تساؤلات الربيع العربي
في خضم الأحداث المتسارعة التي تعيشها المجتمعات العربية الإسلامية اليوم، خاصة تلك التي تعيش ما بات يعرف بالربيع العربي والذي أحيى في الشعوب، والحمد لله، روح المقاومة والرفض للظلم والاستبداد، والمطالبة بالحق في الحرية والكرامة والعزة. أصبحت العديد من الأسئلة تطرح على مستقبل دول الربيع العربي (تونس، مصر، ليبيا، اليمن…) من قبيل: ماذا بعد إسقاط النظام؟ كيف يجب التعامل مع من كان جزءا من النظام السابق سواء أكانوا أشخاصا أو مؤسسات؟ كيف يجب التعامل مع الفرقاء السياسيين؟ هل بالإقصاء والإقصاء المضاد أم بالحوار والتواصل والاعتراف المتبادل؟ كيف يمكننا بناء وطن موحد متماسك بعد سنوات طويلة من الفرقة والتشتث والفساد والاستبداد؟ من يعطي المثال والأسوة الحسنة بتشميره عن ساعد الجد لكنس ما تركه الباطل من ويلات الأمية والفقر والمرض؟ من يضحي بأجره؟ من يبذل ماله ووقته وجهده في سبيل نهضة هذا المجتمع وتقدمه؟ أم إن الأمر تسابق نحو الحكم وتسابق نحو الكراسي حيث الشهرة والمال؟ هل إسقاط النظام هو الحل لكل ما تعيشه الأمة من ويلات؟ هل تغيير القوانين والدساتير هو كل الحل أم إنه جزء من الحل، والجزء الأكبر يتطلب تغيير الإنسان من خلال عملية التربية والتنشئة؟ إذا كان الكل منصرفا ومنشغلا بالتغيير السياسي حيث الانتخابات والمؤسسات، فمن يتصدى للتغيير التربوي الإيماني الأخلاقي حيث القيم والمبادئ، حيث محاضن العلم والإيمان؟
من أجل الإجابة عن كل هذه الأسئلة يأتي مفهوم “القومة” كأحد المفاهيم المحورية في نظرية المنهاج النبوي للأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله، يقترح الوسائل والبدائل والآليات الكفيلة بإحداث ذاك التغيير الهادئ المتدرج، الرحيم، لما بالنفس من غفلة وبعد عن الله وما بالواقع من ظلم واستبداد وحكم بغير ما أنزل الله.
القومة مفهوم قرآني أصيل
القومة الإسلامية من مادة: “قام” القرآنية في مثل قوله عز وجل وأنه لما قام عبد الله يدعوه 1 وقوله عز من قائل: يآ أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط 2 وقوله عز وجل: يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا 3 ، وقوله تعالى: فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله 4 .
القومة وضع القوة في يد الشرع. ولا يقوم إلا عبد الله الذي أقام وجهه لدين الله. لا يريد قصاصا ولا انتقاما. ولا ثناء ولا إنعاما، ولا مناصب ولا رواتب ولا مكاسب. وطن نفسه على المقاصد لا على المطالب. وعلى أداء الواجب لا على التعب الناصب.
إن الدين ما هو صلاة ناعسة وصيام ونسك وحوقلة عاجزة في المساجد، لكنه جهاد شامل. إقامة الصلاة والصيام والزكاة والحج أركان منبثقة عن شهادة أن لا إله لا الله وأن محمد رسول الله. وهي شهادة تحرر من عبودية البشر وظلم البشر. ووصاية الحاكم الجائر على الأمة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أصبح وهمه غير الله فليس من الله ومن أصبح لا يهتم بالمسلمين فليس منهم” 5 .
القومة والتغيير النفسي التربوي الإيماني الإحساني
يقول الله تعالى: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم 6 . يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: التغيير كذب على النفس وعلى الناس إن لم يحدُث في قلب الرجل والمرأة، إن لم يصبح الصدق والأمانة، والنزاهة والكفاءة، هي القيم المعبرة، لا الرشوة والمحسوبية والخيانة والنفاق. ولا سبيل إلى ذلك إلا بتنشئة أجيال مشبعة القلوب بخوف من الله. والحياء من الله. وحب الله والإتباع لسنة رسول الله) 7 .
ومن مفاتيح التغيير النفسي التربوي إقامة الصلاة؛ فما أمر الله بالصلاة أو مدح المصلين إلا وجاءت كلمة الإقامة، فالصلاة هي عماد الدين وأداؤها في المسجد والجماعة أساس البناء النفسي للمؤمنين. لا يمكن إعادة ترتيب حياة المسلمين ولا تقعيد السياسة والاقتصاد والأخلاق على الأُس الصحيح دون إقامة الصلاة) 8 ودون استحضار مراقبة الله في السر والعلن. أي دون قومة الإحسان. يقول عز من قائل: فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم 9 . إقامة الوجه لله عز وجل والطلب القلبي الدائم، الذكر الدائم لله عز وجل والخضوع له ومناجاته هي علائم اكتمال الدين. الإسلام تأسيس للأركان، والإيمان بناء وتشييد، والإحسان هو القُبة، ومن مجموع الإسلام والإيمان والإحسان يكون الدين.
القومة والتغيير السياسي العدلي الاستخلافي
يقول عز وجل: كونوا قوامين لله شهداء بالقسط 10 . ويقول أيضا: وأقيموا الوزن بالقسط 11 . إذن فهي قومة لإحلال العدل محل الجور، والشورى محل الحكم الفردي التسلطي، عدلية نموذجية تخاطب الإنسان من قبل همومه الدنيوية تعمل على إصلاحها والرقي بها حتى يطمئن الإنسان على لقمة العيش، فيعبد الله ويستعد للقائه. لقد كاد الفقر أن يكون كفرا، وللقضاء على الفقر وأسبابه، واقتلاع الظلم من جذوره، لابد من صبر ومصابرة، لا بد من مجهود حتى يقتنع الشعب بأن ما به من ويلات سببه الحكم الفردي التسلطي وأن الشورى واختيار الحاكم ومحاسبته خطوة مهمة في طريق بناء دولة العدل والحق.
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: القومة أيها الأحباب قيام من السقطة الكبرى التي انحدرت فيها الأمة عدة قرون، فهي عملية طويلة المدى معقدة تريد الصبر والمصابرة، إنها قضية أجيال. وعلى الجيل البادي في التحويل مسؤولية الدلالة على الخط القويم، ومسؤولية توجيه الجهود وِجْهة البناء العميق لعقود من السنين قبل أن تقطف الثمار) 12 .
إنها قضية أجيال يا من يريد أن يعيش العدل والمساواة عشية إسقاط النظام. إنها قضية بناء متواصل لعقود من السنين قبل أن تقطف ثمار الرخاء الاقتصادي والاكتفاء الذاتي والتطور الصناعي. يا من يستعجل فيقول: هذا الربيع العربي لم يأت بخير.
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: القومة عملية طويلة النفس عالية المقصد لها أسباب مشهودة محسوسة من قبيل التدبير والتخطيط، والمناورة والتنفيذ ولها أسباب غيبية هي من سنة الله في الآفاق والأنفس (…) القومة أيها الأحبة ثبات وصبر وثقة بالله وعمل دائب) 13 .
خلاصات أساسية
القومة مفهوم قرآني أصيل يطرح البدائل والوسائل لتغيير ما بالنفس من غفلة وبعد عن الله، وما بالواقع من ظلم واستبداد وحكم بغير ما أنزل الله، وما بالأمة من تفرقة وتشتت وابتعاد عن حبل الله.القومة كأداة للتغيير، تعتبر التغيير النفسي التربوي أساسا وشرطا لنجاح التغيير السياسي العدلي.القومة تنطلق من كون التغيير السياسي وبناء دولة العدل والمساواة والكرامة والعزة، ليس هدفا في حد ذاته بل هو مجرد وسيلة وأداة حتى يطمئن الناس على لقمة العيش فيعبدون الله ويعرفونه، ويقومون بالوظيفة التي من أجلها خلقوا. أما الهدف والغاية فهو نيل رضى الله. القومة بناء مستمر في الزمان والمكان، حتى تقويض دعائم الباطل وإقامة دولة العدل والإحسان وليس تربص بنظام قائم وتصيد الفرص لإسقاطه وانتهى الأمر.
القومة دعوة للتغيير الهادئ، المتدرج، الرحيم، الشمولي والمتوازن الذي يجمع بين التغيير التربوي الإيماني الإحساني والتغير السياسي العدلي، بين الخلاص الفردي للإنسان المسلم والخلاص الجماعي للأمة ككل.
[2] سورة المائدة الآية (8).\
[3] سورة المزمل (1-6).\
[4] سورة الروم الآية (29).\
[5] رواه الحاكم عن ابن مسعود.\
[6] سورة الرعد الآية (11).\
[7] رسالة إلى الطالب والطالبة إلى كل مسلم ومسلمة ص (17).\
[8] العدل الإسلاميون والحكم – قومة لا ثورة ص 246.\
[9] سورة الروم الآية (29).\
[10] سورة المائدة الآية (8).\
[11] سورة الرحمن الآية (9).\
[12] سنة الله – القومة – ص 292.\
[13] نفس المرجع ص 293.\