أفتكون أيها الأحبة «بعثتُنا» بالتعسير والتنفير قبل أن نبني القاعدة الواسعة وقبل أن يستأنِس أعرابيُّنا بأنّ دينه يفطم عن الخبائث ويُحل الطيبات، ويقدم الطيبات، ويسعى للعدل، ويعمل ليأخذ كل ذي حق حقه؟ كيف تَقطَع الأيديَ في مجتمع يسودُه الجَوْرُ، مجتمعٌ يزداد فيه الفقير فقرا والغني غنِىً؟
إن جئنا بالعسر والمشقة إلى أهواء الناس نوشك أن يثور علينا الناس. قال الإمام الشاطبي رحمه الله في “الموافقات”: إن مخالفة ما تهوَى النفس شاقّ عليها، وصَعْبٌ خروجُها منه […]. وكفى شاهدا على ذلك حالُ الـمُحِبّين، وحال من بُعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين وأهل الكتاب وغيرهم ممن صمَّمَ على ما هو عليه، حتى قال تعالى:)أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ 1 الآية. وقال:)إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ 2 ، وقال:)أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ 3 . وما أشبه ذلك. ولكن الشارع إنما قصد بوضع الشريعة إخراج المكلف عن اتباع هواه حتى يكون عبدا لله).
وذكر رحمه الله ما كان من عمر بن عبد العزيز صالح بني أمية الذي حاول أن يصلح ما أفسدوه رحمه الله. جاءه ابنه عبد الملك، وكان له بطانَةَ خير، وكان شابا متحمسا لإصلاحات أبيه، فقال يستعجله في تطبيق الحق وزجر الباطل: مالك يا أبتِ لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أُبالي لو أن القُدور غَلَتْ بي وبك في الحق!).
فأجابه عمر العالم المجتهد (وهذا أندرُ من النادر في الملوك): لا تعجل يا بُني! فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة. وإني أخاف أن أحملَ الناس على الحق جملةً فيدَعوه جملة، فيكون من ذا فتنةٌ). هذا هو الفقه، تجدَّد عند عمر بن عبد العزيز رحمه الله فاهتدى إلى تعليل السيدة الجليلة أم المؤمنين رضي الله عنها. هي أفهمت عراقيا أعرابيا كيف تنزلت الأحكام بالتدريج لعله «لو قال كذا لقالوا كذا»، وهو يخاطب شابا مليئا بالغيرة على الدين وبالغضب على المظالم الموروثة لا يدري أن الحق إذا فُرِض على الناس جملة أنكروه جملة.
إنَّ تجذُّر العادات في الناس، في كل زمان ومكان، وتَمَكُّنَ الهوى حتى لَيُتَّخَذُ إلها لَعلّةٌ مانعة في يوم الإسلام وغده مما منعته في فقه الصحابة والتابعين. وإنما يُصلح آخر هذه الأمة ما أصلح أمرَ أولها كما قال إمامنا مالك رحمه الله. بالقياس السليم لا بالتقليد الأعمى. بمراعاة أحوال النفوس والزمان والمكان.