المجلس الأعلى للتعليم وسؤال الهوية

Cover Image for المجلس الأعلى للتعليم وسؤال الهوية
نشر بتاريخ

نجد أنفسنا في تاريخ تعليمنا سائرين عن قصد أو عن غير قصد ونحن ننعق بخزي وراء كل ناعق، يصعب علينا، وكفاءاتنا مهملة وشُورانا معطلة، أن ننجز تجربة تضرب في عمق تاريخنا التليد الذي خرج الأفذاذ من العلماء العاملين، والبحار الزاخرة من أهل المعارف والعلوم، والموسوعات التي يصعب الإحاطة بعلمها المتنوع المتعدد المشارب والمتشعب الفهوم.

نلهث وراء تجارب صيغت في بيئات مختلفة وضمن ظروف مغايرة ووفق تجارب لا تمت إلينا بوثيق صلة، افتتحت حملتها الجرارة وزارات سابقة وحكومات سالفة، ولا يزال يتحمل تبعات الغبن الذي تحدثه والهدر الذي تسببه والجهل الذي تخلفه من بيدهم السلطة الآن والقرار.

صرنا كأمثال تلك الدجاجة التي رددت قصتها على مسامعنا الجدات في ذلك الزمن الجميل، زمن الدراسة بعمق والحرص على الطلب والتنافس على التفوق، زمن مذاكرة العلوم في المنزل والصدق في التعليم والتعلم، ذلك الزمن الذي كنا نستحيي فيه من ملاقاة حارس المدرسة فضلا عن مديرها أو معلمها، ذلك الزمن الذي كان يعرف الجد في الأقسام والعطاء اللامتناهي الذي لم ينقطع بعدُ معينه عند القلوب المبصرة وذوي الهمم العالية من أصحاب الرسالات لا الحوالات، ذلك الزمن الذي كان يقدر فيه المعلم حتى كاد أن يكون رسولا، ذلك الزمن الذي لا مكان فيه للدروس الليلية أو النهارية المدفوعة الأجر التي ترهق جيوب الآباء وترهق طاقة الأبناء الاستيعابية.

في لحظة خيلاء واعتزاز بالذات، أرادت الدجاجة أن تزداد جمالا من خلال حرصها على تحسين مشيتها وليس أجمل من الطاووس في كبريائه وجماله، أخذت تحاكيه اليوم بعد الآخر، فلا هي حافظت على مشيتها ولا هي صارت طاووسا، ولا نحن صرنا فلندا أو فرنسا أو سويسرا تعليميا ولا نحن حافظنا على البقية الباقية من ماء الوجه.

في ظل غياب سياسة واضحة للتعليم، ذلك المجال الذي عليه نعول في كل إقلاع حضاري أو تفوق اقتصادي أو توازن اجتماعي، وفي ظل غياب مقاربة بيداغوجية حقيقية بعيدة عن الإملاءات الفوقية أو الدولية التي لا تستجيب لمتطلباتنا الآنية، وفي غياب الإرادة الحقيقية للإصلاح وفق مقاسات نعرفها وشروط نحن من يضعها واستجابة لخصاص أهل مكة يستشعرونه، سنعيش لأزمنة أخرى غير قادرين على احتواء أزماتنا، عاجزين عن الدفع بعجلة التنمية في بلادنا، متخبطين في معمعان الهدر المدرسي والاكتظاظ الصفي، وإضاعة المال العام في لقاءات لتمرير مخططات استعجالية وقرارات مجالس قلما ينخرط فيها أهل الاختصاص، وقراءة التوصيات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، والإعلان عن التدابير التي لا تزيد أزماتنا إلا استفحالا ومستوى تعليمنا إلا تراجعا ومدارسنا إلا سوءا وفشلا.

وبوقفة بسيطة جدا، عند أحد بنود رؤية وزارتنا المبجلة لإصلاح التعليم، وهي تعرض لجملة من المحاور استوقفني تدبير متعلق بالتمكن من التعلمات الأساسية في السنوات الأربع الأولى من التعليم الابتدائي، والتي تجعل من التدابير التي حددتها الرؤية الاستراتيجية للوزارة تسير في منحى التخفيف من خلال العناية بقطب اللغات، وقطب الرياضيات والعلوم وقطب التنشئة والتفتح الذي ضمنه فقط نجد الإشارة إلى التربية “الدينية” والاجتماعية والفنية والبدنية.

أي نداء لتخليق المدرسة من المستحيل تصوره بعيدا عن تلك القيم التي تغرس في الطفل وهو لا يزال في مقتبل العمر، وكأننا نسوي له السبيل الواضح المستقيم المعلوم الصوى قبل أن نقذف به في مجتمعات كثيرة التموجات، متنوعة الانحرافات ليمانع، بما علمناه وغرسنا في تربته من البذور التي حتما ستثمر، لعلها عملية تربوية شبيهة بالتعليم في حد ذاته الذي علمونا في ذلك الزمن أنه في الصغر مثل النقش على الحجر، وأن الآنية التي تنزلت فيها التربية أولا هي ذاتها التي يثمر فيها العلم، وأنه يستحيل أن ينسى أو يضمحل من الذاكرة لأن العقل استوعبه والروح تشربته فلا تجد عنه فكاكا ولا منه مناصا.

وإن كانت القاعدة تقول ألا مشاحة في الألفاظ، فكأني أشتم رائحة غير سوية لتسمية التربية الإسلامية بالدينية، هل القصد منها التعميم لتشمل مقرراتنا مثلا كل الرسالات والديانات السماوية منها والوضعية، أم أنها استجابة واضحة لإملاءات السادة في الضفة الأخرى الذين أصبح يقض مضجعهم ذاك البعبع الذي يسمى إسلاما؟ أم هو ذل الانبطاح الذي اعتدناه ممن يحكموننا ولا يجدوا عنه فكاكا؟ أم أن ذلك ليباركنا الأمريكان كما باركونا سلفا لأن مقرراتنا لا تدعو إلى الإرهاب، ذلك الإرهاب الذي كانوا سببا في افتعاله في أرض المسلمين وجعلوه مطية لافتراس الشعوب ومص دمائها فضلا عن خيراتها؟

إنها قضية مجتمع، بل قضية أمة تُتهدد أصولها وتُضرب خصوصياتها.

إنها رياح طمس الهوية قد لاحت من جديد، وناقوس منذر بالخيبات يدق من بعيد، وهو واجب المدافعة والممانعة يستنهض ذوي الهمم والمروءات … فهل من مجيب؟