القرآن مصدرا للتلقي والتوجيه في منهاج الجماعة

Cover Image for القرآن مصدرا للتلقي والتوجيه في منهاج الجماعة
نشر بتاريخ

مقدمة

إن القرآن الكريم كلام الله تعالى، أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم للإيمان به والاهتداء به لنيل السعادة في الدنيا والآخرة. وقد بذل المسلمون الأُول جهودا كبيرة في الاعتناء به ونقله من جيل إلى جيل، حفظا وفهما، تعليما وتعلما، تدبرا وسلوكا. وقد نتج عن هذا علوم كثيرة هي التي سميت لاحقا بالعلوم الإسلامية.

وعندما نعود إلى حركات الإصلاح التي عرفها العالم الإسلامي فإننا نجد القرآن الكريم، بعلومه تلك، حاضرا في برامجها ومناهجها، لأنها أيقنت أن لا سبيل إلى الإصلاح بدون القرآن الكريم، وإن اختلفت طرق التعامل معه. وجماعة العدل والإحسان لا تخرج عن هذه الحركات؛ فقد جعلت القرآن الكريم قضية مركزية في تصورها ومنهاجها وبرامجها، بل إنه المصدر الأول للتلقي والتوجيه. فما هي ملامح هذه المصدرية؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال أشير إلى أنه من الصعب، في هذه الورقة الموجزة، استعراض ملامح مصدرية القرآن في التلقي والتوجيه. لذا سأقتصر على بعض الملامح:

1- تعلم القرآن وتعليمه

إن المطلع على مؤلفات الإمام رحمه الله ورسائله وكلماته المصورة يكتشف حرصه الدائم على تعلم القرآن الكريم؛ تلاوة وحفظا وفهما. ولعلنا لن نبالغ إن قلنا قد جعله أولى الأولويات.

في كتابه المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، وهو منهاج عمل الجماعة، جعل الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله على رأس العلوم العينية “كتاب الله عز وجل تلاوة وحفظا وفهما، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم دراسة واتباعا، وإتقان لغة القرآن لمحاربة الهيمنة الثقافية الأجنبية واحتلالها عقول أبنائنا وميادين حياتنا” 1. والمقصود هنا بالعلوم العينية تلك العلوم التي لا يمكن أن يستغني عنها المؤمن، وواجبة في حق كل فرد. وهذا ينطبق على كل وارد على الجماعة عبر جلسات التعليم.

وكم كان فرح الإمام عظيما حين علم رحمه الله أن اللجنة العلمية للجماعة تتعاهد على حفظ القرآن الكريم وتعليمه وتدبره. ففي رسالة وجهها إليها يقول: “لقد سرني أن أقرأ عما تنجزونه في مجالس التعليم والموعظة والتدريب على الخطابة وتجويد القرآن الكريم. بارك الله فيكم” 2. ثم يضيف محفزا: “القرآن! القرآن! القرآن! ما أروع أن يشد المؤمن والمؤمنة معاقد العزم ليحفظ القرآن ويجمعه ويحافظ عليه. ما أحسن أن يبسط المرء ساعد الجد والإرادة إلى كسل نفسه وغفلة حسه يخاطبها ويؤنبها ويدفع بها: “هذه السنة سنة القرآن!” فعل ذلك فلان من الجماعة وفلان، أفراد، ونحن نريد من أولي العزم في الحفظ والفهم والعلم والعمل جماعات. وليصبر على الهوان والضعة والضياع من لا يحرك همته قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يقال لصاحب القرآن اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في دار الدنيا فإن منزلك عند آخر آية تقرأ بها”. رواه أحمد وأبو داود والترمذي بسند حسن” 3.

هذه الرسالة، وإن كانت موجهة لفئة بعينها، فإنها عامة بعموم قضيتها التي يمكن جمع أجزائها من مكتوبات أخرى وصوتيات؛ ذلك أن قضية تعلم القرآن وتعليمه ليست بقضية نخبوية. إنها قضية الإنسان المسلم عامة. ولهذا نجده رحمه الله يجعل من تعلم القرآن الكريم وتعليمه أمرا تنفتح به الجماعة على الأمة، لأنه يهم كل المسلمين، بل هو من تاريخهم.

في كتابه إمامة الأمة يعود بنا الإمام رحمة الله عليه إلى تاريخ المسلمين حيث كان الاحتفاء بمعلم القرآن ومتعلمه، وكأنه يرى أنه أحق ما يمكن الاحتفاء به. يقول: “كان إكرامُ التلميذِ، والاحتفالُ به لدى ختم القرآن وحفظِه، مناسبةً اجتماعيةً سعيدة تفتخر الأسَرُ بها. وكان إكرامُ أستاذ القرآن سُنةً مُتبعة. وقد جاء من الآثار ما يُبيح العطاءَ من بيت المال على تعليم القرآن، كما جاءت آثارٌ تنكر ذلك، وتنـزِّهُ كتاب الله أن يكون لتعليمه عوضٌ ماديٌّ” 4. ويستفاد من هذا تبجيل أهل القرآن تلامذة وأساتذة. كيف لا وهم الذين قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: “خيرُكُم مَن تعلَّمَ القرآنَ وعلَّمَهُ” 5. وكذلك قال فيهم الشاطبي رحمه الله أبياته الرائعة:

فَيَا أَيُّهَا الْقَارِي بِهِ مُتَمَسِّكاً ** مُجِلاًّ لَهُ فِي كُلِّ حَالٍ مُبَجِّلا
هَنِيئاً مَرِيئاً وَالِدَاكَ عَلَيْهِما ** مَلاَبِسُ أَنْوَارٍ مِنَ التَّاجِ وَالحُلا
فَما ظَنُّكُمْ بالنَّجْلِ عِنْدَ جَزَائِهِ ** أُولَئِكَ أَهْلُ اللهِ والصَّفَوَةُ المَلَا
أُولُو الْبِرِّ وَالإِحْسَانِ وَالصَّبْرِ وَالتُّقَى ** حُلاَهُمُ بِهَا جَاءَ الْقُرَانُ مُفَصَّلَا
عَلَيْكَ بِهَا مَا عِشْتَ فِيهَا مُنَافِساً ** وَبِعْ نَفْسَكَ الدُّنْيَا بِأَنْفَاسِهَا الْعُلَا
جَزَى اللهُ بِالْخَيْرَاتِ عَنَّا أَئِمَّةً ** لَنَا نَقَلُوا القُرَآنَ عَذْباً وَسَلْسَلَا 6

2- تعلم القرآن وتعلم الإيمان

في منهاج الجماعة لا ينفصل تعلم القرآن الكريم عن تعلم الإيمان. وتكوين الجيل القرآني إنما يتم بالجمع بين هذين التعليمين. وهذا من أوائل الأعمال التي يجب الاهتمام بها. يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: “بعد صحبة المؤمنين، بعد لقاء رجال الدعوة والاستئناس بهم ومحبتهم التي تجر إلى الإيمان، يأتي ذكرُ الله عز وجل، فيتمُّ التفاعل بين عامِلَيْ التربية الإيمانية الأساسيين. ويتجدد إيمان العبد الصادق بالإكثار من ذكر لا إله إلا الله حتى يستنير القلب، وتزولَ قساوتُه، ويوقى شُحَّه، فيتأهلُ لتلقي كلام الله عز وجل بالسماع الخاشع والنية التنفيذية. كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول لمُسْلِمَةِ الجيل التابع: «أوتينا الإيمان قبلَ القرآن، وأنتم أوتيتم القرآن قبل الإيمان، فأنتم تنثرونه نثر الدقل». أي ترمونه رمي التمر الحشف اليابس” 7.

وهنا نسأل: ألا يمكن لتعلم القرآن الكريم بمعزل عن تعلم الإيمان أن ينتج شيئا للإنسان المسلم؟

إن الإجابة عن هذا السؤال نجد جزءا منها في كلام عبد الله بن عمر رضي عنهما أعلاه. وهنا نضيف أن الأمة إنما عانت طيلة تاريخها من هذا الفصل، حتى صار القرآن الكريم كلاما مبهرا معجزا حقا، لكن لا أثر له في واقع الناس. لذا، إذا انفصل تعلم القرآن عن تعلم الإيمان كان تعليما فارغا من التقوى ينتج خاملين متبركين.

وفي هذا السياق ينبه الإمام إلى أن “من يقرأ القرآن بدون استعداد إيماني قلبيِّ فإنه لا يجد إلا كلاما كالكلام. إن كان عربيا قُحّاً أخذته فصاحةُ القرآن المعجزة، وبلاغته وبيانُه. فإن كان من أعجام اللسان والقلب فإنما هو جرْيٌ على سطح الحَرْفِ القرآني. ويَهدي الله من شاء أن يشرَح صدره للإسلام حتى بهذه القراءة. إن الله على كل شيء قدير. فإذا قرأ المؤمن كتابَ الله عز وجل بالتعظيم اللازم، والتعرُّضِ للرحمة بالإقبال على الله عز وجل تقربا إليه بتلاوة كتابه وتدارُسِه، غَنِمَ مزيدا من الإيمان، ومزيدا من النور” 8.

ولا يمكن أن نتحدث عن تعلم القرآن وتعلم الإيمان دون أن نقف مع حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تبارك وتعالى، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده” 9. هذا الحديث يستدل به المسلمون بمختلف طوائفهم على قيمة الاجتماع لمدارسة كتاب الله وتعلمه، والإمام ياسين رحمه الله يدعونا إلى ملاحظة الشروط الأربعة الآتية 10:

1- الاجتماع، وهو صحبة المؤمنين والكينونة معهم.

2- في بيت من بيوت الله، حُرمة المكان ليتم الاحتفال والاهتبال والتعظيم.

3- التلاوة، وهو التعبد المحض بترديد كلام الله تعالى.

4- التدارسُ، وهو إشراك العقل في العملية لننتقل من التعبد بالحرف المقدس إلى تنفيذ الأمر على جسر التعليم والتعلم والتواصي بالحق والصبر.

وتكون النتيجة: إذا استُكمِلَتْ هذه الشروطُ كان فضلُ الله على الجماعة الملْتفين حول كلام ربهم أكرم الجزاء: يذكرهم الله فيمن عنده كما اجتمعوا على كلامه، وتَحُفُّهم الملائكة الطوافون على مجالس الذكر جزاءَ تلاوتهم، وتنـزل عليهم سكينة العلماء جزاءَ تدارسهم، وتغشاهم الرحمة جزاء تعظيمهم.

3- القرآن معيار وموجه

سبقت الإشارة إلى مكانة أهل القرآن، وإذا اجتمع القرآن مع التقوى وجب تفضيل أهل القرآن وتقديمهم، فضلا عن الاهتمام بهم والاحتفاء بما في صدورهم؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يختار الرجال لإمارة جنده من حفَظَة القرآن، وكانوا على نَمَطٍ عالٍ من الدين، “فدخَلَ معيارُ حفظ سور القرآن للتمييز بين طَيِّبِينَ. وإنه لمعيار خالِدٌ مع ملاحظة الفرق بين أمثالِ الصحابة الذين برهنوا على صدقهم في حفظ كتاب الله تعالى ودينه بالجهاد المُرِّ، وبين أمثال الخوارج الذين وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم يقرأون القرآن لا يتجاوز حناجرهم، وأنهم يَمْرُقون من الدين كما يَمْرُقُ السهمُ من الرَّمِيَّةِ. مع هذه الملاحظة وهذا الحَذَرِ من حَمَلَةِ الأسفار والقُراءِ المارقين يكون حِفظُ القرآنِ، بكل معاني الحفظ، مرشِّحاً معتبرا” 11.

إننا هنا أمام اعتبار القرآن الكريم معيارا لاختيار الناس لمهام بعينها، من حيث المناسبة والجدوى. لكن في التصور المنهاجي يكون القرآن معيارا أيضا، لكن من جهة الدلالة على الإيمان. فإذا عدنا إلى كتاب “القرآن والنبوة” وجدنا الإمام رحمة الله عليه يخبرنا أن للكون آيات وعلامات، وهذه الآيات وتلك العلامات تدعو الإنسان إلى النظر إليها وتدبرها. فهل ينفع العقل؟

يرى الإمام رحمه الله أن “العقل آلة زائغة فاشلة إن اشتغلت بالأثر عن المؤثر، ووقفت عند مظاهر الخلق، تقبل ببلادة التفسير العقلاني الذي يقول إن كل هذا لا معنى له” 12. ويستدل هنا بأن “دعوة الرسل وخطاب الله عز وجل عباده في القرآن يعتمدان على إثارة كوامن الإنسان التي خلقها سبحانه قبل العقل ومن وراء العقل وفوق العقل في طيات الكائن البشري حتى يميل المعنى الإنساني المسمى قلبا إلى «سماع» الحق. وكلمة «سمع» في القرآن أساسية. فهي في القرآن مفتاح القلب ومدخل الإيمان. وهي في القرآن كثير. قال الله عز وجل: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ (الأنعام، 36). على العقل أن يجالس القرآن والداعيَ ويتلمذ له و«يسمع». فالسماع بهذا المعنى القرآني هو مصدر العلم. ثم يتسرب الإيمان للقلب، ويتسع القلب ليكون وعاء صالحا لاستيعاب القرآن ورسالة القرآن” 13.

نلاحظ مما سبق أن كون القرآن الكريم معيارا وموجها لا يمكن أن ينفصل عن الإيمان، كما أن العقل أيضا لا يمكن أن يهتدي إلى الإيمان أو إلى ما يعززه بدون القرآن، فهل يمكن القول: إذا حصل المؤمن القرآن فقد حصل كل شيء؟

4- لا بديل عن لغة القرآن

رأينا في بداية هذا المقال أن من العلوم العينية إتقان لغة القرآن لمحاربة الهيمنة الثقافية الأجنبية واحتلالها عقول أبنائنا وميادين حياتنا. لقد صارت لغة القرآن غريبة بين أهلها. وإن مما يحرص عليه منهاج الجماعة إعادة الاعتبار لهذه اللغة وللمصطلح القرآني. وقد لا نبالغ إن قلنا إن تعظيم لغة القرآن من تعظيم القرآن نفسه، ولا ينفصل ذلك عن تعلمه وتعليمه، كما رأينا سلفا. والمقصود بلغة القرآن لغة اللسان والقلب والإيمان.

وفي سياق العلوم العينية التي بدأنا بها، يخبرنا الإمام رحمه الله في منهاج عمل الجماعة أن “يتعلم جيل التجديد لغة القرآن ولغة السنة. فاللغة العربية، تلك الصافية المتينة لا لغة الجرائد، هي الآلة والوسيلة لفهم ما أنزل علينا بلسان عربي مبين. فلا بيان إلا بها، أي لا وضوح” 14.

ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى ما نتج عن تغييب لغة القرآن وإحلال لغة الغازي المستعمر مكانها، حتى اتسعت الهوة بين الأجيال المسلمة، وصارت لغة القرآن غريبة عنهم. لذا، كان الاهتمام بها في منهاج الجماعة كبيرا كما يبين النص السابق الذي جعلها من العلوم العينية.

في ظل هذا الوضع المزري للغة القرآن يخبرنا الإمام رحمه الله أن لا بديل عن لغة القرآن، يجب أن نربى ونربي على هذا، رغم ما يمكن أن نصادفه من تحديات مختلفة. ولعل أول ما يصادفنا هنا هو الحوار مع النخب المغربة أو اللائكية التي تختلف لغتها عن لغة القرآن. وهنا لا يخفي الإمام رحمه الله قلقه بقوله: “في هذه السوق المختلطـة، وتوقعا لما تأتي به الأيام من ضرورة التحالف مع القوى السيـاسية القومية الوطنية -وربما اللاييكية المستخفية بمذهبها- نخشى أن ينزلق خطاب الإسلاميين أكثر مما انزلق إلى تبني لغة معقمة فضفاضة تدخل في مصطلح الآخرين، ويدخل فيها المصطلح. فتبتعد عن لغة القرآن وحقائق القرآن. وقد سرى هذا التطبع منذ زمان حتى إنك لتقرأ من «إنتاجات» السوق ما تقرأ فلا تجد ذكرا لله ولا للرسول ولا للآخرة والجنة والنار والحق والباطل” 15.

خاتمة

إن التربية في المنهاج النبوي تربية قرآنية؛ غايتها تكوين جيل قرآني كما جيل الصحابة رضي الله عنهم. من هنا، كان القرآن حاضرا في كل صغيرة وكبيرة، بل إنه المصدر الأول للتلقي والتوجيه. وقد شملت هذه المصدرية جوانب متعددة، يخلص منها القارئ إلى أن القرآن الكريم يحيط بالمؤمن في جميع أفعاله وأقواله وخطراته. وهذا أهم ما يتعلمه المرء وأهم ما تريد الجماعة تبليغه؛ إذ لا يمكن أن يحرم أحد من فضل القرآن الكريم حفظا وتلاوة، فهما وتدبرا، سلوكا وفكرا، تعليما وتعلما.


1 – المنهاج النبوي، ص 237.
2 – الرسالة العلمية، ص 11.
3 – نفسه.
4 – إمامة الأمة، ص 149.
5 – رواه الترمذي.
6 – أبو محمد الشاطبي، متن الشاطبية حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات السبع، ص 2.
7 – إمامة الأمة، ص 145.
8 – نفسه ص 146.
9 – رواه الإمام أحمد.
10 – إمامة الأمة، ص 146.
11 – إمامة الأمة، ص 68.
12 – القرآن والنبوة، ص 23.
13 – نفسه.
14 – المنهاج النبوي، ص 237.
15 – حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، ص 57.