بقلم: محمد الخواتري
رجع نواح…
ليس أصدق تعبيرا عما يخالج جموع الصادقين في هذه الأمة المرحومة وهم يشاهدون حلقات مسلسل الهرولة الرسمي للتطبيع مع العدو الصهيوني، وما يتابعونه أيضا من هذا التردي المريع لحال الأمة على مختلف الأحوال والأصعدة، ليس أصدق معبر عن هذا الحال من أبيات لأمير الشعراء أحمد شوقي يقول فيها:
عادت أغاني العرس رجعَ نواحِ.. ونعيت بين معالم الأفراح
كفنتِ في ليل الزفاف بثوبه.. ودفنتِ عند تبلج الإصباحِ
الهند والِهة ومصر حزينة.. تبكي عليك بمدمع سحاحِ
رحم الله أحمد شوقي بك، فقد عبر بتصوير شعري شاعري بديع عن حال الأمة في هذه الأبيات وفي غيرها، والرجل إذ يرثي سقوط دولة بني عثمان وتكالب الأعداء عليها، فهو يرثي في ذات الوقت سقوط وتهاوي البقية الباقية من هيبة الأمة وقوتها، وينعي، هو وغيره من الشعراء الذين عاينوا اللحظة التاريخية وتجرعوا مرارتها، ضمير الأمة الجمعي الذي عانى طويلا من أعراض الأوبئة القرونية التي أجهزت على كيانه كما أجهز الغرب على جسد بني عثمان المريض.
بالتزامن مع تداعي جدار الدولة العثمانية للسقوط، كان الاستكبار العالمي (فرنسا ـ بريطانيا ـ الاتحاد السوفياتي ـ أمريكا) مدفوعا من اللوبي الصهيوني المتحكم في مفاصل السياسة والاقتصاد العالميين، يخطط لتقسيم تركة العثمانين وتوزيعيها على الدول الكبرى في العالم من خلال ما سمي حينها بخطة سايس بيكو، والتي تضمنت في بنودها تقسيم الأمة إلى دويلات منشطرة معزول بعضها عن بعض بحدود جغرافية، منزوعة السيادة، ومحكومة من طرف ما يمكن تسميته عصابات من داخل هذه الدويلات جيء بها لخدمة المشروع وأهدافه الكبرى.
ومن المشاريع الكبرى التي عمل الغرب عليها بل من أكبرها؛ تحقيق الحلم الذي راود الحركات اليهودية على امتداد قرون من الزمان، والمتمثل في إقامة وطن قوم في أرض فلسطين وإعادة بناء الهيكل المزعوم، سنة 1917 وبعد أقل من سنة بعد تقسيم سايس بيكو ستصدر بريطانيا وعدا للحركة الصهيوني بتفويت أرض فلسطين ـ والتي كانت تخضع حينها للانتداب البريطاني ـ من أجل إقامة وطن قومي سمي بـ “إسرائيل”، وبدأت حملات تهجير اليهود من كل دول العالم من أجل تجميعهم في فلسطين التي انْتُهكت سيادتها وشُرِد أهلها وقٌتّلوا، وديست مقدساتها ودنست.
ليستفيق ضمير الأمة على خبر الفاجعة ذات صباح من سنة 1948، ولتكتمل فواجع هذه الأمة التي لم تضمد بعد جرح سقوط ما كان يسمى “خلافة” عثمانية كانت حافظة لما تبقى من هيبة المسلمين وحامية بيضتهم، ليظهر جرح آخر متمثلا في احتلال أراضي البلاد الإسلامية شرقا وغربا، واحتلال فلسطين أرض الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشرفين، وزرع كيان سرطاني غاصب يجوس خلال الديار قتلا وسلبا، إنها بحق الصدمة الحضارية الأولى في تاريخ الأمة المعاصر والفاتحة لعقود رزح فيها المسلمون تحت نير العدوان الداخلي والخارجي، وهي الصدمة التي أعادت للأذهان فاجعة الانكسار التاريخي، منطلق كل ويلاتنا.
استطراد في سياقه…
مع نهاية العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين اندلعت في تونس شرارة انتفاضة شعبية امتدت لتشمل مصر وليبيا وسوريا واليمن، وبأشكال احتجاجية أقل زخما في المغرب والبحرين، كان حلما بعيدا المنال في أذهان وضمائر أجيال عايشت صدمتنا الحضارية الأولى، لكن الحلم صار حقيقة على جيل جديد متحررٍ من عقدة النقص التي أورثتها الصدمة الاستعمارية في وجدان أجيال العشرينات وإلى غاية جيل السبعينات، صدمة 48، وهزيمة 56، ونكسة 67، ونصر متوهم في 73، وحرب الخليج الأولى سنة 80، ونسخة أكثر دموية سنة 91، ثم غزو للعراق في 2003، ويتخلل كل هذه التواريخ المؤلمة الصادمة أحداث عانت فيها فلسطين جراء الاحتلال أشد المعاناة وقدمت عشرات الآلاف بين شهيد ومصاب.
انتفض الشباب العربي متحررا من كل هذه العقد التاريخية، طامحا إلى حرية تحقق للأمة السيادة والقيادة، كان قصد الشباب أن يحدث رجة في ضمير الشعوب حتى تفيق من صدمتها الطويلة التي أورثتها ذلا وانهزامية وقابلية للاستتباع. الانتفاضات السلمية الواعية استطاعت أن تسقط دمى كانت على رأس الحكم، ولم يكن في تصور أحد أن تسقط بتلك الطريقة وفي مدد وجيزة، أقول سقطت الدمى، ولم يفطن شباب الربيع العربي أن وراء هذه الدمى المتهالكة المتداعية للسقوط أيادي تتحكم في كل خيوط اللعبة، هي نفسها الأيادي التي دبجت اتفاق سايس بيكو وختمت عليه، ووزعت الأراضي على شكل دويلات على رأس كل دولة دمية، كلما سقطت دمية أحدثوا أخرى بديلا عنها.
سقطت الدمى ولم تسقط الأنظمة المتحكمة، لم يكن هذا الشباب الثائر على دراية تامة بتاريخه، فما إن هدأت الانتفاضات حتى تحرك المكر الصهيوني مدعوما بأموال البترول، وبدأ السعي إلى العودة إلى نقطة البداية من خلال دعم وتنفيذ انقلابات على الثورات في مصر وليبيا وتونس واليمن، وإخماد ما يمكن إخماده في بقية البلاد، وإبقاء الوضع السوري فزاعة لكل من سولت له نفسه الثورة على واقعه.
وهكذا تحول الحلم كابوسا، والربيع خريفا، واستحال الحلم خيبة، وبرزت إلى السطح دمى جديدة أكثر إجراما في حق شعوبها وأكثر ولاء لروح سايس بيكو وخططها، ولن ينسى من عايش مرحلة ما بعد 2012 ـ وأنا منهم، حجم الألم والحسرة والتراجع الوجداني ونحن نشاهد مجازر العسكر في مصر في حق أصحاب الشرعية، وجرائم المجرمين في حق الشعب الليبي حديث العهد بالتحرر، وكيف تحول يمن الحكمة إلى ساحة اقتتال طائفي، وسوريا إلى جرح نازف لا يكف، إنها بحق الصدمة الحضارية الثانية بجرعات مضاعفة من الحسرة والألم والخيبة.
بعد مضي قرن من الزمان على خطة التقسيم الأولى وما خلفته من ويلات في جسد الأمة وفي ضميرها الفردي والجمعي، تستفيق هذه الأجيال المباركة على وقع شكل آخر من أشكال الانحدار والتهاوي المستمر منذ 100 عام، عدد من الأنظمة “الدمى” تسارع إلى توقيع اتفاقيات “سلام” مع الكيان السرطاني اللقيط، والحقيقة أن ما قامت به هذه الأنظمة لا يعدو أن يكون إظهارا لما كان مخفيا من جهة، ومن جهة أخرى هو انتقال للمرحلة الثانية من تنزيل مخطط سايس بيكو الكبير، مرحلة تطويع الشعوب لتقبل بالأمر الواقع.
إن الوجدان العربي الإسلامي وهو يشاهد مشاهد التطبيع والمهادنة وتسليم الأرض للمحتل دون مقابل، ليتقطع ألما وحزنا على ما آل إليه الحال، فمن حلم الانعتاق والتحرر الذي أشرق واختفى مطلع العشرية الثانية، إلى تردٍّ سياسي وأكثر منه قيمي أخلاقي تجاوز في فضاعته وفداحته الصدمة الحضارية الأولى.
إن ما يزيد الوضع الحالي قتامة أن الرجة الأولى، على قوتها وتأثيرها الحضاري، غير أنها أبرزت لنا حركات ودينامية فكرية وثقافية واجتماعية وفنية حاولت ـ في حدود الإمكان ـ أن تكون مواجهة للحملة الاستعمارية الهاجمة، بينما واقع الحال اليوم يشهد على تردي على مختلف الأصعدة، نتيجة سياسات تعليمية انطلقت منذ زمن ليس بالقصير، عملت على تدجين أجيال وأجيال من الشبيبة الصاعدة لتقبل وتسلم بالأمر الواقع، وحتى القلة القليلة الواعية بالمخطط وخطورته فهي محاصرة أو معتقلة أو مستهدفة.
ما الحل..
لا يمكن للحل إلا أن يكون جذريا، كتجذر أزمتنا الوجودية، عميقا عمق صدمتنا الحضارية، النفوس والإرادات الصادقة يائسة من واقع الأمة المحبط ـ وحق لها ذلك ـ والحل أن نعيد ربط قلوب المؤمنين منهم بمعنى اليقين بوعد الله وحقيقته مهما طال أمد الظلم والتسلط، الحل في تعبئة الطليعة اليقظة في أفق أن تتحول إلى طليعة مجاهدة مع لزوم شرط التربية وقرع باب الحق عز وجل، فهو الناصر المغير من حال إلى حال، هذا على المستوى الوجداني.
على المستوى التصوري لا ينبغي أن يذهلنا هول الصدمة وحملات التطبيع عن كون المسألة قديمة جدا، فهل نتصور من أنظمة صنعت على عين الصهيونية إلا أن تكون مطبعة معها، هذا يقودنا إلى إدراك يجب أن يرسخ في العقل ويوجه الحركة ويتجلى في أن معركتنا القادمة ستكون مع أصحاب الأمر الحقيقيين، مع من خطط قبل قرن من الزمن لتقسيم الأمة وطمس هويتها وسلب إرادتها، والباب الفاصل بيننا وبين هذه المعركة الحاسمة هو التخلص من هذه الأنظمة الدمى.
على المستوى العملي الإجرائي فلا أرى عملا أنجع في هذه المرحلة من التربية المنهضة لا التربية المقعدة، تربية القلوب حتى تعود إلى ربها وتنجمع عليه، ومع هذا التهمم تهمم بمصير الأمة العام، في استشراف الأفق القريب القادم أفق التمكين لهذه الأمة المرحومة.