العلاقة بين الجيران: حاجة لبناء ذاتي وتواصل اجتماعي

Cover Image for العلاقة بين الجيران: حاجة لبناء ذاتي وتواصل اجتماعي
نشر بتاريخ

في ظل التحولات العميقة التي شهدها المجتمع إبان العقود الأخيرة، إثر مخلفات السياسة الاستعمارية، وفي ظل الانسلاخ الأخلاقي الذي تسعى إلى ترسيخه السياسة الإعلامية  العالمية والمحلية، وتراجع المنظومة التعليمية وإفراغها من محتواها التربوي، وما أحدثته الثورة التكنولوجية والرقمية، يكون المجتمع المغربي قد فقد العديد من قيمه وعاداته التي ساهمت لقرون في بناء علاقات مجتمعية متينة، كان لعلاقة الجوار دورا مهما وبارزا فيها.

لعل أبرز ما فقدته تلك العلاقة هو التواصل الذي كان يجمع الجيران فيما بينهم، فتحولت إلى علاقة مؤسسةً على القطيعة، وعلى المجهولية بدلا عن المعلومية (العلم بأسماء الجيران وبانتمائهم القبلي، وأبنائهم..)، بل في أحسن الأحوال أصبح الجار رقما والتعريف به يُختزل في “رقم البيت الذي يقطنه”، وبذلك تراجع منسوب التواصل ومستوياته، وفي الكثير من الأحيان تلاشى وترهّل، إن لم نقل اختفى واندثر، وانتقلت معه تلك العلاقة من الجمع إلى الفرد، ومن الدينامية الجمعية إلى الدينامية الفردية، بل الأدهى والأمر تحولت إلى الفردانية السلبية.

بيد أن العلاقة بين الجيران هي علاقة مقدسة، حظيت في ديننا الحنيف بمكانة سامية تمتح سموها وقدسيتها من كلام الله عز وجل، فقد أمر سبحانه بالإحسان إلى الجار كما أمر بالإحسان إلى الوالدين واليتامى والمساكين،  قال الله عز وجل في محكم كتابه: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (سورة النساء، الآية 36). وظل  جبريل عليه السلام يوصي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالجار حتى ظن عليه الصلاة والسلام أنه سيورثه، عن عائشة رضي الله عنها، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مازال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه” [صحيح متفق عليه].

إن منطلق العلاقة وأسها رباني، وتشريعها إلهي، وسلوكها نبوي، وهو ما ينبغي التذكير به والتأكيد عليه، وتلاشي تلك العلاقة إنما هو ضرب للقيم الدينية قبل أن يكون ضربا لقيم كونية أو مجتمعية؛ أكدت بمختلف مشاربها، على أن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه وتواصلي بالضرورة، وله حاجة نفسية وتربوية للعلاقة التي تربطه بمن هم حوله سواء داخل البيت أو خارجه ضمن محيطه القريب، نظرا للمشترك الذي يجمعه بهم، ماديا كان أم معنويا. وحاجته لتحقيق التواصل معهم، هي حاجة لتحقيق ركن من أركان سلامة العيش الجماعي.

 تكمن أهمية التواصل مع الجيران، وتعزيز معاني الجورة بين الأسر، في مساهمتها بتشكيل الوعي الجمعي، والضمير الأخلاقي الجماعي، وترسيخ القيم الدينية، والمبادئ الأخلاقية، والحفاظ على الروابط الإنسانية التي تجمع الإنسان بأخيه الإنسان، وإسهامها في الحفاظ على الصحة النفسية، والرفع من منسوب جودة حياة الفرد داخل محيطه.

فنجاح ذلك التواصل، والحفاظ على سلامة العلاقات، رهين بوجود ضوابط ومبادئ تحفظ للجار خصوصيته، واستقلاليته، وحرمته، ومكانته. وهو ما نجده في هديه عليه الصلاة والسلام، فقد حذر من إذاية الجار، أيما تحذير، عن أبي هريرة قال: قال رجل: يا رسول الله إن فلانة فذكر من كثرة صلاتها وصدقتها وصيامها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال: هي في النار. قال: يا رسول الله فإن فلانة فذكر من قلة صيامها وصلاتها وأنها تصدق بالأثوار من الأقط ولا تؤذي بلسانها جيرانها، قال: هي في الجنة. رواه أحمد والبزار ورجاله ثقات (الأثوار: أي القطع، الأَقِطِ: نوع من الجبن يعمل من لبن الإبل المخيض). وفي حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فلا يُؤْذِ جارَهُ…” أخرجه البخاري ومسلم.

فعلاقة الجوار تقوم على الاحترام والمحبة والمودة، على التعاون والائتلاف، لذلك فإن لها الأثر البالغ في بناء الفرد والمجتمع، فعلى مستوى البناء الفردي، تسهم في التوزين بين سلوكه الديني والآخر الدنيوي، لترفع من شأن عاداته إلى مستوى عباداته، فينعكس إيجابا وتوازنا على مستوى وجوده بين ذاته وبين محيطه، وفي بعد مجتمعي تسهم في تمتين العلاقات بين الأفراد، وتعزز تماسكهم الذي يفضي بالضرورة إلى تماسك المجتمع، كما تساهم في تعزيز الواقعية في العلاقات الإنسانية بدلا عن الافتراضية.

لذلك فإحياء التواصل بين الجيران، هو إحياء لمعان مقدسة، وإعادة بناء قيم دينية إنسانية، تعيد للفرد حقيقته الاجتماعية، وللمجتمع مكانته الحقيقية.