المنبر والسياسة

Cover Image for المنبر والسياسة
نشر بتاريخ

في كل يوم جمعة يكون المسلمون على موعد مع عيد المومنين، عيد يتجدد كل أسبوع، أهم مظاهره تتجلى حينما يحل وقت خطبة وصلاة الجمعة، حيث يفد المصلون على المساجد الجامعة أفواجا تترا، وترتفع أصواتهم بالقراءة الجماعية للقرآن، وربما قرأ الواحد وأنصت الباقون، حتى إذا دخل الخطيب واعتلى المنبر ذكَّر المسمع المصلين بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن الإنصات وتحاشي اللغو، ثم يشرع الخطيب في الخطبة بعد الأذان، و موضوع الخطبة بيت القصيد من هذا المقال، فقد وجهت توصيات بل تعليمات في عدة اجتماعات ولقاءات لوزارة الأوقاف بالأئمة والخطباء والوعاظ، وربما بلغ الأمر إلى إرسال مذكرات تلزمهم الابتعاد في خطبهم ووعظهم عن كل ما هو سياسي، إلى درجة تسخير السلطات المحلية في كل منطقة من هذا البلد لرفع تقارير كل يوم جمعة عن موضوع الخطبة إلى الدوائر الأمنية، حتى إن من الخطباء من يُطالَب بمد ممثل السلطة بمواضيع خطبه لجُمع كل شهر، أو موضوع كل جمعة، وكل خطيب تجرأ في خطبته أو خطبه على معالجة المواضيع ذات الصبغة السياسية أو ورد فقط في ثنايا خطبته كلام سياسي أو ما يفهم عنه ذلك إلا واستدعي من قبل السلطة للاستفسار والتوضيح، وعادة ما تنتهي جلسة الاستماع له بإلزامه العدول عن السير في هذا الطريق، وأحيانا تنتهي بالزجر والتوبيخ والتهديد بالتوقيف أو الطرد إن هو أعاد الكرة.

لكنه إن كان لزاما على الخطباء الكف عن المواضيع السياسية بدعوى تطهير المنابر وتنزيهها عن السياسة وشوائبها و هلم جرا من المبررات، فهل معنى هذا أولا أن السياسة ليست من الدين؟ فإن كان الجواب نعم، فهذه علمانية واضحة، وإلا ففي أي مجال يصنف ثالث عمل قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما هاجر إلى المدينة والمتمثل في الوثيقة التاريخية التي أبرمها بين المسلمين ويهود المدينة؟ أليست وثيقة سياسية بنى عليها علماء الشريعة قواعد وأحكاما؟ أليس صلح الحديبية تصرفا سياسيا؟ أليس اجتماع المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة لاختيار خليفة رسول الله من السياسية؟ أليست البيعة وما يتعلق بها من السياسة؟ أليست فتوى إمامنا مالك رضي الله عنه بعدم جواز طلاق المكره فتوى سياسية محضة…

جميل جدا أن نتمذهب بالمذهب المالكي، لكنه قبيح وفظيع جدا أن نجعل المذهب المالكي عضين، نحكم منه ما تهوى الأنفس ونرد ما يخالف هواها.

إن السؤال الذي يطرح ذاته هاهنا وهو أنه إن كان لزاما على الخطباء الكف عن المواضيع السياسية بدعوى تطهير المنابر وتنزيهها عن السياسة فلم ترسل الخطب إليهم في المناسبات الوطنية الذي تتخذ صبغة سياسية محضة؟ وآخرها ما ورد في جمعة 24 يونيو 2011 حيث إن موضوعها إنما هو عرض بعض المرتكزات الواردة في الدستور الجديد، مع الدعوة إلى التصويت بنعم في تجاوز علني لحرية التعبير، وخرق سافر لهذا الدستور الجديد الذي يشاع أنه وسع من الحريات.

أليس هذا من اللغو الذي يحذر منه المسمع قبل الخطبة؟ ثم ألا تكفي المنابر الإعلامية والقنوات والمهرجانات الخطابية لهذه المناسبات؟ أم أن الأمر يصدق عليه قول القائل ” حرام علينا حلال عليكم ” حلال على الدولة توظيف المنابر في أمور السياسة، حرام على أي خطيب الاقتراب من المواضيع السياسية الملحة.

إنه التناقض الصارخ الذي يعيشه المرء في هذا البلد، بل إنه الاستبداد الحقيقي الذي تكون فيه جميع مؤسسات الدولة مرتهنة بهوى الحاكم وخاضعة لرؤيته الأحادية بخلاف الدول المحترمة التي تكون المؤسسات فيها للشعب دون سواه، بل إن انبثاق الحاكم وظهوره لن يكون إلا باختيار من قبل الشعب الحر …. لذلك فإذا تحررت الشعوب من وطأة المستبد تحررت المنابر آنذاك من الاحتواء والإكراه والضغوط المخزنية… وهذا ما تأمله هذه الشعوب المستضعفة.