الصداق بين التيسير والتعسير

Cover Image for الصداق بين التيسير والتعسير
نشر بتاريخ

الزواج في الإسلام رباط قوي بين الرجل والمرأة، غايته الإحصان والعفاف وإنشاء أسرة مستقرّة برعاية الزوجين، وهو في الأصل عبادة يتقرب بها إلى الله عز وجل إن خلصت النية، لذلك ولأهمية هذا الميثاق عملت الشريعة الإسلامية على الترغيب فيه وتحفيز الشباب عليه إن توفرت لديهم الاستطاعة المادية والمعنوية، لكن مجتمعاتنا المعاصرة تعيش عزوفا عن هذه العبادة، لأسباب أكثرها يعود للماديات وعادات المجتمع الاستهلاكي، كالنفقات الباهظة في المهور والأعراس والهدايا، لذلك وجبت العودة إلى منهج النبي صلى الله عليه وسلم وهدي الصحابة والتابعين في التعامل مع هذه الأمور، وأولها الصداق.

يعد الصداق من أهم عناصر عقد الزواج، يسمى بأسماء متعددة منها: صداق، ومهر، ونحلة، وفريضة. وفي الاصطلاح: هو ما يكون عوضا في الزواج، وهذا أعم من أن يكون نقدا أو غير نقد، حالا أو مؤجلا، مالا معينا أو منفعة، وغير ذلك مما يصلح أن يكون عوضا في عقد البيع أو الإجارة. ودليل مشروعيته في القرآن الكريم قوله تعالى: “وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً” (النساء: 4)، والمعنى الظاهر من الآية أن المهر صار “ركنا من أركان النكاح في الإسلام” 1، الغاية منه إكرام الزوجة وتطبيب لخاطرها ودليل على صدق الزوج فيما يقصد إليه من الزواج، فهو عطية الغرض منه بناء العلاقة الزوجية على المودة والرحمة. لكن ما مقدار الصداق الذي به تتحقق هذه الغايات؟ وهل حده الشرع؟

لقد أشار القرآن الكريم إلى الصداق في قوله تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (النساء: 20) أي: إذا أراد أحدُكم أن يُفارق امرأةً ويستبدل مكانها غيرها، فلا يأخذ مما كان أصدق الأولى شيئًا، ولو كان قنطارًا من المال، “والقنطار هنا مبالغة في مقدار المال المعطى صداقا أي مالا كثيرا، كثرة غير متعارفة. وهذه المبالغة تدل على أن إيتاء القنطار مباح شرعا لأن الله لا يمثل بما لا يرضى شرعه مثل الحرام” 2، كما أن صَداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه “ثِنْتَيْ عشرة أُوقِيَّةً ونَشّاً” 3، والنش نصف أوقية، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى جملا بأوقية 4، وهو صداق لابأس به في ذلك الزمان، بل يعجز عنه الكثير اليوم لأن ثمن الجمل اليوم حوالي 20 ألف درهم. لكن الإمام عبد السلام ياسين أشار إلى أنه “قد يكون من أكبر معوقات الزواج وموانعه، ومن نواقضه ومقوضاته النفقات الباهظة في المهور والأعراس والهدايا والشروط” 5، فهل عارض الإمام المجدد النص القرآني والسنة النبوية؟

وقعت في عهد عمر بن الخطاب حادثة المرأة التي نبهته وذلك “لما خطب عمر بن الخطاب فنهى عن المغالاة في الصدقات، قالت له امرأة من قريش بعد أن نزل: «يا أمير المؤمنين كتاب الله أحق أن يتبع أو قولك»، قال: «بل كتاب الله! بم ذلك؟» قالت: إنك نهيت الناس آنفا أن يغالوا في صداق النساء، والله يقول في كتابه “وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا” [النساء: ٢٠] فقال عمر: «كل أحد أفقه من عمر». وفي رواية قال «امرأة أصابت وأمير أخطأ والله المستعان»، ثم رجع إلى المنبر فقال: إني كنت نهيتكم أن تغالوا في صدقات النساء فليفعل كل رجل في ماله ما شاء” 6.

الظاهر من هذه الرواية أن عمر بن الخطاب رجع عن رأيه في نهيه عن المغالاة في الصداق، لأنه رآه منافيا للإباحة الظاهرة من الآية.  فمقدار الصداق لم يحدد بظاهر الآية، علق الإمام على هذه الحادثة بقوله: “يتلخص من هذا أن الحاكم ليس له أن يحد للمهور حدا. لكن الفساد الكبير الذي ينشأ عن عزوبة الرجال وعنوسة النساء من جراء التغالي في المهور فساد وبيل. فإن كانت الدولة الإسلامية لا يمكن أن تخرق النص القرآني المفتوح، فإن على الدعوة أن تربي الرجال والنساء على سنة التيسير، حتى يصبح عند الأسر مفخرة أن يصهر إليهم الأتقياء لا الأغنياء. وحتى يصبح في نظر المؤمنة أكرم مهر ما شابه مَهر أم سُلَيم” 7.

نعم كان مهر أم سُليم هو إسلام خاطبها أبي طلحة، فقد “أسلمتْ أمُّ سُلَيمٍ، قبل أبي طلحةَ فخطَبها، فقالت: إنِّي قد أسلمتُ، فإن أسلمتَ نكحتُك، فأسلم، فكان صَداق ما بينهم” 8، فتم الزواج وباركه الله ورسوله. يظهر أن دعوة الإمام إلى التيسير في المهور غايته تشجيع الشباب على الزواج، وهو ما تؤكده حادثة أخرى في زمن النبوة، حين زوج النبي صلى الله عليه وسلم صحابيا بما معه من القرآن بعد أن عجز عن توفير خاتم من حديد 9. فما أعظمهن من نساء، كن “يرضين ويطبن نفسا بالزواج من أولئك الأبطال على مهر رمزي، وعلى أن يعلمهن الزوج من القرآن. كان القرآن قيمة مقدرة، وكان تعليمه إفضالا وعطاء” 10.

إن تيسير الصداق هو المشروع في ديننا الحنيف، فرغم أن القرآن الكريم لم يحدد سقفه، إلا أن خير الصداق أيسره، ورغم أن صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد يعجز عنه الكثير إلا أنه صلى الله عليه وسلم شجع الزواج بخاتم من حديد وبآيات من القرآن الكريم، لأن الأمور بمقاصدها ومن مقاصد الصداق تكريم المرأة والتهييء لبناء الزواج على المودة والرحمة، لا تحميل الزوج ما لا يطيق، فيكون سببا في هدم البناء، وهو ما تفشى في المجتمع اليوم من المغالاة في المهور، والتفاخر بها، سواء أكان الزوج غنيًا أم فقيرًا، فنتج عن ذلك نفور الشباب من الزواج.


[1] ابن عاشور، محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر، التحرير والتنوير، (الدار التونسية للنشر، تونس، دط، 1393هـ ـ 1984م)، 4/230.
[2] ابن عاشور، محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر، التحرير والتنوير، 2/289.
[3] النووي، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف، شرح النووي على مسلم، كتاب النكاح، باب الصداق وجواز كونه تعليم القرآن وخاتم حديد، حديث رقم 1426.
[4] ياسين، عبد السلام، تنوير المؤمنات، (دار البشير للثقافة والعلوم، طنطا، ط1، دت)، 2/177.
[5] ياسين، عبد السلام، تنوير المؤمنات، 2/174.
[6] ابن عاشور، محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر، التحرير والتنوير، 4/289.
[7] ياسين، عبد السلام، تنوير المؤمنات 2/178.
[8] النسائي، أحمد بن شعيب، سنن النسائي، كتاب النكاح، حديث رقم 3340.
[9] ينظر في صحيح البخاري، كتاب اللباس، باب خاتم الحديد، حديث رقم 5557.
[10] تنوير المؤمنات، 2/176.