- تقديم:
ما سر قوة المؤمن وجماعة المؤمنين؟ هل هو في التصور والرؤية المتكاملة للكون والإنسان والمصير؟ أم أن سر القوة في القدرة على التنظيم والترصيص و”البرمجة” وحسن التدبير والعمل الجاد الهادف؟ قد يكون السر -سر القوة- قوة الحركة والإنجاز والتفاعل مع الأحداث؟ لا شك أن هذه الأمور إذا اجتمعت تشكل قوة المؤمن وصلابته وقدرته. فيجمع بين النظرة الثاقبة وحسن إدارة العمل -العبادي والسلوكي والدعوي- والقدرة على الإنجاز والأداء والتنفيذ. هذه عناصر القوة المطلوبة للمؤمن فردا وجماعة المؤمنين. والقوة لابد لها من روح وسر وإلا كانت قوة فارغة جوفاء لا معنى لها، سرعان ما تنهار عند التحديات الكبرى والعواصف الهوجاء التي تواجه المؤمنين في سيرهم إلى الله تعالى. وسر القوة: الحب. حب الله وحب رسول الله والتحاب في الله تعالى… فعند اشتداد الشدائد وتضييق الظالمين على الدعوة والدعاة الصادقين، يكون الثبات والصبر والجلد سدا منيعا أمام الضربات، والضربات لن تقصم الظهر بل ستقويه إن شاء الله تعالى إن كانت القلوب موقنة بالله تعالى متحابة في الله تعالى تريد الخير والمحبة للناس كل الناس. فلا نُغلب أبدا. لا نُغلب من قوة محبة. بإذن الله تعالى.
- حديث الانطلاق وبعض ما يستفاد منه:
حديث الانطلاق:
عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَقَالَ: “يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ مِن هذا الفجّ رجلُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ”، قَالَ: فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنْ الأنصار تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ قَدْ عَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ، فسلَّم، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ ذَلِكَ، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ الْمَرَّةِ الْأُولَى، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الْأُولَى، فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم تَبِعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ: إِنِّي لَاحَيْتُ أَبِي فَأَقْسَمْتُ أَنْ لَا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْتَ، قَالَ: نَعَمْ. قَالَ أَنَسٌ: وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثَ فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَبَّرَ[1] حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلَّا خَيْرًا، فَلَمَّا مَضَتْ الثَّلَاثُ لَيَالٍ، وَكِدْتُ أَنْ أَحْتَقِرَ عَمَلَهُ قُلْتُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، إِنِّي لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ، وَلَا هَجْرٌ ثَمَّ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لَكَ ثَلَاثَ مِرَارٍ “يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ”، فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلَاثَ مِرَارٍ فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لِأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ فَأَقْتَدِيَ بِهِ، فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ. قَالَ : فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي، فَقَالَ: مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ”[2].
بعض فوائد الحديث:
– تفنن رسول الله في التعليم والتوجيه والإرشاد فقد اعتمد كل الوسائل والأساليب التربوية المناسبة: تحفيزا وتشويقا ودعوة للاكتشاف والتعرف. فلم يكن صلى الله عليه وسلم يجمد على وسيلة تعليمية واحدة، بل كان يجدد ويحسن وينوع. فهو نموذج المعلم المربي. صلى الله عليه وسلم.
– الصحبة والجماعة والصحبة في الجماعة: فقد كان المصحوب صلى الله عليه وسلم وهو يغرس فيهم معاني التعلق الشريف بذاته الطاهرة والتعلم المباشر منه والاقتداء به، كما يدلهم على أن يكونوا ذاتا واحدة متراصة كالبنيان المرصوص. وقد حرص الحبيب في مناسبات كثيرة -منها هذه- أن يوجه الصحابة إلى التماس الرحيق حيث الرحيق. من بعضهم بعضا، وأن كل واحد منهم فيه خير كبير وغنيمة عظيمة ينبغي أن يعرفوها ويستفيدوا منها، فقد دلهم على الرجل وأنه من أهل الجنة، وهذا ما فعله سيدنا عبد الله بن عمرو فقد طلب ملازمة الرجل وصحبته في بيته ثلاثة أيام حتى اكتشف سره وما تميز به. بنية الاتباع والاقتداء بأخيه. قال عبد الله رضي الله عنه: “لِأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ فَأَقْتَدِيَ بِهِ”.
– تلقف سيدنا عبد الله بن عمرو التوجيه النبوي وطلب الاقتداء بهذا الصحابي المبشر وزيارته وصحبته.
– الحرص الكبير على الخير و التحفز والتوفز إلى الكمال والبلوغ، والتمسك بالصحبة الصالحة والسؤال والرغبة في التعلم والارتقاء. وسيدنا عبد الله بن عمرو نموذج في الباب. أما الحديد البارد فلا فائدة من ضربه.
– العمل لابد ولكن روح العمل وباطنه وجوهره ومبتغاه هذا المعول عليه والعمدة. العبادة وروح وشكل. كان الصحابي المبشر يعمل العمل المفروض ويزيد قليلا، لكن كان عنده ميزة. وهو لب العمل: المحبة والصفاء وسلامة القلب. قال سفيان بن دينار: قلت لأبي بشير: أخبرني عن أعمال من كان قَبْلنا؟ قال: كانوا يعملون يسيرًا ويؤجرون كثيرًا؟ قلت: ولم ذا؟ قال: لسلامة صدورهم.
– “لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ“. هذا هو سلامة القلب وامتلاؤه بالمحبة والصفاء. وليس لأحد من المسلمين بل لكل أحد، وهذا ما ورد في رواية أخرى: فقال: “آخُذ مضجعي وليس في قلبي على أحدٍ”. سلامة قلب اتجاه الناس أجمعين وليس تجاه المسلمين فقط. بل تجاه الخلق الله جميعا.
– “هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ”. بلغت من البلوغ وهو الوصول إلى منتهى الشيئ. والمُوصلة سلامة القلب من الضغينة والغش للناس، ونقاء السريرة من الحسد والحقد توصل العبد المؤمن إلى الله تعالى وصحبة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم والفوز بالجنة. اللهم إني أسألك قلبا سليما نقيا طاهرا صفيا.
- المحبة الصافية رباط المومنين:
يحدثنا الله تعالى عن ما أعده للمؤمنين غدا يوم القيامة من النعيم المقيم وهم تحت مظلة رضوانه وأنسه فيقول: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ[3]. يطهر الله تعالى قلوب المؤمنين مما علق فيها من غل الكراهية والبغضاء والشحناء. وهذا عمل يسعى إليه المؤمنون في دنيا الامتحان فيطهرون قلوبهم وأعمالهم من رجس سوء الخلق وفساد النية ونجس احتقار الآخر واستكبار النفس واستعلائها.
ما تعيشه المجتمعات المعاصرة- بما فيها مجتمعاتنا العربية والإسلامية- من الكراهية والبغض هو الذي يولد التطاحن والتحارب والتناجش والتقاتل بين الناس ولا بديل عن هذا إلا إفشاء السلام الذي يحقق التساكن البشري والتعايش الإنساني. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم))[4].
والسلام قول: السلام عليكم وهو أول أسباب التأليف، وباب من أبواب استجلاب التقريب بين الناس. والسلام ليس مع المسلم بل مع العالم أجمعين. فعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: ((ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار ))[5].
والسلام بكل معانيه طريق المحبة الصافية قولا وفعلا وعاطفة. إفشاء السلام لا إفشاء الحرب. الجنة ممنوعة علينا ما لم نتحابب في الله تعالى وتتصاف أرواحنا في ذات الله ونكن ذاتا واحدة. وبهذا الشرط تكون الرفعة والجزاء غدا يوم القيامة. روى أبو داود عن عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن من عباد الله لأُناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله. قالوا: يا رسول الله تخبرنا من هُم؟ قال عليه الصلاة والسلام: قومٌ تحابّوا بروح الله على غير أرحامٍ بينهم، ولا أموالٍ يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس)).
والتشاحن والتلاحي بين المؤمنين يمنع العطاء الرباني ويحبسه وتبقى الأعمال الصالحة معلقة حتى يقع التصافي بينهما. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل مسلم لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، انظروا هذين حتى يصطلحا)[6].
- مقاصد المحبة الصافية:
والمحبَّة هي ميل النفس إلى ما تراه وتظنه خيرًا والتعلق القلبي بالمحبوب، والتفاني في الخدمة ونشر الخير. والصافية: من الصفاء وهو النقاء والخلوص من الأكدار . فالمحبة الصافية ما كانت لله حقا لا لغرض دنيوي ولا لخدمة تقدم ولا لدفع ضرر أو جلب مصلحة. إنما لله تعالى. والمحبة الصافية هي ما حققت مقاصد ثلاثة: في النفس وفي الأمة وفي العالمين.
- المحبة الصافية معدن القلب السليم:
التفاضل في الدرجات ليس بالأعمال الظاهرة- على قدرها وجلالها وأهميتها- وإنما التفاضل بالقلب وما يسكنه؛ قال الله تعالى: وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ. يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ[7].
القلب السليم ما سلم من كل الأكدار وصفا من جميع الأغيار، وتنقى من الغل والبغضاء والحسد والشحناء. القلب السليم الذي امتلأ بالمحبة والصفاء واعتمر بالرحمة والود. لما سُئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس أفضل؟ قال: “كل مخموم القلب صدوق اللسان“. قالوا: صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟ قال: “هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد“.[8] الأعلى درجة غدا يوم القيامة الأصفى قلبا. وعلى قدر الصفاء يكون العطاء كما يقول الدكتور عبد الواحد المتوكل. يقول الإمام المجدد رحمه الله تعالى: “بسلامة القلب وصلاحه يتفاضل المؤمنون”. سلامة القلب ثمرته محبة الله والتعلق به سبحانه والشوق إليه تعالى، والجزاء أن يكون المؤمن سليم القلب في ظل الله تعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله تعالى يوم القيامة: أيْنَ المتحابون بجَلالي؟ اليومَ أظِلُّهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي))[10].
- التحاب والتصافي لحام الجسد الجماعي وروح بناء التكتل القوي:
“رباط الأخوة والتحاب في الله هو الطاقة التي لا تغلب”[11]. التحاب في الله طاقة شاحنة معبئة للصف المنتظم والجسد المتراص. قال صلى الله عليه وسلم: “الْمؤمنُ للمؤمنِ كالْبنيانِ يَشد بَعْضهُ بَعضًا”[12]. بنيان المؤمنين يتقوى ويتراص بالتواد والتراحم والتعاطف. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم: مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضو: تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى))[13].
“هذه المحبة كانت طاقة هائلة مجمعة، وكانت اللحام بين أعضاء الجسد الجماعي. ولكيلا تتبدد ولكيلا تخطئ المحبة مقصدها نظمها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين آخى بين المهاجرين والأنصار، ونظمها الله حين جعل أولي القربى أحق بها والوالدين قبل لك، ثم الجار والصاحب بالجنب”[14].
التأثير في الأمة الاسلامية وأخذها بلين ورفق وتؤدة والنهوض بها من جديد حتى تقوم بوظيفتها الرسالية رهين بوجود طليعة وطلائع تقود الركب وتحادي السير. طليعة منتظمة انتظاما جامعا بين عناصر التخطيط المحكم والتنظيم المندمج والحركة المتئدة والمنجمعة على أتقى قلب رجل واحد. ومن التحاب في الله تعالى واللين واللطف والتودد والتياسر تتألف عناصر قوة الاقتحام ومصاولة المتحكمين الماسكين بزمام إشاعة فاحشة الكراهية وسياسة “فرق تسد”. التراحم بين المؤمنين ترس وواقي ضربات العدو الظالم الغاشم الذي لا يبرأ في مؤمن ولا مؤمنة إلا ولا ذلة. قال تعالى: أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ.
“ما قدروا على تلك الشدة إلا بوجود هذه الرحمة”[15]. فإذا انجمعت القلوب على الله واجتمعت على طاعة الله، وتوحيد الكلمة والتكتل لنصرة الإسلام والاقتداء برسول الله، وتساكن أعضاء الجسم المتراص تحقق المراد وهو القوة الضاربة فلا تتأثر الدعوة أبدا بحملات التضييق والتشهير والحصار. وآنذاك تقطع الدعوة الحانية البانية أشواط أخرى من النصر والتمكين وينقلب السحر على الساحر. لأنها حركة ربانية شعارها: “لا حول ولا قوة إلا بالله.” وعنوانها: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)). لأخيه المسلم والمؤمن، ولأخيه المسلم مهما فعل به، ولأخيه في الإنسانية عامة. دعوتنا حب وود.
- المحبة الصافية دعوة التأثير في العالم:
الإيمان حب الخير للناس. بل أن تحب لهم ما تحب لنفسك من إيمان واكتمال إيمان ونظر إلى الأعلى. الأعلى سبحانه. من أقوال حسن البنا رحمه الله تعالى: “ادعوا الناس بالمحبة“. كيف يمكن أن نؤثر في الناس وهم لا يستشعرون أننا نحبهم فعلا لا تصنعا. نحبهم لأنهم خلق الله، صنع الله. “إن رجل الدعوة رجل تهفو إليه الأفئدة، فهو مناط المحبة ومناط الرجاء للكمال والإحسان، فبالمحبة يجمع القلوب، وعلى المحبة ينسج تطوع المتطوعين للجهاد على منوال الطاعة”[16]. قال صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّكُمْ لا تَسَعُونَ النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَسَعُهُمْ مِنْكُمْ بَسْطُ الْوَجْهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ))[17]. وبسط الوجه وحسن الخلق إنما انبعاث القلب المحب الشفيق الطيب الرؤوف. فالدعوة إلى الله تعالى ومواكبة مقتضيات بناء دولة العمران الأخوي استيعاب واحتواء لا مقارعة ومواجهة. حتى الظالمون من بني جلدتنا ينبغي أن نشعرهم أننا نريد الخير لهم، ننشد لنا ولهم السعادة والأمان والسكينة والاطمئنان، حتى وإن الكلام قويا والحجة الدامغة والموقف المشهود والمكابدة المناجزة فإن القلب المعلق بالله تعالى يحب لهم. “اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون” النموذج النبوي الراشد الذي ينبغي أن ننسج على منواله، وقد أصابه صلى الله عليه وسلم الأذى الشديد منهم، لكنه نسبهم إليه فقال “قومي” شفقة وحرصا منه صلى الله عليه وسلم. الرحمة الكاملة. وخلاصة القول أنه لا يمكن أن نجمع بين إيمان كامل يذاق ويستطعم وقلب عامر بالحساسيات الضيقة والحساسيات الدفينة ومجامع الشحناء والبغضاء والحقد والكبر والعجب واحتقار الآخر والحرص على سفاسف الدنيا. القلب الطاهر المطهر يحب الله تعالى ويحب الحبيب المصطفى ويحب الصالحين المصلحين ويحب أن يكون كل الناس صالحين مصلحين. يحب الناس كل الناس. يريد لهم الخير.
- ما هي الأمور التي تغرس وتنمي الحب في الله والتصافي:
الدعاء والتوجه للمولى أن يرزقني الحب في الله:
الحُبُّ لله والحب في الله رزق يرْزقه الله من يشاء. عن عبد الله بن يزيد الخطيمي الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: ((اللهم ارزقني حبك، وحب من ينفعني حبه عندك. اللهم ما رزقتني مما أحبُّ فاجعله قوة لي فيما تحب. وما زَوَيْتَ عني مما أحِبُّ فاجعله فراغا لي فيما تُحب))[18].
الزيارة والتفقد والسؤال والمواساة:
زيارة الصالحين ومجالسة المومنين وزيارة المرضى… قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من عاد مريضاً، أو زار أخاً في الله، ناداه منادٍ: أن طِبْتَ وطاب مَمْشاك وتبوَّأت من الجنة منزلاً))[19].
الهدية المادية والمعنوية:
قال صلى الله عليه وسلم: ((تَهادُوا تَحَابُّوا))[20].
هدايا الناس بعضهمُ لبعضٍ تولـد في قـلوبهـم الوصـالا
وتزرع في الضمير هـوى ووداً وتكسوهُ إذا حضروا جمالا
الْتِماس العذر:
عن محمد بن سيرين رحمه الله قال: “إذا بلغكَ عن أخيكَ شيءٌ فالتمسْ له عذرًا، فإنْ لم تجدْ له عذرًا فقلْ: لعل له عذرٌ“.[21] عن أبي قلابة الجرمي رحمه الله قال: “إذا بلغكَ عن أخيك شيءٌ تكرهُه فالتمسْ له العذرَ جهدَك، فإنْ لم تجدْ له عذرًا فقلْ في نفسِك: لعلَّ لأخي عذرٌ لا أعلمُه“[22].
التعبير اللفظي عن الحب:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا أحبّ الرجل أخاه فليُخبره أنه يحبه))[23]. يقول الإمام المجدد رحمه: “كلمة «أحبك في الله» كلمة فارغة جوفاء إن لم يَكن عمارتَها البذلُ والعطاءُ والوقوفُ الساهر عند الشدة والحاجة”.
إفشاء السلام:
على من تعرف ومن لا تعرف. والابتسامة وطلاقة الوجه والكلمة الطيبة المبشرة ويسر العمل وسماحة المعاملة من السلام…
النصيحة وقبول النصيحة:
المؤمن مرآة المومن يقيل عترته ويوجهه للخير ويقدم النصيحة في طبق الهدية. ولا حب في من لا يقبل النصيحة.
الانتظام في الصف مع بالمؤمنين في مجالس الخير والمسجد وجلسات التربية والتعليم:
والتعاون الفعلي، والبذل والعطاء، والخدمة والرعاية، والتعاون على البر والتقوى، والتواصل والتزاور والتجالس والتراص في صف الجهاد، والانتداب للمشاركة في أعمال البناء الجماعي تربية وتنظيما وزحفا، وحملا لأعباء الدعوة والدولة، وتبليغا لرسالة الرحمة والمحبة للعالمين كلها أعمال تحقق التلاحم القلبي والاندماج العاطفي بين المومنين.
ذكر الله تعالى مع الصحبة يحصن المحبة:
وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِينا[24]. الشيطان ينزغ بين الناس ويشحنهم بالكراهية والبغض، لذلك كان ذكر الله وهو أحسن القول وهو الذي يطرد حظ الشيطان ويطهر القلب من وساوسه وإلقاءاته النجسة. ذكر الله تعالى تهليلا وصلاة على رسول الله تعالى، والحفاظ على الصلوات والقرآن الكريم قراءة واستماعا وعملا…. قال صلى الله عليه وسلم: “إن الشيطان قد يَئِسَ أن يَعْبُدَهُ المصَلُّون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم”[25]. والصحبة الصالحة تأخذ بزمام النفس السيئة إلى الصلاح والكمال الخلقي والوجداني، والصالحون العارفون والجماعة الربانية هم القادرون على تطهير النفوس وتزكيتها من رعوناتها إن كان مع الصحبة طموح نحو التنقي والترقي. قال الفضيل رحمه الله: ”ما من أحد أحب الرئاسة إلا حسد وبغى وتتبع عيوب الناس، وكره أن يُذْكرَ أحدٌ بخير”.
الدعاء لمن سبقنا بالإيمان:
من الأحياء والأموات. قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[26].
- تنبيهات:
– الحب المنشود ما هو “استراحة وتبادُل وُدّي للعواطف في مجالس الرخاوة والبطالة، بل لِلْحُبِّ في الله مُقتضيات وواجبات أدناها إماطة الأذى عن طريق من تحبهم في الله، وأعلاها مواجهة الـمُبْغَضين في الله في صف الأحباب في الله حتى الاستشهاد”[27].
– الحب في الله والبغض في الله تعالى معا. الحب في الله تعالى لذات الشخص وفعله الحسن . والبغض في الله حقا لا يتجاوز الفعل السيء إلى ذات الشخص.
ومنه حب الناس عموما وإن كانوا كافرين، أو ظالمين. حب الذات لأنهم خلق الله تعالى وبغض الأعمال والأفعال. يجيب تعالى سيدنا نوح وهو يناشد الله في ابنه فيقول: قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ، إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ[28]. عمل غير صالح.
– لا تعتمد على محبة أخيك ولا تستند على ثقته بك ووده لك فتخذله في الوفاء بعهد أو موعد أو قضاء دين أو القيام بخدمة….
– ((لا يَحِلُّ لمسلم أن يهجرَ أخاه فوقَ ثلاث ليال؛ يلتقيان: فيُعرِضُ هذا، ويُعرضُ هذا، وخيرُهما الذي يبدأُ بالسلام))[29].
– للمحبة مكدرات وخوارم: النميمة والقيل والقال، وتتبع العثرات… ورحم الله عبدا شغلته عيوبه عن عيوب الناس.
– الحرص على سلامة قلوب المومنين. قال صلى الله عليه وسلم: “لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئاً، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر“ [رواه أحمد]. فلا أبلغ غيري ما أسبب له كدرا اتجاه إخوته إلا ما كان ثابتا أو يخاف منه هدم بناء أو فساد علاقة أو من باب تحصين المحبة الجامعة وصف البنيان المرصوص.
– المحبة روح والنصيحة لازمتها وقرينتها، والطاعة بين المومنين تتويج للعمل المنسجم بين عمل وقوة بناء. هي الأثافي الثلاث البانية لجماعة المؤمنين.
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ.
[1] في رواية البيهقي: حتى إذا كان في وجه السَّحَر قام فتوضَّأ، فدخل المسجد، فصلَّى ثَنْتَيْ عشرة ركعةً، باثنتي عشرةَ سورةً من المُفصَّل، ليس من طواله، ولا من قِصاره، يدعو في كلِّ ركعتين بعد التشهد ثلاثَ دعوات، يقول: اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقِنا عذابَ النار، اللهم اكفنا ما أهمَّنا من أمر آخرتنا ودنيانا، اللهم إنا نسألُك من الخير، وأعوذ بك من الشرِّ كلِّه، حتى إذا فرغ…
[2] أخرجه الإمام أحمد والنسائي في الكبرى والبزار وغيرهم رحمهم الله جميعا، ورواه عبد الرزاق في مصنفه والرواية عنده. قال الحافظ العراقي رحمه الله: رواه أحمد بإسناد صحيح على شرط الشيخين.
[3] الحجر: 47.
[4] رواه مسلم رحمه الله تعالى.
[5] رواه البخاري رحمه الله تعالى.
[6] رواه مسلم رحمه الله.
[7] الشعراء: 87-88-89.
[8] رواه ابن ماجه رحمه الله. – المنهاج النبوي: 180.
[10] أخرجه مسلم والإمام مالك في الموطإ عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[11] المنهاج النبوي: 86.
[12] متفق عليه.
[13] أخرجه البخاري ومسلم رحمهما الله عن النعمان بن بشير بن بشير.
[14] الإسلام غدا: 203.
[15] المنهاج النبوي: 84.
[16] الإسلام غدا: 817.
[17] أخرجه البزار رحمه في مسنده.
[18] رواه الترمذي رحمه الله وحسنه.
[19] رواه الترمذي رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[20] رواه البخاري رحمه الله في الأدب المفرد، ومالك رحمه الله.
[21] رواه ابن عساكر رحمه الله في تاريخه.
[22] رواه أبو نعيم رحمه الله في حلية الأولياء.
[23] أخرجه أبو داود والترمذي رحمهما الله عن المِقدام بْن مَعْدِ يكَرِب رضي الله عنه بسند صحيح.
[24] الإسراء: 53.
[25] أخرجه مسلم رحمه الله عن جابر بن عبد الله رضي الله عنها.
[26] سورة الحشر: 10.
[27] الإحسان 1/190.
[28] سورة هود: 46.
[29] أخرجه البخاري ومسلم رحمهما الله عن أبي أيوب رضي الله عنه.