الصيام في القرآن الكريم

Cover Image for الصيام في القرآن الكريم
نشر بتاريخ

الصوم في اللغة مصدر بمعنى الإمساك مطلقا؛ سواء كان إمساكا عن المشي أو عن الفعل والحركة، أو إمساكا عن الكلام أو عن الأكل والشرب وغير ذلك (1).

والصوم والصيام بمعنى واحد، جاء في القاموس المحيط: صام صوما وصياما واصطام: أمسك عن الطعام والشراب والكلام والنكاح والسير (2).

ويكون الإمساك عن الكلام صوما (3) ومنه قوله تعالى: فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا (آية 26، سورة مريم).

أما في الاصطلاح الفقهي؛ فالصيام هو الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس مع النية.

وباستقراء آيات القرآن الكريم نجد العديد منها تناولت الصيام بالمعنى الاصطلاحي، بحيث يمكن تقسيمها إلى قسمين:

القسم الأول؛ آيات تتحدث عن الصيام بما هو فريضة شرعها الله تعالى في شهر رمضان، وهو ركن من أركان الإسلام الخمسة واجب بأصل الشرع من غير سبب من المكلف، وهي الآيات (183-184-185-187) من سورة البقرة، وهي التي نصت على فرضية الصيام في شهر رمضان وبعض الأحكام المتعلقة به؛ كالفدية والقضاء وجواز الأكل والشرب والجماع من بعد الإفطار إلى مطلع الفجر وحرمة مباشرة الزوجات لمن عزم الاعتكاف في المساجد في رمضان.

أما القسم الثاني من هذه الآيات؛ فتتحدث عن الصيام باعتباره نوعا من أنواع الكفارات. وقبل التفصيل في هذه الآيات الكريمات وما تضمنته من أحكام، نشير إلى تعريف الكفارة والحكمة من مشروعيتها: فالكفارة لغة من الكفر وهو التغطية والستر، أما اصطلاحا فقد عرفها أهل العلم بأنها اسم لأفعال مقصودة ومخصوصة طلبها الشرع الحكيم من المكلف عند ارتكابه مخالفة شرعية معينة فيزول بها أثر ذلك الذنب أو تلك المخالفة، والحكمة من مشروعية الكفارة إلزام المسلم بأداء عمل صالح يدفع عنه أثر المعصية التي ارتكبها، وهذا العمل الصالح يمثل عبادة محددة يتقرب بها العبد إلى ربه، ومنها على سبيل المثال: إطعام المساكين وعتق الرقاب والصيام (4).

والصيام باعتباره كفارة هو أكثر أنواع الصيام التي أشار إليها الوحي الكريم، حيث ذكر في خمس آيات جاءت في كل من سورة البقرة والنساء والمائدة والمجادلة، ومن خلال هذه الآيات الكريمة يمكن تقسيم الصيام ككفارة إلى خمسة أنواع هي كالآتي:

أولا: الصيام كفارة لحلق شعر الرأس الذي هو من محظورات الإحرام في الحج والعمرة، وبدلا عن هدي واجب لمن عجز عن الهدي، وذلك في قوله تعالى: وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ لِلَّهِ ۚ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْىِ ۖ وَلَا تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْىُ مَحِلَّهُۥ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِۦٓ أَذًى مِّن رَّأْسِهِۦ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍۢ ۚ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْىِ ۚ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٍۢ فِى ٱلْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۗ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ۗ ذَٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُۥ حَاضِرِى ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ (آية 196، سورة البقرة). ومما ورد في تفسير الآية: وأتموا الحج والعمرة تامين خالصين لوجه الله تعالى، فإن منعكم عن الذهاب لإتمامها بعد الإحرام بهما مانع كالعدو والمرض، فالواجب عليكم ذبح ما تيسر لكم من الإبل أو البقر أو الغنم لكي تخرجوا من إحرامكم بحلق شعر الرأس أو تقصيره، ولا تحلقوا رؤوسكم إذا كنتم محصرين حتى ينحر المحصر هديه في الموضع الذي حصر فيه ثم يحل من إحرامه، فمن كان مريضا أو به أذى من رأسه يحتاج معه إلى الحلق وهو محرم حلق وعليه فدية بأن يصوم ثلاثة أيام أو يتصدق على ستة مساكين أو يذبح شاة لفقراء الحرم. فإن كنتم في أمن وصحة فمن استمتع بالعمرة إلى الحج وذلك باستباحة ما حرم عليه بسبب الإحرام بعد انتهاء عمرته فعليه ذبح ما تيسر من الهدي، فمن لم يجد هديا يذبحه فعليه صيام ثلاثة أيام في أشهر الحج وسبعة إذا أفرغتم من أعمال الحج ورجعتم إلى أهليكم تلك عشرة كاملة لابد من صيامها، ذلك الهدي وما يترتب عليه من الصيام لمن لم يكن أهله من ساكني أرض الحرم (5). فجعل الله تعالى الصيام واحد مما يفدي به عن حلق الرأس الذي هو من محظورات الإحرام وذلك على سبيل التخيير بينه وبين الصدقة والنسك. أما في كفارة التمتع فجعل الصيام بدلا عن الهدي الواجب عند فقده أو العجز عنه.

ثانيا: الصيام كفارة للقتل الخطأ، وذلك في قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَـًٔا ۚ وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَـًٔا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍۢ مُّؤْمِنَةٍۢ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهْلِهِۦٓ إِلَّآ أَن يَصَّدَّقُواْ ۚ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّۢ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍۢ مُّؤْمِنَةٍۢ ۖ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَٰقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰٓ أَهْلِهِۦ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍۢ مُّؤْمِنَةٍۢ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ ٱللَّهِ ۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (آية 92، سورة النساء).

لا يحق لمومن الاعتداء على أخيه المومن وقتله بغير حق إلا أن يقع منه ذلك على وجه الخطأ الذي لا عمد فيه، ومن وقع منه ذلك الخطأ الذي لا عمد فيه فعليه عتق رقبة مومنة ودية مقدرة إلى أوليائه إلا أن يتصدقوا بها عليه ويعفوا عنه، فإن كان المقتول من قوم كفار أعداء للمومنين وهو مومن فعلى قاتله عتق رقبة مومنة، وإن كان من قوم بينكم وبينهم عهد وميثاق فعلى قاتله دية تسلم إلى أوليائه وعتق رقبة مومنة، فمن لم يجد القدرة على عتق رقبة مومنة فعليه صيام شهرين متتابعين ليتوب الله تعالى عليه (6).

فالصيام في كفارة القتل الخطأ جاء بديلا عن عتق رقبة مومنة في حال العجز عن العتق، وحددت مدته في شهرين متتابعين لا يفصل بينهما فطر إلا بعذر شرعي، وذلك لعظم الجرم الذي تسبب في هذه الكفارة.

ثالثا: الصيام كفارة للحنث في اليمين وذلك في قوله تعالى: لَا يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغْوِ فِىٓ أَيْمَٰنِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلْأَيْمَٰنَ ۖ فَكَفَّٰرَتُهُۥٓ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَٰكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍۢ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٍۢ ۚ ذَٰلِكَ كَفَّٰرَةُ أَيْمَٰنِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ۚ وَٱحْفَظُوٓاْ أَيْمَٰنَكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (الآية 89، سورة المائدة). وقد ورد في تفسير هذه الآية: لا يعاقبكم الله فيما لا تقصدون عقده من الإيمان مثل قول بعضكم “لا والله” و”بلى والله” ولكن يعاقبكم الله فيما قصدتم عقده بقلوبكم، فإذا لم تفوا باليمين فإثم ذلك يمحوه الله تعالى بما تقدمونه مما شرعه الله لكم كفارة؛ من إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو إعتاق مملوك من الرق، فالحالف الذي لم يف بيمينه مخير بين هذه الأمور الثلاثة فمن لم يجد شيئا من ذلك فعليه صيام ثلاثة أيام (7). فجعل الله صيام ثلاثة أيام بدلا عن كفارة اليمين عند العجز عنها وهي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة على التخيير بين هذه الثلاثة.

رابعا: الصيام في كفارة قتل الصيد للمحرم، وذلك في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ۚ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَٰلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ۗ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ ۚ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (الآية 95، سورة المائدة). ومما ورد في تفسير هذه الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا صيد البر وأنتم محرمون بحج أو بعمرة أو كنتم داخل الحرم، ومن قتل أي نوع من صيد البر متعمدا فجزاء ذلك أن يذبح مثل ذلك الصيد من بهيمة الأنعام: الإبل أو البقر أو الغنم بعد أن يقدره اثنان عدلان وأن يهديه لفقراء الحرم، أو أن يشتري بقيمة مثله طعاما يهديه لفقراء الحرم لكل مسكين نصف صاع، أو يصوم بدلا من ذلك يوما عن كل نصف صاع من ذلك الطعام (8). وهكذا جعل الله تعالى الصيام معادلا للهدي وإطعام المساكين في كفارة قتل الصيد بالنسبة للمحرم إذ طلب منه أن يكفر عن قتله الصيد في الحرم بواحدة من هذه الثلاثة على سبيل التخيير.

خامسا: الصيام في كفارة الظهار، وقد ورد في قوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ۖ فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ۚ ذَٰلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ۚ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۗ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (الآية 4، سورة المجادلة). فبعد أن بين الله تعالى في الآية السابقة أن المظاهر من زوجته لا يحل له وطؤها حتى يقدم كفارة وهي عتق رقبة، بين في هذه الآية حكم من عجز عن تحرير رقبة: فمن لم يجد منكم ممن ظاهر من امرأته رقبة يحررها فعليه صيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا، والشهران المتتابعان هما اللذان لا فصل بينهما بإفطار في نهار شيء منهما إلا من عذر، فمن لم يستطع منهم الصيام فعليه إطعام ستين مسكينا (9). فأوجب الله تعالى الصيام والشهرين المتتابعين كفارة للظهار في حال العجز عن تحرير رقبة.

نخلص مما سبق إلى أن الصيام اختصه الله تعالى ليكون كفارة لبعض الذنوب بتقديمه أحيانا على كفارات أخرى أو بتأخيره، وذلك لعظيم فضله ومنزلته في الشرع الحكيم وكذلك لما تحمله كفارة الصيام من أسرار وحكم لها آثار عظيمة في محاربة المعصية والخطأ، وتربية الإنسان على القيم والمثل، فالصيام يثمر التقوى ويحيي المراقبة لله ويحرس من الوقوع في المآثم، والتقوى وقاية نفسية واجتماعية مركوزة في العبادات. وفي الصيام تحديد حماية الإنسان من غوائل نفسه وهيمنة شهواته وليس قهرا للنفس وإعناتا للجسد (10). ثم الصيام يربي صاحبه على الصبر وقوة الإرادة. “فالصائم يصبر على ترك الطعام والشراب والوقاع فينمو عنده معنى الصبر ويتعمق في نفسه ليكون خلقا قويا يواجه به النزوات والشهوات والتعجل وعدم التأني” (11).

كما أن الصيام ككفارة هو بمثابة عقوبة زاجرة وجابرة، فصيام شهرين متتابعين كفارة للقتل الخطأ والظهار، أو حتى صيام ثلاثة أيام “فيه من الكلفة والمشقة ما يذكر الإنسان بفعله الذي وجبت الكفارة بسببه فيعيش أيام الصيام في جو فعله هذا فتتولد له الكثير من معاني الندم إن كانت الكفارة على معصية، ومن معاني الحرص والحيطة إن كان فعله دون المعصية ولكنه أثر للإهمال” (12).

ولعل أهم ما يستخلص من تشريع كفارة الصيام كبديل عن بعض الكفارات الأخرى كعتق الرقبة والإطعام أو الكسوة، أن التكليف في الشريعة الإسلامية يقوم على التيسير ورفع الحرج، “ولا يكون إلا وفق طاقة الإنسان وسعته فلا يكلف الإنسان ما لا يطيق، ويشهد لذلك التدرج في الكفارة أو التخيير فيها، كل ذلك تفضلا ومنة منه تعالى على عباده” (13).


(1) مختار الصحاح للرازي، ج 1، ص 180-181.

(2) القاموس المحيط، مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزابادي – باب الميم.

(3) معجم مقاييس اللغة – كتاب الصاد.

(4) د. خليل علي، “الكفارات مشروع سماوي غايته اليسر، من كتاب “الشرعة السمحاء”.

(5)، (6)، (7) و(8) تفسير “الميسر”.

(9) تفسير الطبري.

(10) مقاصد عبادة الصوم، د. مجدي قويدر (عضو هيئة علماء فلسطين في الخارج)، من موقع المجلس الإسلامي السوري.

(11)، (12) و (13) الإعجاز التشريعي في الكفارات، د. مازن اسماعيل هنية. الجامعة الإسلامية، غزة فلسطين.