القيم في منظومة التربية والتعليم وعلاقتها بالهوية

Cover Image for القيم في منظومة التربية والتعليم وعلاقتها بالهوية
نشر بتاريخ

استهلال

موضوع “القيم في المناهج التعليمية ودورها في الحفاظ على الهوية” شائك، ويطرح تساؤلات حارقة؛ خيطها الناظم هو “أزمة قيم يعيشها العالم”. فالعالم المعاصر  يعيش حالة من التوتر والصراع، والقلق والاكتئاب وانعدام الاستقرار، والانحلال الأخلاقي، والتفكك الاجتماعي، وضعف الضمير الإنساني، وتغليب المصالح الخاصة على المصلحة العامة… فاهتزت بهذه المعاول القيم، واضطربت المعايير الأخلاقية والاجتماعية.

هي أزمة قيم إذن؛ تهدد الفرد والنظام الاجتماعي. ولنا أن نتساءل عن  الدور المنوط بالنظام التعليمي والتربوي في ترسيخ القيم وحفظ الهوية وحل معضلات أزمة القيم؟

وهو سؤال حارق مقلق؛ يُسَائِلُ الأنظمة التعليمية والسياسية والاجتماعية بوجه عام؛ باعتبار أن النظام التربوي والتعليمي؛ يشكل بؤرة المحاضن المسؤولة عن تنشئة الإنسان وبناء النظام الاجتماعي، إلى جانب المؤسسات  المسهمة في بناء الفرد والمجتمع منها: الأسرة؛ والإعلام، والمسجد، ومؤسسات المجتمع المدني…

– فما معاول الهدم التي تخرب النسق القيمي وتطمس الهوية في أنظمتنا التعليمية والتربوية؟

– وما وظيفة النظام التربوي والتعليمي في التربية على القيم وحفظ الهوية؟

إشكالات صميمية، تحاول هذه المداخلة مقاربتها والتفاعل معها في حدود ما يسمح به الوقت؛ بمداخلة  بعنوان: “القيم في منظومة التربية والتعليم وعلاقتها بالهوية”.

أولا: معاول هدم الهُوية في منظومة التربية والتعليم

لماذا معاول الهدم؟ وما مسوغ تصدير الكلام بلفت النظر إليها؟

الجواب عن ذلك؛ هو أن الحديث عن “أزمة القيم” هو حديث عن  تمظهرات الأزمة، والمطلوب الأهم أن نربط مظاهر الأزمة بالأسباب المسببة لها؛ فالأزمة تجليات لخلفيات وممارسات وسياقات ومساقات…

ومعاول هدم النسق القيمي كثيرة ومتعددة، نذكر بعضها اختصارا في الآتي:

1. طبيعة السياسة التعليمية: فالسياسة التربوية والتعليمية هي الخلفية المرجعية للدولة والمجتمع  في إدارة الفعل التعليمي والتربوي، وهي التي تحدد المواصفات العامة لمخرجات  المناهج، من خلال الإجابة عن سؤال مركزي: “أي إنسان نريد؟ أو أي مواطن  نريد؟”.  

أما بناء المناهج وتوطين البرامج وترسيم القيم المستهدفة، فهو عمل إجرائي لا يخرج عن مُقتضى محددات السياسة التعليمية.

2. ضبابية المرجعية القيمية لمناهج التربية والتعليم: ومرد ذلك إلى التبعية والاستلاب للمنظور الحداثي؛ والتلبس بلباس ثقافة دخيلة تحرف النسق القيمي بشعارات قيمية معطوبة: من مثيل “الجمع بين الأصالة والمعاصرة”، “والتسامح” الذي يراد منه الاستلاب والانبطاح للغالب”، “والحرية الفردية” التي يراد بها التفسخ الأخلاقي والمسخ الثقافي.

والهدف من ذلك طمس الهوية، لأن جهود الجمع بين المرجعيتين؛ هي من قبيل محاولة تربيع الدائر أو تدوير المربع، ولا يتم الجمع بينهما إلا باحتواء أحدهما للآخر، في إطار التدافع القيمي.

وهذا الخليط غير المنسجم ينشئ أجيالا مشوهة المرجعية القيمية، ومن صور ذلك أن يدرس المتعلّم في مناهج التربية الإسلامية دروسا حول العفة والحياء من حيث المفهوم والمقاصد ونماذج مشرقة لتمثل هذه القيم؛ وبالموازاة مع ذلك يدرس في مادة علوم الحياة والأرض أن العازل الطبي  يقي من  الأمراض المنقولة جنسيا.

 فهذه الصورة – وغيرها كثير – تربك  نظرة المتعلم للقيم التربوية تصورا وامتثالا.

3. شكلية  الإصلاحات  التعليمية: فالمتتبع لسيرورة “إصلاحات” التعليم مند سبعينيات القرن الماضي، يدرك أن هذه المحطات قد شابتها أخطاء قاتلة ومكرورة نجملها في أمرين:

–  أولهما؛ إسناد مهمة الإصلاح إلى غير أهله، والاستبعاد المقصود لأهل الكفاءة من العلماء والمربين والخبراء والمتخصصين، ممن يحملون هم البناء والإصلاح.

وثانيهما؛ التركيز على الشكل دون الجوهر، من صور ذلك:

* التركيز على المساطر والوسائل وإهمال الغايات والمآلات.

* التعامل الجزئي مع القيم (قيم حقوق الإنسان، ومقاربة النوع..) وإهمال النسق القيمي الكلي والمتكامل والمتوازن، والشامل لمفهوم الإنسان والوجود والمصير…

* التركيز على الجوانب المادية وإهمال الجوانب المعنوية.

* فك ارتباط القيم بالدين (منظور لائكي علماني) غرضه هدم المرجعية الدينية لمنظومة القيم.

ثانيا: وظيفة  النظام التربوي والتعليمي في التربية على القيم وحفظ الهوية

يمكن أن نُوطّن وظائف النظام التعليمي التربوي من خلال ربط هذه الوظائف؛ بأركان الهوية  – ومنظومة القيم التربوية – وأسس بناء المناهج وعلاقتها بالقيم. ولعل أهم هذه الوظائف ما يأتي ذكره:

1. حفظ الهوية الدينية (العقيدية): وذلك ببناء مناهج تربوية متساوقة والرؤية الإسلامية في بناء الإنسان عقيدة وشريعة وأخلاقا؛ فلا تربية بدون مرجعية، وجهود البناء والتخليق لا تخرج عن الأصول العقيدية والتشريعية لديننا الحنيف.

2. حفظ الهوية التربوية: بأن تحفظ  هذه المناهج حق المتعلم في معرفة الله، وأن تبصره بحقيقة الخالق والخلق والمصير؛ بهدف إخراج الإنسان الرسالي، والأمة الرسالية الموصوفة بالخيرية، والمطلعة بموقع الشهود بين الأمم.

3. حفظ الهوية الفكرية: السائد في المرجعيات الفكرية للنظم التربوية والتعليمية في العالم؛ هو الاستناد لما أنتجه العقل الفلسفي الغربي (النظرية العقلية؛ والنظرية التجريبية؛ والنظرية الحسية…)؛ وهي نظريات عاجزة عن بناء الإنسان (وأقصد به البناء الفكري والعقلي) وفقا للمنظور الإسلامي؛ لأنها تجعل من الوسائل مصادر للمعرفة. ووفقا لهذه النظريات؛ تكون  النماذج التربوية الناجحة  هي التي تراهن على العقل والحس والتجربة في مناهج التعليم وبرامجه.

وتأسيسا على ذلك؛ يكون حفظ الهوية الفكرية في النُّظُم التربوية والتعليمية مفتقرا إلى  استصحاب أصول نظرية المعرفة الإسلامية،  في بناء المناهج وتوطين المعارف في البرامج والمقررات. وهي نظرية تقرر مبادئ أهمها:

– أن الاستمداد المعرفي لا يخرج عن أصلين: الوحي والكون، وأنه لا تعارض بين الوحي المسطور والوحي المنظور؛ الكون، وإنما  من التكامل والتعاضد ما لا يقبل الانفصام.

– إن وسائل الاستمداد هي: القلب والعقل والحواس، والمطلوب – شرعا – أن تكون هذه الأدوات خاضعة لسلطان الوحي  لا لسيطرة الهوى.

ونشير هنا إلى ملحظ نفيس، هو أن تفصيل القول في مبادئ نظرية المعرفة ليس نقاشا فلسفيا أو ترفا فكريا، بل هو أساس من أسس بناء المناهج وفقا لما استقر عليه الفكر التربوي الحديث، بل هو البوصلة الموجهة لاختيار المعارف وتوطينها في البرامج والمقررات، ولهذه المباحث حضور لافت في مادة الفلسفة والمواد العلمية. والمؤسف؛ أن هذه المواد تُدرس معزولة عن مبادئ النظر المعرفي الإسلامي، مما يشوه البناء الفكري للنشء، ويضرب الهوية الفكرية في مقتل.

4. حفظ الهوية التاريخية للأمة: نحن أمة لها تاريخ؛ ولا تربية على القيم خارج التاريخ، ومناهج التربية والتعليم منوط بها حفظ الذاكرة التاريخية للأمة، وما تحويه من دروس وعبر، ونخل كتب التاريخ واختيار المعارف التي تبصر المتعلم بسيرورة الأمة الشاهدة وما لحقها من انكسارات في ذاتها في علاقتها بباقي الأمم… فمعرفة التاريخ شرط في فهم الواقع واستشراف المستقبل…

والمهم قوله: هو أن لا تربية  على القيم من خارج  التاريخ… والمعرفة التاريخية حابلة بالقيم (التوثيق، والإنصاف، والاعتبار، والاعتزاز، والاعتراف بالخطأ، والصدق في النقل…). ومن المهم جدا تصحيح المفاهيم التي نقلها المؤرخون، لأن حركة التأريخ لم تنفك عن سيف السلطان وجبروته؛ سواء تعلق الأمر بتاريخ الأمة الإسلامية، أم بالتاريخ الوطني للشعوب….

وحديثنا عن التاريخ يفتح لنا بابا لمناولة إشكالية التعامل مع التراث، أو فقه التعامل مع التراث باعتباره إنتاجا معرفيا تشكَّل عبر تاريخ الأمة، وهو خير شاهد على الأوضاع العلمية والتعليمية، ومحدد لموقع القيم التربوية ضمن هذا الموروث المعرفي تأسيسا وتدريسا وتأليفا.

حاصل ما تقدم: إن مناهج التربية والتعليم منوط بها وظائف رئيسة في حفظ الهوية وتحصين النسق القيمي، منها: حفظ الهوية الدينية والتربوية والفكرية والتاريخية والحضارية، وهي وظائف منشودة ومشروطة بجودة منظومة التربية والتعليم وتعزيز موقع القيم في ذاتها وفي مخرجاتها.

هذه إشارات موجزة، أشكر لكم حسن المتابعة، وأجدد الشكر للجهات المنظمة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مداخلة في ندوة “القيم في المناهج التعليمية ودورها في الحفاظ على الهوية” التي نظمتها الهيئة العامة للعمل النسائي ونشرتها قناة الشاهد الإلكترونية يوم الخميس 04  نونبر 2021.