العقل عند الإمام ياسين: من اكتشاف العلامات إلى التقرب بالآيات

Cover Image for العقل عند الإمام ياسين: من اكتشاف العلامات إلى التقرب بالآيات
نشر بتاريخ

يخالف الأستاذ ياسين في نقده للعقلانية بأغلب مدارسها عبر تاريخ الفلسفة سائر ما أنيط بالعقل من تعاريف وحدود، ويعتبرها قاصرة عن أداء المعنى الحقيقي؛ بل هي اختزالية متحيزة عنصرية في بعض الأحيان، إذ تقصر العقل على شعب أو جنس أو ثقافة دون غيرها، أو تختار للعقل أحد ملامحه وتحده بمقتضاه، ويختار الأستاذ ياسين أن يعيد سؤال تعريف العقل وذلك بالرجوع إلى ما جاء به القرآن الكريم من مفهوم للعقل، لا باعتباره وجودا وجوهرا مستقلا كما قرر أرسطو على سبيل المثال، وإنما باعتباره وظيفة للقلب، فهو يعتبر أن القلب المومن هو الذي يعقل عن الله. العقل المُعتبر شرعا هو وظيفة قلبية تابعة للإيمان. وفي هذا يكون خلاص العقل من رِبْقة الهوى. معنى هذا بلغة العصر أن العقل بلا غاية تتجاوز الإنسان، وبالتالي تتجاوز العقل الإنساني المعاشي والمصلحة المباشرة والكون المنظور، يبقى فراشة تحترق حول ينابيع المعارف الكونية محجوبا عن مصدر الكون ومعارفه. وهو الله الخالق جل جلاله. تجد العقلانية تفرض في الفيلسوف المُخرِّص والعالم الباحث صرامة المنهجية، وحياد العقل، وتحري النتائج المنطقية حسب المنطق المختار. وتفرض خاصة عزل العقل عن العاطفة. ومن تلك الصرامة وهذا العزل تولدت الحضارة المتحجرة اللا إنسانية التي يُسيطر بأسها على العالم اليوم. العقل غاية لنفسه، يتأمل ذاته بإعجاب وغرور في استدلالات الفيلسوف ومخترعات الباحث. ولا يبقى وقت ولا مكان ليسأل العقل نفسه من أنا ومن أين جئت وفيم كل هذا؟)ما خرج العقل العقلاني من تأمل الكون بدرس الذين يعقلون العقل المطلوب. قال الله تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (سورة البقرة، 164).الكون آيات وعلامات، والعقل آلة زائغة فاشلة إن اشتغلت بالأثر)[1].

الكون= علامات=آيات

لا تحصل وظيفة العقل عند الأستاذ ياسين مع انصرافه وتعلقه بالظواهر وانشغاله عن قراءة العلامات والآيات أو ما يسميه باولو كويلو بالإشارات[2]، لأنه لا يحصل له مع تعبه وكده إلا كشف الظاهرات في أحسن الأحوال، انشغال بالأسباب القريبة عن السبب الأول، انشغال وزيغ عن معرفة حقيقة الحقائق، انغماس في الأثر ولهو عن المؤثر، سجين هذا العقل منذ مدة في مغارة الحقيقة أو كهف الغرور، مسرور مزهو إذ بات خبيرا في الظل.

فلسفة الوجود عند الأستاذ ياسين تبدأ من هنا، من اعتبار الوجود كله علامات على صاحب الوجود وآيات على الموجود واجب الوجود، علامات تحتاج لمن يقرأها ويفك شفرتها، ولا تكون العلامة ذات أهمية إلا بالنظر إلى عظيم ما تدل عليه، فقيمتها مستمدة حينئذ من قيمة ما تدل عليه.

في نظرية المنهاج النبوي يضعنا الأستاذ ياسين إزاء حقيقة قلب يعقل، أي أن فعله هو العقل، وهو ليس فعلا أحاديا، بل متعدد متنوع متراكب، يترقى هذا الفعل القلبي الذي هو العقل بترقي فعل آخر يساوقه هو الإيمان، وهو من المعاني القلبية التي يجسدها السلوك، فيكون سلوك الإنسان على الحقيقة مجسدا لمعرفته، ومعرفته مجسدة لعقله، وعقله تابع ومجسد لإيمانه، وهذا هو الأصل.

يترقى المؤمن من الإسلام فالإيمان ثم الإحسان الترقي التقربي المعروف الذي يفهمه كل الناس، ويترقى معه ذوقه وعلمه ومعرفته بالله، ومع هذا الترقي يترقى فعل القلب الذي هو العقل، حتى نكون بصدد عقول وليس عقل واحد، وكل واحد ومرتبته، فيكون العقل الكامل هو العقل الذي يجسد رتبة الإحسان (العقل الإحساني)، أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

[1] – ياسين، عبد السلام. القرآن والنبوة،م.س،ص 23.

[2] _ يقول باولو كويلو في روايته الخيميائي:” إن كل شيء في الحياة إشارة، والكون مخلوق بلغة يفهمها جميع البشر، ولكن البشر نسوها”، ص87.