خرجت في صباح ذلك اليوم وأنا كلي يقين بأنني سأعود للمنزل بعد ساعة على الأكثر، حتى أني اخترت من ملابسي العباءة التي أرتديها عادة للذهاب عند البقال أو لقضاء الأغراض القريبة.. لم أحمل حقيبة حتى! حملت هاتفي ببطارية لا تتعدى النصف لأني كنت متأكدة أني سأعود قريبا، وأنني سأخضع لفحص طبي روتيني وسأرجع محملة بعلب الدواء المعتادة وتوصيات مملة بالابتعاد عن القهوة والأكل الذهني، أو ربما حمية جديدة أترك فيها ما تبقى من الوجبات والأطعمة..
الساعة تشير إلى الحادية عشر ليلا وأنا لم أعد للمنزل بعد كما توقعت! مازلت خارج المنزل! لا أرتدي عباءتي السوداء، فقد نزعتها نزع المضطر وحل محلها لباس آخر لم أتوقع أني سأرتديه يوما؛ سترة واسعة لونها أبيض مزينة ببعض الدوائر الزرقاء الغامقة.. يدي اليسرى معلقة ببعض الأنابيب الخضراء، ويدي اليمنى مثقلة بجهاز لقياس الضغط يقيس من تلقاء نفسه في كل مرة.. كنت أعلم كل شيء في ذلك الوقت إلا أن أعلم أين أسير وماذا ستحمل لي الدقائق والساعات القادمة التي لا تأبى أن تمر إلا ببطء شديد..
المكان باردا جدا، وكمية الأضواء فيه ذكرتني بمحل تصوير جارنا القديم “العم جمال” الذي التقط أغلب صوري المدرسية خلال طفولتي، التفتت يمينا وإذ بأنابيب حديدية تملأ جدران الغرفة، ألوانها مختلفة بين الأخضر والأبيض والأزرق. كانت الأنابيب تحيط بالغرفة في خطوط مستقيمة تنكسر بين الفينة والأخرى، كانت أشبه بالدارة الكهربائية التي كنا نرسمها في الصف الثامن، كنت أقف خلف الأستاذ وأحمل الأقلام في يدي، وكلما احتاج لونا يمد يده خلف رأسه مرددا “أخضر، أحمر..” فأضعه له في يده.. كان زملائي يلقبونني في حصصه بالممرضة أو مساعدة الجراح، من كان يظن أني سأتذكره في مثل هذا اليوم وفي قلب غرفة العمليات! لاحظت أن من بين الأنابيب أنبوبا رابعا لا لون له ذكرني بالسلك الأرضي في الدارة الكهربائية الذي كان دائما محايدا.. تساءلت بكل جدية مع نفسي – رغم وضعي الحرج – عن سبب عدم صباغته كباقي الأنابيب الأخرى، لكن لم أجد داعيا للجواب فسحبت عنه اهتمامي.. كانت أمامي سبورة صغيرة وأقلام، تمنيت عندما لمحتها أن لا أكون موضوع الدرس هذه الليلة وأن تتم عمليتي بسرعة وسلام..
كنت سأصف الغرفة بالهادئة لكن صوت الآلات لم يسمح بذلك للأسف، توترت في البداية من ذلك الصوت، لكني فيما بعد صنعت منه لحنا ورافقته بالتطبيل بأطراف أصابعي فاختفى توتري..
أخبروني أن أنتظر الطبيب حتى ينتهي من عملية أخرى لطفلة بقربي عمرها أربع سنوات.. أعلم أن عمر الطفلة لم يكن معلومة تستحق الذكر، لكنهم تعمدوا إخباري قصد التشجيع وتخفيف التوتر.. وقد نجحوا في ذلك فعلا! أخذت أحدث نفسي بعبارات من قبيل “أسمعت عمر الطفلة؟ أين هي شجاعتك؟ وأين هي فاتحة القوية؟ كيف كنت ستفتحين القدس وأنت الآن خائفة من فتحة صغيرة في بطنك؟ سؤال لطالما ردده إخوتي على مسامعي في كل موقف أخاف فيه من حشرة ما أو من الأماكن المرتفعة.. لا أعلم ما علاقة فتح القدس بالقدرة على قتل الصراصير المنزلية؟ ولكني أجزم أن طريقتهم تلك دائما ما كانت تنجح معي..
كانت الغرفة مملة كثيرا رغم انشغالي بحفظ تفاصيلها إلا أني أنهيت جلسة الملاحظة بسرعة، وعدت لأتذكر وضعي.. مررت بعدها لترديد الأذكار والأدعية التي أحفظها، وبعض السور والآيات الفاضلة، حتى أناشيد رشيد غلام رددتها، لا أعلم السبب، ولكن دائما ما أستحضرها في المواقف الصعبة.. خاصة مطلع أنشودته “يا إله الكون يا سندي..” فلها مفعول عجيب في الحد من توتري..
جاءت الممرضة برفقة مسؤول التخدير، أظن أن من ضمن مهامهم الحفاظ على الابتسامة ومحاولة جذب أطراف الحديث مع المريض للتخفيف عنه، لكني أحسب أنهم بالغوا في ذلك قليلا.. حتى بدوا سعداء جدا والابتسامة لم تفارقهم.. استغربت من سعادتهم العارمة حتى ذهب بي خيالي بعيدا وقلت في نفسي لربما سيقومون بسرقة بعض الأعضاء من جسدي.. سيناريو محتمل جدا أمام هذه القهقهات العجيبة والمعاملة اللطيفة جدا، ومع مُواطن لم يعتد على المعاملة اللطيفة خاصة في أماكن كهذه. قاطعني الفريق الطبي بعد أن كدت أدخل في نقاش طويل مع نفسي عن فساد القطاعات في البلاد ومقارنتها بالبلدان المتقدمة، علمت منهم أن وقت التخدير قد حان، لكن الممرضة أخذت وقتا طويلا في البحث عن شرايين يدي، كنت أعلم أن شرايين يدي ليست بارزة، ورقيقة، لكني لم أكن أعلم أنها ستختفي وتخونني في يوم كهذا.. طالت عملية البحث حتى شعرت بالنعاس.. وبدأت أشعر بمفعول المخدر الذي لم يخترق جسدي بعد! سخروا مني قليلا وخلقوا من الوضع نكتة أخرى.. سايرتهم في ذلك حتى جاء الفرج فحقنوني أخيرا بالمخدر.. حاول مسؤول التخدير طرح الأسئلة المعتادة التي تطرح على المريض حتى يتأكدوا من تخديره، لكني لم أتعبهم أبدا فقد غبت عن الوعي قبل أن أسمع السؤال الأول!
استيقظت لأجد نفسي في غرفة أخرى أكثر دفئا وأقل إضاءة.. نظرت للساعة وإذا بها منتصف الليل.. شعرت وكأني غفوت غفوة ما بعد الظهيرة، لم أصدق أن اليوم الذي كنت أظن أنني سأعود فيه للمنزل باكرا قد انتهى.. بدأ يوم جديد وأنا لم أعد بعد! سخرت من نفسي للحظة ومن الأمان الذي نشعر به أحيانا فيجعلنا نطمئن لوجودنا وطريقة عيشنا في هذه الحياة الدنيا، ولا نستطيع توقع أي أحداث منها أو تقلبات مفاجئة.. شكرت الله على لطفه ودوام إنقاذه.. نظرت حولي وإذ بأهلي يحيطون بي في الغرفة، لمحوني مستيقظة وأخذوا يرددون: حمدا لله على سلامتك، ثم غفوت مرة أخرى استجابة لراحة جسدي ومهدئات ما بعد رحلة عمليتي..