كلما حلت ذكرى المولد النبوي الشريف، تعالت أصوات تَدَّعي أن الاحتفال بها بدعة لا أصل لها، وأن الصحابة وهم أكرم الناس وأشدهم اتباعا للدين، لم يحتفلوا بها، وكيف لنا ونحن أدنى منهم عبادة واتباعا، أن نحتفل بها؟
فأقول وبالله أستعين:
أولا: القصد من الاحتفال به تذكير الناس بسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وربط الأسر بمعرفته، وشد انتباه الشباب بأسوته، وترغيب العامة في محبته، وتنبيه الحادين عن منهجه بإبراز وإيضاح محجته، وردِّ أصحاب الفهم الحرفي المتصلب لسنته وسيرته وهديه صلى الله عليه وسلم.
ثانيا: يجب أن نُفرق في الاحتفال به بين العادة والعبادة، فهو ليس عبادة لأن العبادات توقيفية، ولا حق لأي كان في إضافة شيء فيها، لكن إذا اعتبرناه عادة، فالأصل فيها الإباحة، وعلى هذا الأساس فالاحتفال به مباح، ويزداد إباحة، إذا نمت في القلوب جذوة محبته.
ثالثا: ولمن يقول: لو كان الأمر هكذا، فلماذا لم يحتفل به النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه من بعده؟ نقول:
– يجب أن نعلم أنه صلى الله عليه وسلم احتفل بمولده، فقد سئل صلى الله عليه وسلم، عن صوم يوم الاثنين قال: “ذاك يوم ولدت فيه ويوم بعثت أو أنزل علي فيه” 1. فالاختلاف إذاً ليس في الاحتفال به، وإنما الاختلاف في كيفية الاحتفال به، ومن فَهِم غير ذلك فلا يُحجِّر على الناس ما فهموا منه، سيما وأن اللفظ يحتمله، والنصوص لا تعارضه.
ويُقاس على هذا ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه عندما قدِم المدينة رأى اليهود تصوم يومَ عاشوراء، فقال: “ما هذا؟” قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجّى الله بني إسرائيل من عدوّهم، فصامه موسى – عند مسلم شكراً – فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “فأنا أحقّ بموسى منكم”، فصامه وأمر بصيامه” 2، ففي هذا دليل على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كانوا يفرحون بما أعطاهم الله من نَصْر دعوة شكرا له، وتحتفل أقوامُهم بذلك، واحتفل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن فيه نصرا للدعوة وتعريفا بجهاد موسى ومن معه، أفلا نحتفل نحن ورسول الله صلى الله عليه وسلم فرح الوجود بمولده، ويُخفف الله عن أبي لهب العذابَ كل يوم اثنين، لأنه أعتق جارية له أخبرته بولادة محمد صلى الله عليه؟ أيفرح الله بفرح كافر ولا يفرح لفرح مؤمن يحب رسول الله؟
أضف إلى هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ. وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ.” 3.
أفلا يفتحُ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم المجالَ هنا لنجتهد في استلهام السنن الحسنة التي تَخدُم الإسلام وتعرف بصاحب رسالته، وتبرز للناس سلعة الله الغالية، طبعا بالإبداع دون الابتداع؟
وقد يجيبك قائل: فلماذا لم يحتفل بولادته الصحابةُ الكرام وهم أكثر الناس تعلقا به؟
أقول له: لا يعني عدم احتفالهم به، أنه حرام أو بدعة. وليس كل ما سكتوا عنه حرام، لأن الحاجة لم تكن تدعو لذلك، فقد رأَواْ نورَه صلى الله عليه وسلم وخبروا جهادَه، وسقاهم غيثُ رحمته وعظمة أخلاقه، فأنساهم ذلك أن يتفطنوا لمثل هذا.
رابعا: ثم ما بال القائلين ببدعة الاحتفال كونُه لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلماذا جمع أبو بكر الصديق القرآن الكريم في مصحف واحد، ولم يكن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وجمع عمر بن الخطاب صلاة الأفراد في صلاة التراويح على صلاة الجماعة، ولم تكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجمع عثمان بن عفان الناس على قراءة واحدة للقرآن الكريم، وحرّق المصاحف، ولم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم..
ولماذا بَدَّعوا الاحتفال بالمولد النبوي ولم يُبدعوا أصول الفقه، وتجميع الأحاديث، وترقيم الآيات… فهل كان هذا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عهد صحابته؟!!
وإن كان هَمَّ هؤلاء، هو تنقية الدين من البدع، فأين أقوالهم في أعياد فُرضت على الأمة، ويُحتفل بها أياما وهي ما أنزل الله بها من سلطان؟فماذا يعني العيد الوطني؟ وعيد الاستقلال؟ وعندنا هنا في المغرب أعياد شتى، عيد المسيرة، وعيد ثورة الملك والشعب وعيد تقديم وثيقة الاستقلال… فمن الأولى بالبدعة أهذه أم تلك؟!
خامسا: ألسنا في أمس الحاجة اليوم إلى الاحتفال بذكرى مولده صلى الله عليه وسلم، بعدما أصبحت قدوةَ شبابنا وشوابنا لاعبو كرة القدم، وممثلو مسلسلات الفجور ومخنثو الماسخ من الفن؟
أليس من الصواب أن نجمع أسرَنا على دراسة سيرته، والتأسي بأخلاقه ورحمته، ونُشّعَ في الناس، محبته والتعلق به؟ أليس من الضروري على الدولة، التي تجمع شواذ العالم وتأتي بهم لينشروا الفسق والفجور في مهرجانات العري والتفسخ، أليس حريا بها أن تجمع علماء الأمة وتفسح المجال للدعاة، كي يُعرِّفوا بخير البرية وينشروا رحمته وأخلاقه ويبينوا شخصيته ويربطوا الناس بأسوته، وهي أحوج إلى ذلك من غيرها، وقد دهاها الغلو والتطرف والتفسخ من كل جانب.
فإن قيل إن يوم ولادته هو يوم وفاته، فالأولى الحزن وليس الفرح؟
علينا أن نعلم أن الفرح بولادته صلى الله عليه وسلم عم الكون، وفرحُنا به يزيد، لأنه جاءنا بالحق بعد الظلال، وبالرحمة بعد العناء، وبالسكينة بعد الحيرة، وجاءنا بالإسلام كاملا مكملا، فبعدما انتهى الوحي وكمل الدين، كان الموت لزاما عليه صلى الله عليه وسلم، وهو قَدَرُ قَدَّره الله على كل الخلائق، إنك ميت وإنهم ميتون 4، هذا وقد أمرنا الإسلام أن نفرح عندما يولد لنا ونذبح العقيقة، ونهانا عن النياحة عندما يموت لنا.
خامسا وهذه أقوال في جواز الاحتفال بالمولد النبوي من علماء الأمة:
– قال ابن تيمية: “وتعظيم المولد واتخاذه موسما قد يفعله بعض الناس ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم” 5.
– قال الإمام ابن حجر رحمه الله: “والحاصل أن البدعة الحسنة متفق على ندبها، وعملُ المولد واجتماع الناس له كذلك، أي بدعة حسنة.” 6
– الإمام المحدث الفقيه أبو شامة شيخ الإمام النووي.
قال في رسالته: “ومن أحسن ما ابتدع في زماننا ما يُفعل كل عام في اليوم الموافق لمولده صلى الله عليه وآله وسلم من الصدقات، والمعروف، وإظهار الزينة والسرور، فإن ذلك مشعرٌ بمحبته صلى الله عليه وآله وسلم وتعظيمه في قلب فاعل ذلك وشكراً لله تعالى على ما منّ به من إيجاد رسوله الذي أرسله رحمة للعالمين” 7.
– الإمام الحافظ المحدث جلال الدين السيوطي قال معقباً على كلام الحافظ ابن حجر العسقلاني: “وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت، وهو ما ثبت في الصحيحين من أن النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم فقالوا: هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجَّى موسى، فنحن نصومه شكرًا لله تعالى. فيُستفاد منه فعل الشكر لله على ما مَنَّ به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نِقْمة، ويُعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سَنَة. والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأيَّة نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبيّ نبيّ الرحمة في ذلك اليوم” 8
– الإمام الحافظ أبو الخير السخاوي قال رحمه الله في فتاويه: “عمل المولد الشريف لم ينقل عن أحد من السلف الصالح في القرون الثلاثة الفاضلة، وإنما حدث بعد، ثم ما زال أهل الإسلام في سائر الأقطار والمدن الكبار يحتفلون في شهر مولده صلى الله عليه وسلم بعمل الولائم البديعة، المشتملة على الأمور البهجة الرفيعة، ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور ويزيدون في المبرات، ويعتنون بقراءة مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عميم” 9
– الإمام الشهاب أحمد القسطلاني شارح البخاري: الذي قال “فرحم الله امرءًا اتخذ ليالي شهر مولده المبارك أعياداً ، ليكون أشد علة على من في قلبه مرض وإعياء داء”. 10
– العلاَّمة الشّيخ محمد بن عمر الحضرمي الشافعي ت:930 هـ، قال: “فحقيقٌ بيومٍ كانَ فيه وجودُ المصطفى صلى الله عليه وسلم أَنْ يُتَّخذَ عيدًا، وخَليقٌ بوقتٍ أَسفرتْ فيه غُرَّتُهُ أن يُعقَد طالِعًا سعيدًا، فاتَّقوا اللهَ عبادَ الله، واحذروا عواقبَ الذُّنوب، وتقرَّبوا إلى الله تعالى بتعظيمِ شأن هذا النَّبيِّ المحبوب، واعرِفوا حُرمتَهُ عندَ علاّم الغيوب، “ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ” 11
– قال الامام ابن الحاج الفاسي رحمه الله: “فكان يجب أن يزداد يوم الاثنين الثاني عشر في ربيع الألوف من العبادات والخير شكراً للمولى على ما أولانا من هذه النعم العظيمة وأعظمها ميلاد المصطفى صلى الله عليه وسلم” 12
– قال الامام زيني دحلان رحمه الله: “ومن تعظيمه صلى الله عليه وسلم الفخر بليلة ولادته وقراءة المولد” 13
سادسا وختاما: جميل أن نتيقظ في الدفاع عن ديننا وتخليصه من الشوائب التي علقت به، وتجديده من البدع والمنكرات العظيمة، لكن لا يدع هذا أن لا نفهم المقاصد الجلية من بعض الأفعال، وأن نتريث في إطلاق الأحكام، فالله تعالى ابتعثنا دعاة لا قضاة، وأعظم البدع في هذا الزمان، السكوت عن الظلم ومداهنة الظالمين والارتماء في أحضان الفاسدين، فنسأل الله تعالى أن يعطينا علماء كالعز بن عبد السلام، والطاهر بن عاشور، وياسين عبد السلام، الذين عرَفوا البدعة الكبرى وبينوها وعرَّفوا بها.
والحمد لله رب العالمين.
[2] صحيح البخاري كتاب الصيام باب صوم يوم عاشوراء
[3] صحيح مسلم كتاب العلم باب من سن في الإسلام سنة حسنة
[4] الزمر 30
[5] اقتضاء الصراط المستقيم ص 297
[6] السيرة الحلبية ج1 ص 137
[7] الباعث على إنكار البدع ج1 ص23
[8] الحاوي للفتاوى ج1 ص292.
[9] فتاوي السخاوي، ذكرها محمد بن يوسف الصالحي الشامي في كتابه سبل الهدى والرشاد ج1/362.
[10] المواهب اللدنية 1/148
[11] حدائق الأنوار ومطالع الأسرار في سيرة النبي المختار ج1/ 19.
[12] كتاب المدخل إلى تنمية الأعمال بتحسين النيات والتنبيه على بعض البدع والعوائد التي انتحلت وبيان شناعتها وقبحها ج 1ص 36.
[13] الدرر السنية ص 190.