عبثا يحاول الكيان المجرم إخراس صوت الحقيقة، لأن الصوت ليس شخصا يُردى شهيدا فيسود الصمت ويخيّم الخرس، بل رواية تستمد قوتها من نصاعة الحق وينبعث عنفوانها من عدالة القضية.
أنس الشريف ومحمد قريقع، ومعهما كوكبة مشرقة من المصورين والمراسلين، الذين اغتالتهم آلة القتل والإرهاب الصهيونية، لم يكونوا فقط صحفيين يمتهنون “حرفة” يؤدونها وينصرفون إلى حال سبيلهم في انتظار الراتب الشهري، بل كانوا، ككل شيء جميل في غزة العزة، أبناء القضية الفلسطينية الأصلاء، وصوتها الفضّاح لنازية العصر، ورسالتها الحيّة التي تخِزُ روح الأمة التائهة وضمير العالم الصامت.
هؤلاء الشباب، وغيرهم كثير من حملة الميكرفون والكاميرا والقلم الذين استشهدوا على درب الحق والحقيقة، نبتوا في مخيمات اللجوء، وترعرعوا على معاناة أهاليهم وتهجيرهم وتشريدهم وقتلهم وحرمانهم من أبسط متطلبات الحياة الكريمة، وشبّوا على معاني العزة والكرامة والإخلاص في العمل، وحين احترفوا مهنة المتاعب حملوا في دواخلهم معاني البذل والتضحية والفداء، نقلا للحقيقة ولو كانت مكلفة، وإيصالا للصوت من تحت أزيز الرصاص، وتبليغا للخبر المضمّخ بالدم رغم حملات التخويف والتهديد، واستشهادا شامخا في ميدان الرسالة والعدالة والحقيقة.
قبل أنس وقريقع، قتل الكيان المُلفَّق، الآخذ في التآكل، عشرات الصحفيين والإعلاميين حتى بلغت ضحاياه من رجال هذه المهنة النبيلة 250 صحفيا منذ تدشين عدوانه النازي، في فعلة شنيعة لم يسبقه إليها أحد، ضدا على كل القوانين والمواثيق والأعراف التي تصون عمل الصحفيين ومؤسسات الإعلام، وتحيطه بكثير من الحماية والحُرمة حتى في أماكن النزاع والحروب. ولعل ما ساعد الكيان اللقيط المارق على مضيه في هذه العنجهية الوالغة في الدم، ليس فقط تواطؤ الدول المستكبرة في العالم وتخاذل مؤسساته الرسمية وشبه الرسمية، وتغطيتها على أفعاله التي لو ارتكب غيره عشرها لقامت الدنيا ولم تقعد، ولكن أيضا بسبب ضعف موقف مؤسسات الصحافة والإعلام الدولية ونقاباتها ومنظماتها المهنية والمدنية حتى باتت خافتة التأثير مبحوحة الصوت.
لم يعد هناك، في غزة المستباحة، شيء محرم أو إجرام منكر يقع تحت مسمى “خطّ أحمر”؛ فالكيان المارق السادي قتل الصحفيين والأطباء ومهنيي الصحة، وقصف المدارس والمساجد وأماكن اللجوء وسيارات الإسعاف، ومنع الطعام والدواء والمواد الغذائية والماء حتى أحدث مجاعة باتت تحصد الأطفال والشيوخ، ودمّر وجرّف وأباد كل أوجه الحياة ولم يوفر لا الزرع ولا النبات ولا الحيوان… تطرف غير مسبوق، ووحشية لا مثيل لها، وعربدة يقابلها العالم “الحر المتحضر” والأنظمة العربية والإسلامية “المشبعة نخوة” بصمت القبور وإدانة الموات.
في ظل هذا المشهد الشّديد الوضوح؛ عصابة إجرامية إرهابية تفعل ما يحلو لها سفكا للدم الفلسطيني وتدميرا للحياة، ورغم أن الأمر يستوجب ردا رسميا قويا من دول المنطقة وحكام المسلمين، لا يقل على الأقل عن نظراء كثيرين أمثالهم في دول الغرب وأمريكا اللاتينية وإفريقيا، نرى كيف أن دول التطبيع العربي تواصل علاقاتها الحرام مع محترفي الإجرام، وتستمر في تسخير مقدراتها وموانئها وموادها الخام وأطعمتها وما لذ وطاب من غذائها لتمدّ بها العدو وهو يقتل الأخ المسلم العربي الإنسان، ولعل ما صدر من تقرير يكشف حجم معاملات تلكم الدول (وعلى رأسها مصر والمغرب والأردن والإمارات…) وتغطية حاجيات الكيان من المواد الغذائية خلال شهر يونيو المنصرم ( 116.4 مليون دولار)، في ظل المجاعة التي تضرب القطاع وتقتل المستضعفين، ليقف عند حجم الخيانة والخذلان والقاع السحيق الذي سقطت فيه بعض أنظمة أمتنا.
في ضوء ذلك، ونحن نستحضر أرواح أنس وقريقع والدحدوح الابن والغول وشيرين… وفي ظل المرحلة الفارقة التي تعيشها منطقتنا وأمتنا، سيتواصل التمايز الفاحص للاصطفافات الفاضح للخيانات، وسيستمر الشعب الفلسطيني العظيم، ومن ورائه أحرار الأمة والعالم، في العض على الجراح النازفة، جراح طعن العدو وغدر الصديق، مُصدِّرا مشهد العزة والتضحية والصمود، حاملا لواء الإنسان والإسلام، فاضحا السقوط الفظيع لعالم الوحشية والنفاق، مقدما نماذج مشرقة وأيقونات رائقة، تضيء الطريق وتوقد المشعل، وتحمل الحقيقة الدامغة والحق الراسخ: أن هنا فلسطين باقية، وأن هنا احتلالا سيزول.