تقديم
إن من أسباب رقي الإنسان وتقدمه ونجاحه إتقانه لعمله، والحرص على الإتيان به على الشكل المرضي والمطلوب، وبأفضل الوسائل المتاحة. والإنسان بفطرته السليمة يحب العمل المتقن، ويبغض ما سواه.
والله سبحانه وتعالى جل في علاه خلق كل شيء بإتقان وإحكام، وأخبر بذلك عن نفسه سبحانه، فقال: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُون [النمل: 88]، وقال سبحانه: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرُ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس: 37 – 40]. وقال سبحانه في حق العمل: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة: 105].
وإتقان العمل مطلوب في كل شيء، وأولى الأعمال بالإتقان هو العمل الذي يؤديه العبد، وهو مما لاشك فيه سيُعرَض على رب العالمين، ونحن نعلم أنه إذا قيل لأحد الموظفين: عملك هذا سيُعرض على المسؤول فلان أو علان، فسيبذل قُصارى جُهدِه في إخراجه في أعلى معايير الدقة، فكيف -ولله المثل الأعلى- إذا كان العمل سيُعرض على رب العالمين؟ أليس حريًّا بنا أن نكون فيه أكثر إتقانًا؟ لا سيما وقد دلت النصوص على أن الله تعالى يحب العمل المتقن ولو في أيسر الأمور؛ فهو من أسباب الحصول على محبة الله تعالى، فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنه قال: “إن الله يحبُّ إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه” 1.
وحتى نتناول موضوع الإتقان بشكل عملي سينصب موضوع بحثنا على خدمة من الخدمات التي يسديها الفرد لمجتمعه ولوطنه بصفة خاصة، ولأمته ودينه بصفة عامة، وليكن إتقان الممرض لعمله هو موضوع بحثنا. فما هو دور الممرض؟ وكيف يتقن عمله؟ وما هي المعيقات التي تواجهه؟ وما هو السبيل لتجاوز ذلك؟
دور الممرض
التمريض مهنة إنسانية نبيلة تهدف إلى رعاية المرضى وتعزيز صحتهم ومساعدتهم على الشفاء. وتتلخص أدوار الممرض والممرضة في: تقديم الرعاية الصحية للمرضى في المستشفيات والعيادات والمنازل، بما في ذلك قياس العلامات الحيوية؛ مثل ضغط الدم ودرجة الحرارة ومعدل ضربات القلب، وإعطاء الأدوية حسب تعليمات الطبيب المعالج، وتغيير الضمادات والعناية بالجروح، ومساعدة المرضى على الاستحمام وتناول الطعام والتحرك خاصة النساء الحوامل وأثناء الولادة والعجزة وذوي العاهات المستديمة، إضافة إلى تقديم الدعم النفسي للمرضى وعائلاتهم وإرشادهم إلى كيفية العناية بأنفسهم بعد الخروج من المشفى 2.
فهل يؤدي الممرض هذه الأدوار كما هو مطلوب ومنوط به؟ وهل يتقن عمله حتى يستحق لقب “ملائكة الرحمة” كما يحلو للبعض أن يسميهم؟ مع الأسف ما يلاحظ في مستشفياتنا غير هذا في كثير من الأحيان، ففي الوقت الذي يأتي فيه المريض للمستشفى لتلقي العلاج والدعم النفسي يجد نفسه أمام البعض من الممرضين، وليس الكل، أقل ما يمكن أن يقال عنهم أنهم منزوعة الرحمة من قلوبهم. فالذي يبتز المرضى ويرميهم بأبشع الألفاظ، والذي يترك المرضى يتأوهون من شدة الألم ولا يعيرهم أي اهتمام، والذي يعامل المرضى معاملة الزبونية والمحسوبية… كل هؤلاء لا علاقة لهم بمهنة التمريض أصلا، فضلا عن أن تكون لهم علاقة بإتقان العمل. أما إذا أضفنا لما سبق من معاملة شنيعة؛ التقصير في أداء المهام الاعتيادية من حضور متأخر وخروج مبكر ولامبالاة وتماطل، فكل هذا سيخرج صاحبه من دائرة الكسب الحلال الذي هو شرف العبد المؤمن، بل من شروط قبول الدعاء والأعمال المطعم الحلال؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “… ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يده إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟” أخرجه الترمذي واللفظ له، وأخرجه مسلم باختلاف يسير..
كيف يتقن الممرض عمله؟
إن إتقان العبد لعمله في الإسلام أيا كان منصبه فريضة عليه، وكان عبادة وجهادا له إذا خلصت فيه النية لله سبحانه وأداه بإتقان وأمانة. فالممرض قبل أن يكون موظفا فهو عبد من عباد الله مكلف بأداء رسالة معينة ونبيلة تجاه مجتمعه ووطنه وأمته، فهو مكلف بتقديم يد المساعدة والعون للمرضى المحتاجين والسعي في قضاء مآربهم، والرفع من معنوياتهم. فالإنسان – كل الإنسان – ما خلقه الله عز وجل إلا ليعمل ويعمر الأرض، قال سبحانه: وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ [هود: 61] وقول الرسول صلى الله عليه وسلم “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته” 3.
يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله “أعمال المؤمنين سعي مَرْضي في الدنيا إن حسَّنه الإتقان، مَرْضي في الآخرة إن زكاه الإيمان وزكته النية 4. وكلما أتقن العبد عمله نال الأجر والثواب في الدنيا والآخرة. فالله سبحانه وتعالى يحب أصنافا من الناس ولا يحب أصنافا آخرين؛ “يحب المحسنين، والتوابين، والمتطهرين… وهو تبارك اسمه لا يحب المعتدين، ولا يحب الفساد… ولا المفسدين، ولا المسرفين… ولا الفرحين بالدنيا اللاهين عن الآخرة الكافرين بها” 5.
عقبات إتقان العمل عند الممرض
تقف في وجه كل ساع لإتقان عمله مجموعة من العقبات، إن لم يتغلب عليها الساعي ويصمد في وجهها بحزم وثبات فإنها لا شك ستحول بينه وبين بلوغ المراد، فيفوت بذلك فرصة الفوز بثوابي الدنيا والآخرة. ومن أبرز ما يعيق عمل الممرض ندرة وسائل العمل، والعمل في ظروف مزرية خاصة في المستشفيات العمومية، وإكراهات الحياة المعيشية، وعدم الاهتمام من الإدارة الوصية، والتأثر بالفساد المحيط به… كل هذا وغيره يشعر الممرض بالعزلة، وأنه هو الوحيد الذي ينشد الاستقامة والإخلاص في العمل، ومن ثم يتسرب إليه الشك في نزاهة العمل الذي يقوم به، فيركن إلى الواقع المرير فيضيع وسط زحمة بهرجة الحياة الفانية. ولن يصمد في وجه هذه الرياح العاتية إلا من تولاه الله برحمته؛ نسأل الله لهذه الأمة الثبات. فالعبد المؤمن حري به أن يصبر ويثبت على الطريق المستقيم ولو بقي وحده لأنه يطلب أعز ما عند الله ولله العزة جميعا وهو وجهه ومرضاته، فلا يركن إلى الظلم والفساد مهما كلفه ذلك، لأن الدنيا لا محالة فانية وما عند الله خير وأبقى، يقول الحق سبحانه وتعالى: وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ [هود: 113]. فالعبد المؤمن يسعى ولا يكل ولا يمل، يتدافع مع الآخرين في معمعان الحياة ليدفع الظلم عن نفسه وعن الآخرين، ولا يعطي الدنية من نفسه. وإن ضاع أو اغتصب في حق من حقوقه، فليحتسبه عند الله فإن الله لا يضيعه، مصداقا لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف: 30].
ما السبيل لتجاوز هذه العقبات؟
إن الله اللطيف الخبير أدَّبَ نبيه صلى الله عليه وسلم فأحسن تأديبه، فكان من أهم ما أدبه به لنتعلم منه نحن الأمة الربانية المرحومة أن قال: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف: 28]. فالصبر مع المؤمنين وحمل النفس على لزوم الجماعة والصحبة فيه تأديب ووقاية لها من الانحراف والانجراف مع التيار، وفيه كذلك رص لبنيان المؤمنين فيما بينهم، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا” 6. ومن هنا فالعامل، أي عامل، إذا شذ عن صحبة الأخيار فإنه لاشك سيقع فريسة للأشرار، فالحرص كل الحرص على الرفقة الصالحة، فبهم ينصلح الحال وبهم تُحمد عاقبة المآل، وبهم يسمو المقام ويتضح النور من الظلام، فتؤدي أيها الممرض الواجب وتبلغ المرام، فأنت تقدم خدمة جليلة لذوي العلل والأسقام، وتسهر على راحتهم والناس نيام، فلا تترك عملك يذهب سدى بخلطه بالحرام، واعلم أن منزلة من تقضى حوائج الناس على أيديهم من المنازل العظام، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم “من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه” 7. فلا تحرم نفسك من هذه العطايا كلها، وأحسب أن مضامين هذا الحديث جلها اجتمعت فيك وحيزت إليك، فتنفيس كربات المرضى وتيسير عسر الحوامل وسترهم وتقديم يد العون إليهم.. كل ذلك راجع إليك وموكول إليك فانظر ماذا أنت فاعل بهم ومعهم؟
خاتمة
ينبغي لنا أن نعلم أن الإتقان في العمل من الوفاء بالعقد، وأن التقصير ونقص العمل من الخيانة وإخلاف الوعد، والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1]، فكما تريد أن تأخذ راتبك وأجرتك كاملة، يجب أن تؤدي عملك كاملًا، بغض النظر عن راتبك قلَّ أو كثر، وسواء قُدرت جهودك أم لا، وسواء كرموك أم نسوك. ولا تترك الانضباط والإتقان بسبب ما تراه من تسيب بعض الموظفين أو العاملين معك؛ فتقليدهم لن يعفيك أمام الله إن أهملت واجبك، وأنت ما دمت رضيت بعملك، وأبرمت العقد على القيام به، فقُمْ به على أكمل وجه. وإن لم يقدر مسؤولوك جهدك، فالمهم أنك أرضيت ربك، وكسبت الكسب الحلال الذي لا إثم فيه ولا شبهة.
إن ترك الإتقان يجر على الناس الويلات، وأحيانًا يعرض حياة الناس للخطر، انظر كم تزهق من أرواح في المستشفيات والعيادات والمصحات بسبب الإهمال. فالإتقان محمود في كل شيء وصاحبه ممدوح في الدنيا والآخرة. رزقنا الله وإياكم الإتقان، ورضا الرحيم الرحمن، وصلى الله على نبينا محمد العدنان وآله وصحبه أجمعين.