الذي كان فيه تطلعه لعودة المعنى) لهذا العالم الذي بات محكوما باللامعنى سببا في قومة الأستاذ الفكرية والتربوية والجهادية، فقد كان رفضه التسليم ومساكنة الجمود والتخلف بجميع مظاهره أحد محركات نهضته التجديدية ضدا على التقليد ومشاريع التبعية والتبليد التي ورثها لنا الاستخراب، يقول الأستاذ عبد السلام ياسين: لا معنى لرفضنا لاحتلالهم أرضنا ونهبهم خيراتنا ما دمنا نبيح لهم احتلال عقولنا ونفوسنا وحاضر واقعنا وآمال مستقبلنا)[1].

التخلص من احتلال العقول والنفوس مقدمة ضرورية للتخلص من احتلال الأرض..لأن احتلال العقول والهيمنة عليها ارتهان الوجود كله حاضره ومستقبله في قبضة الآخر وسيطرته..

من الآثار التدميرية لاحتلال العقول ما خلفته من حالة انبهار نفسية أمام الفورة التكاثرية الغربية، أمام حضارة الأشياء)[2] التي أفقدته تعقب المعنى الحقيقي، ينبهنا الأستاذ ياسين إلى أنه لا ينبغي أن يغرنا ما بناه غيرنا من ناطحات سحاب علومية مبعثرة متناثرة لا يربطها مشروع إنساني، لأن الإنسان لا معنى له عند غيرنا إلا أنانية القوي واستهلاكية الثري، ولذة الواجد، وموت الفاقد)[3].

أنانية و استهلاك ولذة و موت…تبدأ بـ”الأنا” وتنتهي بـ”الفنا”..وبينهما استهلاك نهايته”هلاك”.

جزر العلم الحديث التي صنعت حياتنا”الباردة” وتضاريسها المتطاولة، امتدت على كل التفاصيل إلا الجزء الذي يهتم بالمعنى من الوجود فقد تجاهلته بقسوة وعنجهية، ..من مدة اتهم “هوسرل” العلم حين اعتبره يفتقر إلى الجواب عن أسئلتنا، فالمسائل التي استبعدها مبدئيا هي بالضبط المسائل الشائكة جدا في عصرنا التعس في سبيل إنسانية مستسلمة لاضطرابات المصير: إنها المسائل التي تتناول معنى هذا الوجود البشري أو غياب هذا المعنى)[4].

المعنى يوجد عند الأستاذ ياسين في “الإنساني” و”الفطري” كما يوجد بالأصالة فيما هو “روحاني”، ولا يمكن أن يوجد المعنى في “التقنية” الصارمة والدقيقة، لأن التقنية لا يعنيها مطلقا “معنى الحياة” كما يقول جاك إلول[5] وترفض أن يكون لها علاقة بالقيم، ولا تقبل أي حكم قيمي على أنشطتها.

كان الأستاذ ياسين يرى -رحمه الله- أن الإنسان المومن يجب أن يهتم قبل التحليل التاريخي الأرضي بِمعرفة المعنى لما يجري، هذا المعنى الذي لا يمكن أن يجده إن هو أغلق مسامعه وحواسه عن الجوانب المعنوية من الحقيقة الدينية والطاقات العاطفية والإرادة البشرية وتأثيراتها في السلوك البشري[6].

يبدأ سؤال المعنى في فكر الأستاذ ياسين وفلسفته من الحفر في طبقات تاريخ التواصل الأول بين السماء والأرض، بين المطلق والنسبي، تواصل كان يستهدف أول الأمر مخاطبة الفطرة، مخاطبة “المعنى الإنساني” الذي هو القلب، فقد جاءت دعوة الرسل وخطاب الله عز وجل عباده في القرآن، كلها تعتمد على إثارة كوامن الإنسان، التي خلقها سبحانه قبل العقل ومن وراء العقل وفوق العقل في طيات الكائن البشري، حتى يميل المعنى الإنساني المسمى قلبا إلى “سماع” الحق[7].

[1] – ياسين، عبد السلام. سنة الله، الدار البيضاء: النجاح الجديدة، ط1، 2005، ص44.

[2] – ياسين، عبد السلام. التنوير،م.س،2/247، حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، الدار البيضاء: مطبوعات الأفق، ط 1، 1994، ص43، إمامة الأمة، دار لبنان للطباعة والنشر، ط1، 2009، ص274.

[3] _ ياسين، عبد السلام. محنة العقل المسلم، مؤسسة التغليف والطباعة والتوزيع للشمال،د.ت، ص124.

[4] _Edmund Husserl, La Crise des Sciences européennes et phenomenologie transcendantale, trd Gerard Cranel, Gallimard;1976, p10.

[5] _ جاك، إلول. خدعة التكنولوجيا، ترجمة فاطمة نصر، القاهرة: مكتبة الأسرة، ص167.

[6] – ياسين، عبد السلام. العدل، الإسلاميون والحكم، الدار البيضاء: مطبوعات الأفق، ط1، 2000، ص452.

[7] – ياسين، عبد السلام. القرآن والنبوة، دار لبنان للطباعة والنشر، ط1،2010، ص 24.