الصحبة والقرآن

Cover Image for الصحبة والقرآن
نشر بتاريخ

من أعظم الغايات التي يسعى إليها المؤمن بلوغ درجة الإحسان “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك” 1. وإن البوابة الحقيقية لولوج هذا الميدان هي الصحبة؛ صحبة الدالّين على الله المحسنين من عباده. وقد درجت الأمة عل اعتبار أمر الصحبة أصلا أصيلا من أصول التربية والسلوك، وإن كانت تنحو بها نحو الخلاص الفردي. إلا أن الإمام المرشد المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله قد جدّد في الأمر فجعلها صحبة وجماعة، صحبة في الجماعة، عَوْدا إلى الأصل النبوي حيث جمع النبي صلى الله عليه وسلم في تربية الصحابة بين السلوك والتزكية، والقيام بالأمر العام للأمة ونشر الدعوة والجهاد لنصرة الدين ورفع رايته.

هذا وإن الصحبة والقرآن متلازمان تلازما وثيقا يسمو بالعبد لأن يكون من أهل الله. فالصحبة جذورها وأصولها في القرآن، وهي تهيئ القلب للانتفاع بكلام الله عز وجل، ومن أراد قطف ثمار الصحبة فلا مناص له من خدمة كتاب الله عز وجل وحسن العناية به.

أولا: الصحبة في القرآن الكريم

أ- “صراط الذين أنعمت عليهم”

يقف المسلم بين يدي الله عز وجل في اليوم سبع عشرة مرة أو اكثر يردّد أمَّ القرآن فاتحةَ الكتاب يسأل الله الهداية إلى الصراط المستقيم الموصل إلى مرضاة الله وجنته. وإن الله عز وجل أمرنا بتكرار هذا الطلب والإلحاح فيه، وعرّفنا هذا الصراط بأن دلّنا على من سلكوه وخبروا وُعُورته وعقباته. والحقيقة أن صراطَ الله مستقيمٌ لا اعوجاج فيه ومحجة بيضاء ليلها كنهارها، لكن رعونات النفس وأهوائها ونزغات الشيطان ووساوسه وزخارف الحياة الدنيا وغرورها قد يعصف بالمسلم فيزيغ عن هذا الصراط فيكون من الهالكين. لذلك أرشدنا الله عز وجل في أم الكتاب إلى التمسك بالمُنعَم عليهم واتباعهم. حكي عن أبي عثمان أنه قال: صراط الذين أنعمت عليهم بأن عرفتهم مهالك الصراط ومكايد الشيطان وخيانة النفس 2. ولأن الله تعالى أنعم عليهم نعما كثيرة ندبنا لصحبتهم واتباع طريقهم لننال ما نالوا بإذن الله. وكأن الآية تقول لنا إذا كنتم تريدون الهداية إلى الطريق المستقيم فأنا أرشدكم إلى المستقيمين عليه، بصحبتهم والسير على نهجهم تنالون المرغوب.

ب- “واتبع سبيل من أناب إليّ”

جاءت هذه الوصية الإلهية في ثنايا وصايا لقمان لابنه ـ بعد أن حثت على برّ الوالدين والإحسان إليهما وطاعتهما في غير معصية الله ـ لتؤكد ضرورة اتباع سبيل المؤمنين المنيبين إلى الله الموصولة قلوبُهم به سبحانه، خصوصا عندما تنعدم شروط المحافظة على الفطرة في الأسرة.

إن في لفظي “الاتباع” و”السبيل” الواردين في الآية يعطيان إشارة واضحة إلى أن ثمة سير إلى الله وطريق تسلك إليه أولا بالقلوب “ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب” 3 ثم تأتي أعمال الجوارح ليتواطأ كيان الإنسان كله على السير الحثيث صعدا إلى ذرى الإحسان. وهذا السير يقتضي أن يكون ثمة تابعا ومتبوعا ـ كما تشير إليه الآيات ـ ولن يكون اتباع كامل إلا بمحبة صادقة، وتلك هي دعائم الصحبة وركائزها.

ج- «ويوم يعضّ الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا…»

مشهد آخر يصوره لنا القرآن الكريم لمن كانت صحبته للغافلين عن الله المُضلين عن ذكر الله، يوم يستبد به الندم فيعَض على يديه أسفا وحسرة على ضياع فرصة الصحبة الصالحة في الدنيا التي ترقى به إلى الدرجات العليا في الآخرة. فإذا كانت هذه حال من كانت خُلّته لمن يُلهيه عن ذكر الله ويصده عن طريق الله، فكيف تكون فرحة وسعادة من ظفر بخِلٍّ يدُلّه على الله ويُعينه على ذكر الله. قال سيدي ابن عطاء الله السكندري رضي الله عنه لا تصحب من لا ينهضك حاله، ولا يدلك على الله مقاله. ولأمر ما أمرنا القرآن الكريم بصبر النفس على صحبة الداعين الله عز وجل المريدين وجهه قال تعالى: وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً.

إن هذه الآيات ـ وغيرها في القرآن كثير ـ لتؤكد أن للصحبة ارتباطا وثيقا بالقرآن الكريم ارتباط الفرع بأصله والمدلول بالدال عليه.

ثانيا: الصحبة والانتفاع بالقرآن الكريم

قال سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: “أوتينا الإيمان قبل القرآن” في رواية: «فازددنا إيمانا» “وأنتم أوتيتم القرآن قبل الإيمان فأنتم تنثرونه نثر الدقل” 4. لقد فتحت صحبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم آفاقا واسعة للتزوّد من التقوى والترقي في درجات الإيمان ومراتب الإحسان. فكانوا كلما قرأوا القرآن أو تليت عليهم آياته ازدادوا إيمانا. نقرأ من كلام الإمام المرشد المجدد رحمه الله هذه الكلمات النيرة التي توضح أثر الصحبة في تهيئة القلوب للاهتداء بالقرآن: يجب أن نقرأ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في توجيهه إيانا للقرآن ووصيته من بعده على ضوء أن الإيمان في قلوب الرجال هو الذي يهيِّئ السامع للاهتداء بالقرآن. كان القرآن كلمةَ الله التي ينطق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان بلاغه وبيانه وخطابه الدائم لمن يدعوهم من الناس. فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه. لم يكن سماعُهم للقرآن سواءً. هداية الله وسابقة المدعوين عند الله تحدّد النتيجة، فيومن بعض ويحصلون على أصل الإيمان بهداية الله وهداية رسوله، ويزدادون إيمانا إذا تليت عليهم آيات الله. ويكفر آخرون ويصمون ويستهزئون. ثم كان الصحابة يقتبسون الإيمان، بعضهم من بعض. يجلس بعضهم إلى بعض ليذكروا الله جميعا، ومن جملة الذكر، بل أعظم الذكر القرآن. لا إله إلا الله من القرآن، فبذلك كانت أعلى شعب الإيمان، وكان تَرْدادُها وتِكرارها في صحبة المؤمنين أوثقَ مصدرٍ للإيمان وأقربه. يأتي عبد الله بن رواحة رضي الله عنه فيأخذ بيد الرجل من الصحابة فيقول: تعال نومن ساعة! روى الإمام أحمد عن أنس أن عبد الله فعل ذلك وقاله ذات يوم لرجل، فغضب الرجل وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله! ألا ترى إلى ابن رواحة يرغب عن إيمانك إلى إيمان ساعة! فقال النبي صلى الله عليه وسلم “يرحم الله ابن رواحة! إنه يحب المجالس التي تتباهى بها الملائكة 5.

ويزداد الأمر وضوحا على تلازم الصحبة وكتاب الله عز وجل، وأن الانتفاع بكتاب الله تعالى متوقف على التعلق بأهل الله الذين تُزيل صحبتهم الغشاوة عن القلوب. يزداد هذا الأمر وضوحا عندما نقرأ الوصية النبوية بالاعتصام بكتاب الله عز وجل ـ والسنة وحي لا ينفك عن كتاب الله تعالى ـ وبالاعتصام أيضا بالعترة الطاهرة. يقول الإمام المجدد رحمه الله: وأخرج الترمذي هذه الوصية النبوية الشريفة الموجهة للمؤمنين المجاهدين، رواها عن زيد بن أرقم بإسناد حسن يقول فيها الحبيب صلى الله عليه وسلم: “إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، وهو كتاب الله، حبل ممدودٌ من السماء إلى الأرض. وعتْرَتي أهلَ بيتي. لن يفترقا حتى يردا علي الحوض. فانظروا كيف تخلفوني فيهما”. وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي بإسناد صحيح عن العرباض بن سارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ”. الحديث.

ترك فينا الحبيب صلى الله عليه وسلم كلمة الله الحية، وترك فينا رجالا مؤمنين أحياء. والإيمان والإحسان يتجددان بالاعتصام بالحبلين العظيمين، كتاب الله وسنة رسول الله، ومن سنته العِتْرَةُ الطاهرة، وهم عموما كل متق وليٍّ لله، وخصوصا الطاهرون الأولياء. وهم آل البيت حقاً. باعتصامنا الصادق بهما يتجدد إيماننا حتى يتطابق مع إيمان الصحابة.. 6 الاعتصام بالعترة الطاهرة هي صحبتهم ومحبتهم وخدمتهم واتباعهم واقتفاء أثرهم. ..

يقول الإمام رحمه الله: بالاعتصام الجامع (…) يصبح القرآن بحرفه وأحكامه ونوره قِبلة الأرواح وضياء الدنيا والآخرة… 7. ومن هنا نفهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين” 8 يرفع شأن أقوام في الدنيا والاخرة لأنهم اهتدوا الهداية الكاملة بالقرآن لمّا تنورت قلوبهم وطهرت وصفت بالتربية الإيمانية الإحسانية التي تقوم على الصحبة والأخوة والذكر والصدق. ولنا في قصة الغزالي رحمه الله عبرة وأي عبرة حين منعه “المتبوع المقدم” من المواظبة على تلاوة القرآن وقال له: السبيل أن تقطع علائقك من الدنيا بالكلية، بحيث لا يلتفت قلبك إلى أهل وولد ومال ووطن وعلم وولاية. بل تصير إلى حالة يستوي عندك وجودها وعدمها، ثم تخلو بنفسك في زاوية، تقتصر من العبادة على الفرائض والرواتب، وتجلس فارغ القلب، مجموع الهم، مقبلا بذكرك على الله تعالى 9 ويجيب الإمام المجدد رحمه الله موضحا المسألة: وما منعه من المواظبة على التلاوة إلا بغية أن يهيئه بتصفية القلب بالذكر، حين يعم قلبه الإيمان ويعقل قلبه القرآن، لمرحلة تكون فيها المواظبة على التلاوة عبادة كاملة. وهاك الدليل. روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “يا رسول الله، إني أقرأ القرآن فلا أجد قلبي يعقل عليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قلبك حشي الإيمان، وإن الإيمان يعطى العبد قبل القرآن” 10.

ثالثا: من أراد قطف ثمار الصحبة فعليه بخدمة كتاب الله

كان الإمام المجدد رحمه الله شديد العناية بكتاب الله عز وجل يقرأه آناء الليل وآناء النهار ويستمع إليه وينصت إليه بخشوع وتدبّر. وكان رحمه الله قرآنيا في دعوته وأخلاقه وفكره وتربيته… بل جعل القرآن محور تفكيره وتنظيره. وكان رحمه الله دائم الوصية بالعناية بالقرآن الكريم تلاوة وتدبرا وحفظا وتخلّقا، وأن نكون مدارس قرآنية متنقلة عبر الأجيال. وإن من أهم شروط الصحبة السير على خطى المصحوب والعمل بوصاياه وتوجيهاته. قال رحمه الله: ولكل من عظّم كتاب الله وخدمه حفظا وتلاوة وعمل بأمره ونهيه نصيب من ولاية الله، ولخير الأمة من تعلم القرآن وعلمه، إذا كان مع التعلم والتعليم تقوى 11. ويقتطف لنا الإمام رحمه الله من أطايب الكلام ما يفيد أن الفوز بالولاية التي هي ثمرة الصحبة رهين بتعلم القرآن وخدمته: قال الإمام الرفاعي في شرح هذا الحديث، حديث: “خيركم من تعلم القرآن وعلمه”: هذا الحديث الشريف يفيد أن الخيرية قد صحت لمن قد تعلم القرآن وعلمه لما في القرآن العظيم من بالغ الحكم، وغامض السر، وخطير الشأن، وهو حبل الله الأعظم، به يهتدي المهتدون، ويصل الواصلون. وهو خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وباب الله تعالى، والمعجزة الدائمة، والنور الذي لا ينحجب. وعنه تأخذ أرواح العارفين أسرار المعرفة. وما المعرفة التي لم ترجع إليه؟ ما هي إلا زور وضلالة. ومتى تحقق العبد بالعلم بالقرآن العظيم فقد صار عارفا، وانكشفت له الأسرار الربانية، الملكية والملكوتية. ومتى صار عارفا حَنَّ وأَنَّ، وطلب زيادة العلم بالله من كل طريق وفن وكل الطرق والفُنُون في القرآن العظيم. والعارفون هم الراسخون في العلم يقولون آمنا به، وإليه سير هممهم، وعنه يصدرون، وبه يهيمون، ومنه يأخذون” 12.

فهل من همم تهبّ لقطف ثمار الصحبة بالعكوف على خدمة كتاب الله عز وجل؟


[1] أخرجه الإمام مسلم وأبو داود عن عبد الله بن عمر.
[2] تفسير حقائق التفسير، السلمي «ت 412 هـ».
[3] رواه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.\
[4] أخرجه الحاكم وصححه.
[5] كتاب الإحسان للمؤلف عبد السلام ياسين رحمه الله: ج1، ص332.
[6] نفسه.
[7] نفسه.
[8] رواه مسلم وأحمد في المسند وابن ماجه والدارمي.
[9] كتاب الإحسان للإمام عبدالسلام ياسين رحمه الله: ج 1 ص 51.
[10] المصدر نفسه: ج 1، ص 52.
[11] المصدر نفسه ج1، ص: 329.
[12] المصدر نفسه ص 330.