المرأة وطاحونة الاستهلاك

Cover Image for المرأة وطاحونة الاستهلاك
نشر بتاريخ

السمة البارزة لعصر العولمة هذا؛ طغيان ثقافة الاستهلاك واستعباد المادة للأنام، وإن كان ثمة متضرر من ثقافة السوق هذه فإن المرأة أشد تضررا، إذ لم يعد ينظر إليها إلا  كشيء أو سلعة من السلع التي يسعى أرباب الشركات إلى الربح الكثير من ورائها. فهي إما دمية تعرض منتجاتهم، أو بئيسة مكدودة تمتهن أحقر المهن، أو عرضة لنزوات الذئاب تستبدل كما يستبدل المتاع. وتراها مع هذا كله تحطم الرقم القياسي في الاستهلاك واتباع الموضة والحرص على اقتناء الماركات العالمية التي ما جعلت إلا لمسخ هوية الإنسان، وجعله جسدا فارغا، وتجريده من أسمى ما يملك؛ روحه التي نفخها فيه المولى الكريم من روحه وأسجد له لأجلها ملائكته. وصدق الشاعر أبو الفتح البستي الذي قال:

يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته ** لتطلب الربح في ما فيه خسران

أقبل على النفس فاستكمل فضائلها ** فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان

إن أخطر ما يهدد المرأة  قابليتها للاستعباد المادي، ورضاها بالدخول في طاحونة الاستهلاك، حيث المهانة والدونية والاستعباد، ولن تتخلص من هذا كله إلا باقتناعها بأنها ما خلقت إلا لإقامة خلافة الله على وجه الأرض مع أخيها الرجل، وأنها صاحبة رسالة سامية كلفها الله بها كما كلف الرجل كل من زاوية اختصاصه؛ الرجل بقوامته والمرأة بحافظيتها، وكلاهما يسعيان لكبح جماح النفس وتزكيتها. وصدق الله تعالى لما قال: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۝ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ۝ قَدْ أَفْلَحَ مَن زكَّاهَا ۝ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (سورة الشمس، 7 – 10).

هذا الفلاح مطلب وغاية المؤمنين والمؤمنات الذين يعلمون يقينا أن الدنيا ما هي دار قرار بل هي محطة للاختبار، وأنهم سيسألون غدا يوم القيامة عن أموالهم من أين اكتسبوها وفيم أنفقوها كما جاء في الحديث الشريف. ومن ثم يحذرون من أن يكونوا إخوان الشياطين، قال تعالى: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا(سورة الإسراء، 27)، وبالتالي فهم يعتبرون المال مال الله أمانة عندهم ينبغي استعماله في ما يرضي المولى الكريم، قال تعالى مثنيا على عباد الرحمن: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (الفرقان، 67)، صفة حميدة هذه مع الصفات الأخرى الواردة في سورة الفرقان تجعل عبوديتهم خالصة لله حتى قرنهم الله في الآية باسمه الرحمن جلت عظمته.

هذه المعاني السامية هي النبراس الذي ينير للمرأة طريقها، فيخرجها من ظلمات الجهل والتبعية إلى نور المعرفة والعلم، ويعيد لها عزتها وكرامتها.

ولنا أسوة في الصادقات الكاملات من المؤمنات، فهذه السيدة آسية رضوان الله عليها ما ضربها الله مثلا في القرآن الكريم للذين آمنوا إلا لأنها آثرت ما عند الله وتركت المال والجاه والسلطان.. ولكم أن تتخيلوا امرأة فرعون الذي كان يدعي الألوهية كيف كانت؟ أميرة الأميرات وسيدة زمانها، فكيف كان رغد عيشها؟ وماذا كانت تلبس؟ وكيف كانت تتعطر؟.. ومع ذلك آمنت بسيدنا موسى عليه السلام وتعرضت لتعذيب شديد وقالت قولتها الشهيرة التي سطرتها بدم شهادتها وخلدها لها رب العزة، قال تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (التحريم، 11)، فهي عليها السلام رغبت في القرب من الله عز وجل أكثر من أي شيء، حتى الجنة ما طلبتها إلا بعد أن طلبت القرب من المولى الكريم قالت «عندك» أولا ثم «بيتا في الجنة»، وبذلك استجاب لها الله عز وجل وضربها مثلا للعالمين. عن سلمان رضي الله عنه قال: «كانتِ امرأةُ فرعونَ تُعذَّبُ بالشَّمسِ، فإذا انصرَفوا عنها أَظلَّتْها الملائكةُ بأجنحِتِها، وكانت تَرى بيتَها في الجنَّةِ» (صحيح على شرط الشيخين).

على خطى الكاملات سارت المؤمنات الصالحات اللواتي كن يقلن لأزواجهن عندما يخرجون لطلب الرزق: «اتق الله فينا فإنا نقوى على الجوع ولا نقوى على نار جهنم». وقد ضربت زوجة أبي الدحداح رضي الله عنهما مثلا يحتذى به في السمو بالنفس وطلب ماهو باق وترك ما هو فان، فهي لما وهب زوجها بستانه ذا الستمائة نخلة والقصر والبئر والحائط مقابل نخلة في الجنة، وعاد إليها وطلب منها أن تخرج من البيت لأنه بيع وقال لها: «لقد بعت البستان والقصر والبئر والحائط، فتهللت الزوجة من الخبر فهي تعرف خبرة زوجها في التجارة وشطارته فسألته عن الثمن. فقال لها: لقد بعتها بنخلة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام. فردت متهللة: ربح البيع أبا الدحداح، ربح البيع» (رواه أحمد وابن حبان والحاكم).

لمثل هؤلاء تشرئب الأعناق لا اللهث وراء الدعاة إلى الفتنة، إلا أن هذا لن يتأتى للمرأة إلا إن هي صاحبت الخيرات من النساء، وبحثت عن المؤمنات الصالحات وانخرطت معهن في مشروع تربوي ينتشلها من حضيض الغفلة والبعد عن الله إلى المواظبة على ذكر الله والدار الآخرة، والعلم بأمور دينها وتزكية النفس وتطهيرها، ثم الصدق في طلب وجهه الكريم. بذلك فقط تتحقق عزتها وكرامتها، فنحن وكما قال سيدنا عمر رضي الله عنه: «قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله».

حفظ الله نساءنا من كل سوء، وردهن إليه ردا جميلا. آمين والحمد لله رب العالمين.