المرأة بين الأعمال المنزلية والطاعات الرمضانية خلال فترة الحجر الصحي

Cover Image for المرأة بين الأعمال المنزلية والطاعات الرمضانية خلال فترة الحجر الصحي
نشر بتاريخ

رمضان بلا ضيوف، بلا طارق بالباب، لا زيارة ولا تزاور، لا خروج كما المألوف لقضاء أغراض خاصة أو احتياجات الغير، إنه ظرف استثنائي حتّمه الحجر المنزلي الذي فرضه الوباء وأجبر العالم شرقه وغربه ملازمة البيت واتخاد إجراءات صارمة، للحد من انتشاره. وضع فسره البعض بشبه توقف للحياة وتأجيل الخطط والطموحات لأجل غير مسمى، بينما اعتبره البعض الآخر فرصة لاستعادة العلاقات الأسرية، التي تعيش أغلبيتها غربة موحشة تحت سقف واحد، وذلك بخلق فرص للتواصل بين الأزواج ومع الأبناء والإنصات إليهم، تلك العلاقة التي تمت التضحية بها في خضم هوس الحياة والتزامات العمل والمدرسة، والانشغالات اليومية.

كما أجبر الحجر المنزلي الأسر أن تغير نمط الحياة الذي اعتادت عليه والذي غيّب قيما جميلة في خضم هوس السباق مع الزمن. ولا شك أن ما يشغل بال المرأة المسلمة في هذا الشهر العظيم، وهذا الموسم الإيماني، هو اغتنام الفرصة للإكثار من الطاعات والعبادات، ولا شك أن كل أفراد الأسرة لديهم فرصة للتفرغ لطلب وجه الله تعالى في رمضان، بالإكثار من القرآن والذكر والقيام والصدقة، وطرق كل أبواب الطاعات والقربات.

والمرأة بحكم دورها الرئيسي في الأسرة قد تنشغل بأعباء التربية، وتدبير متطلبات البيت لتجعل منه محضنا للراحة والطمأنينة، كما تنشغل بإعداد مائدة الإفطار التي تتطلب منها مضاعفة الجهد والوقت والمال. والعادات لم تجعل من إعداد الطعام في هذا الشهر الفضيل كغيره من الأيام العادية، بل دفعتها لتستنزف طاقة المرأة ولربما تقصر في الطاعات والعبادات حتى تصبح الحلقة الأضعف في البيت بفعل التعب والإرهاق، وأكثر من ذلك ينتابها شعور بالتفريط، لكونها لم تتمكن من استثمار فرصة رمضان في التقرب لله عز وجل، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن الإسراف بقوله في محكم كتابه وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين.

فعمل المرأة في بيتها إن أخلصت فيه النية لله تعالى هو عبادة تثاب عليها كما يثاب أي إنسان على سائر الأعمال، ففي حديثٍ لأبي هريرة رضي الله عنه قال: “أتى جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هذه خديجة قد أتت ومعها إناء فيه إدام، أو طعام أو شراب، فإذا هي أتتك فأقرئ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب”. يكفي شرفا أن تجازى سيدتنا خديجة الجزاء الأوفى على خدمتها لبيتها وتنزل بشارة ربها من فوق سبع سماوات، تقديرا وتعظيما لخدمة أهلها التي لا تقل شأنا عن باقي العبادات. وفي حديثٍ أخرجه البيهقي عن أنس رضي الله عنه يقول فيه: “جاء النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن: يا رسول الله، ذهب الرجال بالفضل بالجهاد في سبيل الله، أفما لنا عمل ندرك به عمل المجاهدين في سبيل الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مهنة إحداكن في بيتها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله”. خدمة أكيد قد ينخرط فيها حتى الرجل، مستلهما النموذج من خير خلق الله عليه أزكى الصلاة والسلام، سيدنا رسول الله الذي كان في مهنة أهله.

ومع إدراك أن الخدمة أو الأعمال المنزلية عبادة وقربى من الله تعالى، فلا بد للمؤمنة من برنامج رمضاني، تجعل منه محطة لمراجعة النفس والخلوة مع كتاب الله تعالى، قراءة وتعلما وتدبرا وتخلقا، وحفظا، وحسن الالتجاء إلى البارئ سبحانه. كما  يجعلها تدرك من خلاله قيمة الوقت، وكيفية استثماره، وإحصاء دقائقه، واغتنام فرصة الليل في القيام والتبتل والدعاء، فلا شيء يغنيها عن ذلك أو يحول بينها وبين طلب وجه الله تعالى، إن تخلّصت من العادات السائدة التي تجعل من الشهر الفضيل شهر الصوم عن الشراب والطعام نهارا والأكل والسهر ليلا.

بل وتستثمر زمن الحجر استثمارا ايجابيا، وتجعل منه فرصة للتأمل في ملكوت الله تعالى وعظمته وحكمته وقدرته على تغيير الكون قبل أن يرتد إلى الإنسان طرفه.

فرصة لتعميق الأواصر المنسية والعلاقات المهدورة، وصلة الأرحام وتفقد من لم تسعفه نوائب الزمان لفعله بوسائط أكثر يسر.

ومن نعم الله تعالى في هذا الحجر هو اتخاد معظم الأسر من بيتها مسجدا تقام فيه صلاة الجماعة، استنادا لحديث رواه أبو داود، عن سمرة رضي الله عنه، أنه كتب إلى ابنه “أما بعد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يأمرنا بالمساجد أن نصنعها في ديارنا ونصلح صنعتها ونطهرها”.

فلا بد من الاستفادة من اللحظة في صدق العبادة وصدق التوكل على الله تعالى، وفرصة لجعل القرآن رحلة تأمل في آياته فهو صلة الوصل بينها وبين الله تعالى، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: يقول رسول الله عليه الصلاة والسلام “إن هذا القرآن مأدبة الله فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله الذي أمر به، وهو النور المبين والشفاء النافع، عصمة لمن اعتصم به، ونجاة لمن تمسك به…” إلى آخر الحديث. وقد مكن هذا الظرف المؤمنة من الانخراط في الختمات الجماعية، وجلسات تربوية مع الأسرة، وحصص الذكر ثم الاجتهاد في الطاعات والعبادات من سنن ورواتب وأوراد اليوم والليلة، وصلاة التراويح مع أفراد الأسرة، والتصالح مع طلب العلم بتخصيص وقت مهم للقراءة والاطلاع للاستغناء عن هدر الوقت في تصفح مواقع التواصل دون حدود، فقد تبدو فترة الحجر محنة صعبة على ما اعتاد عليه الناس بل هو منح عظيمة من العلي القدير إن تم التعامل معه إيمانا بقدر الله تعالى ورضا بقضائه، واعتباره فرصة وهبة من الله تعالى لوقت قد لا يطول، فلكل حدث نهاية.

فرصة لخلق حوار بين الأجيال، جيل الوالدين، وجيل الأبناء الذين ولا شك لا يفكرون بنفس التفكير وليست لهم نفس الطموحات، وكل يرغب في العيش بالطريقة التي يهواها، وفي كوكبه الخاص وعالمه المتفرد. بتفعيل مبدإ المداراة ودورها في خلق التعايش المحمود، والتدرب على فقه الكياسة والملاينة والمعايشة، والتغافل للحفاظ على استقرار الأسر وتوازنها وزرع المودة والرحمة فيها، بعيدا عن التشنج والشجار، وحتى العنف الذي تتحدث عنه كثير من وسائل الإعلام طفى على السطح خلال فترة الحجر، بالأخص في العلاقات الزوجية. فعن سعد بن المسيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال “رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، ولن يهلك امرؤ بعد مشورة”.

وأختم بقولة للإمام الحافظ زين الدين بن رجب الحنبلي في كتاب لطائف المعارف: “عباد الله شهر رمضان قد انتصف، فمن منكم حاسب نفسه فيه لله وانتصف، من منكم قام في هذا الشهر بحقه الذي عرف، من منكم عزم قبل غلق أبواب الجنة أن يبني له فيها غرفا، ألا إن شهركم قد أخذ في النقص فزيدوا أنتم في العمل فكأنكم به وقد انصرف، فكل شهر فعسى أن يكون منه خلف، وأما شهر رمضان فمن أين لكم منه خلف”. والحمد لله رب العالمين.