للتؤدة ارتباط بالصبر والأناة والحذر وضبط النفس. فهي تعني في المعاجم اللغوية الرزانة، والتريث، وما في معناهما من أخلاق الحلم، والصبر، والتحمل، والأناة، وضبط النفس، وطول النفس، وأهلية تحمل المسؤوليات، والاستمرار في الجهاد. وهذه صفات تمكن المسلمة من التفاعل الإيجابي مع الأحداث والظواهر الاجتماعية والعادات والأفعال والسلوكات. فتتحمل بموجب التؤدة والصبر والأناة ما قد يعترض طريقها، وتضرب المثل في ذلك بين الناس.
وقد بين الله تعالى قيمة الصبر ودعا إليه في كثير من الآيات البينات، فقال سبحانه وتعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم: واصبر وما صبرك إلا بالله [1] وقال تعالى: واصبر لحكم ربك [2] وأثبت عز وجل محبته للصابرين من المومنين: والله يحب الصابرين [3] وأكد معيته للصابرين: إن الله مع الصابرين [4] وجعل الصبر من عزم الأمور: ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [5] وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم التؤدة من خصال النبوة في قوله: “السمت الحسن والتؤدة والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءا من النبوة “[6]
1 – التؤدة نفس التغيير
إن للتؤدة والصبر والأناة أثرا في حياة المسلمة ترتبط بالعمل والعلم والقدرة على مواصلة الطريق وخوض غمار الجهاد واقتحام معتركه، طلبا لما عند الله من الأجر والثواب، وتحث في ذلك نفسها وغيرها لإدراك المطالب التي لا تدرك بالتمني. ولأهميتها في التغيير جعلها الإمام المجدد – رحمه الله تعالى – من الخصال النبوية المنهاجية وخصص لها جملة من الشعب كما ورد ذكرها في الأحاديث النبوية الشريفة المؤطرة لعمل المؤمن والمؤمنة في حياتها الخاصة والعامة.رتَّبَتْ قدرة الله العزيز الحكيم في الآفاق وفي الأنفس أن النتائج لا تأتي قبل المقدمات، وأن الصيف لا يأتي بالثمرات وأنَّ الزروع لا توتي حصيدها قبل مطر الشتاء وشمس الربيع، وأن الناس لا يستجيبون لداعي الله ولا يدخل الإيمان في قلوبهم ولا تتألف صفوفهم إلا مع الوقت والصبر وطول المعاناة. ولذلك كانت التؤدة من أهم خصال النبوّة، وكانت أسوةُ: )ولقد كُذِّبَتْ رسل من قبلك فصبروا على ما كُذِّبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا، ولا مبدل لكلمات اللهسنة النبيئين وسنة من يتبعهم بإحسان إلى يوم الدين) [7] لأن من يحاول تغيير المجتمعات المفتونة لا بد له أن يتقدم إلى الميدان وله من القدرة على مواجهة الواقع المكروه، ومن قوة ضبط النفس، وقوة الصبر والتحمل، وقوة الصمود والثبات على خط الجهاد مهما كانت القوى المعادية متألبة. إنما يستطيع أن يربي جيل الإنقاذ رجال لا تستخفهم نداءات الباطل، ولا يلعب بهم الهوى، ولا يتحركون على الظن والهواجس )[8] وبين أن خصلة التؤدة وهي في الرتبة الثامنة ارتقاء في مدارج الإسلام والإيمان والإحسان، وهي مسعفة للجهاد وهو ثمرة الخصال كلها كما سيأتي إن شاء الله. ولذلك جعلها رحمه الله مشتركة ضرورية لمواجهة الصعاب والعقبات: نريد لجند الله أن يتقدموا صفا واحدا منضبطين صابرين، وأن يكون كل منهم قد تحلى بخصلة التؤدة ودرب عليها حتى تمكن. نريد أن يقف كل منهم حيث هو، وحيثما تنقل، موقف الداعية الذي لا يثنيه عن غايته وأهدافه تنكر الناس لدعوته وإذايتهم له). [9]
2 – دواعي التؤدة في حياة المسلمة
المسلمة في سيرها الحثيث للعبور إلى دار القرار وفي اقتحامها الفردي والأسري والجماعي، تعترضها عدة مثبطات وعوائق، تحتاج منها إلى الصبر والأناة وطول النفس،وقوة الإيمان، وشدة المراس، والثبات على الصراط المستقيم. )وقد بين الإمام المجدد رحمه الله أن ” هناك عوامل ثلاثة رئيسية تتضافر على زعزعة السير والتشكيك والتثبيط.
)1- ميراث الفتنة وخلافات الأجيال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث حسن رواه الإمام أحمد والترمذي والحاكم: )“ما ضل قوم بعد هدي كانوا عليه إلا أوتوا الجدل”. يا ليت لنا إيمانا فطريا نقول لا إله إلا الله فترفعنا إلى أعلى شعبة ونفلح. لكن هناك هذه المخلفات من الخلافات. ومعالجتها تريد صبرا وسعة صدر وارتفاع أفق.
2- طبيعة الشباب وهم صفوة جند الله وعماد المستقبل. قد تخيب آمال بعض الشباب الطاهر لاكتشاف حدود مرب قليل البضاعة من العلم، أو للاطلاع على نقص في الأخلاق والإيمان فيمن كانوا يعظمونهم من الدعاة، أو لمجرد ملل يعتريهم، أو فترة من الشرة الأولى والحماس المشتعل عند البدايات. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي بسند صحيح: )“إن لكل شيء شرة (الشرة الحماس والاندفاع)، ولكل شرة فترة. فإن صاحبها سدد وقارب فارجوه، وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدوه”. أي إن استمر بعد الحماس الأول بخطى ثابتة فارجوا فلاحه. أما إن كان يطلب الظهور والرئاسة فلا تعدوه من الرجال. فترة العنفوان مهب للرياح والأهوية من داخل وخارج. وتنبغي العناية بالأشبال، وحوطهم من الآفات، حتى يشتد عودهم، وتكتمل رجولتهم. وما ريح الخلافات في التربية والتنظيم وتعدد الحركات إلا واحد من عوامل الاستخفاف).
3- طبيعة العمل الإسلامي وسط الفتنة. إنها نادرة تلك الشخصيات القوية التي تثبت في الميدان، وتتألف، وتكون جماعة صامدة تجذب بتآلفها العناصر الأقل قدرة وتثبت العزائم بمثال ثباتها. لا سيما والأذى من كل جانب موجه إلى من يريد أن يغير منكر الظلم، ويفطم الناس عن مألوفهم، ويناديهم لتحمل المسؤوليات، وإنجاز المهمات، بدل النداء المستخف الذي يغنيهم نشيد الاستقرار، ليناموا ويخضعوا، ويعدهم الغرور ويمنيهم). [10] ومن تم يدعو إلى أن يكون هدف تربيتنا إخراج رجال ونساء يضربون لغيرهم المثل بالثبات على الخطوب). [11] لكوننا “نعيش في آخر عهد الضلالات الفتنوية إن شاء الله تعالى. لكننا لا نزال في خضمها. وأكثر ما يستفحل لهب الشمعة قبيل انطفائها، وأكثر ما تشتد الجاهلية على الإسلام قبيل بزوغ شمس الهداية والنصر. الجدل، وعوامل الاستخفاف، والضربات المتتالية من العدو والأخ. فصبر جميل والله المستعان”. [12]
ومن هنا حذر – رحمه الله – من أن تصبح دواعي الرزانة والاتزان وضبط النفس وسيلة للجمود والقعود، لما في ذلك من أثر سلبي على العمل والجهد والغاية والهدف: وينبغي ألا تتحول فضائل الرزانة في العمل، والتأني في التدبير، إلى قعود واستكانة، وتبرير للجمود بأنه تريث وحكمة). [13]
3 – خطوات عملية للمسلمة
لتصير المسلمة قادرة على مواجهة العقبات واقتحام الصعاب، من المفيد معرفة ما هي الخطوات التي تضمن لها طول النفس والقدرة على التحمل والصبر، ومن ذلك:
– التدرج في الخطوات، وهذا يعطيها قدرة على التمييز والتقويم والمراجعة لما تفعل في حياتها الخاصة والعامة.
– التدرج في التربية: لأن النفس الإنسانية تحتاج في تغيير ما بها إلى التدرج في التربية، كي تثمر هذه التربية شخصية قوية متحملة ذات نفس الطويل وقادرة على التغيير.
– متابعة الأعمال والقرارات: هناك خيار بين المبادرات الحماسية التي تريد أن تطوي المراحل وتقفز فوق الواقع وبين العمل المتدرج الصبور.ويجب أن تتدرب المسلمة على تحمل المسؤولية، بحيث لا تروغ أبدا عن مهمتها، ولا تمل قبل إتمامها.
– امتحان الصبر: وقد جعله الله تعالى مقرونا بإقامة الصلاة: واستعينوا بالصبر والصلاة، وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون [14] والمسلمة مدعوة للجهاد والدخول في معارك مع واقع موبوء مدلهم مظلم. والصبر هو النور كما جاء في حديث مسلم.
– ضبط النفس عند المشورة: فمن أهم ما تحتاجه المسلمة من أخلاق الخير وشعب الإيمان الصبر مع المؤمنين، والالتحام في الصف، والصبر على النصيحة والكلمة الصادقة.
ويلخص – رحمه الله – خصلة التؤدة وما يندرج تحتها من شعب الإيمان في قوله: الخصلة الثامنة : التؤدة : هي الخصلة الخلقية السياسية الاستراتيجية التي تفصل بين العمل المرتجل الانفعالي وبين العمل المخطط المحكم: خصلة امتلاك النفس، والصبر على طول الطريق ومشقة العمل، والتريث حتى تنضج الثمار. شعب الخصلة: 61 الصوم. 62 القيام في حدود اللّه عز وجل. 63 حقن الدماء والعفو عن المسلمين. 64 حفظ اللّسان والأسرار. 65 الصمت والتفكر. 66 الصبر وتحمل الأذى.67 الرفق والأناة والحلم ورحمة الخلق. 68 التواضع). [15]
[1] سورة النحل: 127.
[2] سورة الطور: 48.
[3] سورة آل عمران: 146.
[4] سورة البقرة: 153.
[5] سورة الشورى: 43.
[6] رواه الترمذي ” عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه وقال: حديث حسن غريب، ورواه الإمام أحمد ومالك وأبو داود بنحوه.
[7] ياسين عبد السلام، العدل، ص: 172.
[8] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص: 291.
[9] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص: 291.
[10] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص: 293 – 294.
[11] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص: 293 – 294.
[12] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص: 293 – 294.
[13] ياسين عبد السلام، المنهاج النبوي، ص: 320.
[14] سورة البقرة: 45-46.
[15] ياسين عبد السلام، مقدمات في المنهاج، ص: 83 – 84.