“الشيخ رجب” ينتصر على “ذئاب الوادي”

Cover Image for “الشيخ رجب” ينتصر على “ذئاب الوادي”
نشر بتاريخ

شهدت تركيا انتخابات نوعية في الآونة الأخيرة، وما ميزها هو فوز الوزير الأول رجب طيب أردوغان بنسبة كاسحة على غرمائه المرشحين، سنحاول أن نتبين والقارئ الكريم الملامح والسياقات التي تحقق فيها هذا الفوز التاريخي للمرشح المحسوب على التيار الإسلامي – حزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية – والظروف المحلية والعالمية التي أنتجت “الشيخ رجب” – كما كان يحلو لأحد مدرسيه في المدرسة الابتدائية أن يناديه – وكيف استطاع “الشيخ رجب” الصمود أمام إعصارات الدولة العميقة التركية التي حاولت اقتلاعه من سدة الحكم من البلد العلماني – المسلم، وكيف قطع الطريق على “ذئاب الوادي”، ونظف دهاليز الدولة التركية من أتباع الدولة العميقة الموالية لجهات عالمية كإسرائيل وأمريكا. أخدنا هدا المسمى من الإنتاج الدرامي التركي الضخم (وادي الذئاب) الذي حاول معالجة الوضع التركي بكل مداخله – حسب اعتقادنا.

أولا: الشخصية المتكاملة

رجب طيب أردوغان، 26 فبراير 1954 في اسطنبول، يعود أصله إلى مدينة طرابزون، أمضى طفولته في محافظة “ريزة” على البحر الأسود، ثم عاد إلى اسطنبول لتبدأ حياة الجد والكفاح، وليصارع مدلهماتها، وهي المدينة التي استعصت على الجميع وعرفت بغنجها أمام عاشقيها. نشأ “الشيخ رجب” في أسرة فقيرة وعانى آلام الفقر والمعاناة شأنه شأن كثير من المواطنين الأتراك، وقد عبر عن هذا الأمر بنفسه في مناظرة تلفزيونية مع “دنير بايكال” رئيس الحزب الجمهوري ما نصه: لم يكن أمامي غير بيع البطيخ والسميط – نوع من الحلوى التركية – في مرحلتي الابتدائية والإعدادية، كي أستطيع معاونة والدي وتوفير قسم من مصروفات تعليمي، فقد كان والدي فقيرا)، درس في مدارس “إمام خطيب” الدينية ثم التحق بكلية الاقتصاد والأعمال في جامعة مرمرة.

ثانيا: الممارسة السياسية الصادقة

انضم “الشيخ رجب” إلى حزب “الخلاص الوطني” بقيادة نجم الدين أربكان في نهاية السبعينيات، لكن مع الانقلاب العسكري سنة 1980 تم إلغاء جميع الأحزاب، وبحلول عام 1983عادت الحياة الحزبية إلى تركيا وعاد نشاط أردوغان من خلال حزب “الرفاه”، خاصة في محافظة اسطنبول. وبحلول عام 1994 رشحه “الرفاه” لمنصب عمدة اسطنبول، واستطاع أن يفوز في تلك الانتخابات بعدد كبير من المقاعد. وأثناء هذه الفترة عرف عنه الإباء والكبرياء والصدق في الممارسة السياسية، وهذا سيتجلى فيما بعد في فترة عمادته لمدينة اسطنبول. بعدها عمل مع بعض زملائه في الحزب الدين انشقوا عن حزب “نجم الدين أربكان” على تأسيس حزب “العدالة والتنمية”، واتهم سنة 1998 بالتحريض على الكراهية الدينية تسببت في سجنه ومنعه من العمل في الوظائف الحكومية ومنها الترشيح للانتخابات العامة بسبب اقتباسه أبياتا شعرية من شعر تركي قديم أثناء خطاب جماهيري كبير يقول فيه: مساجدنا ثكناتنا، قبابنا خوذاتنا، مآذننا حرابنا، هذا الجيش المقدس، والمصلون جنودنا، هذا الجيش المقدس يحرس ديننا…).

بعدها أعلن أن حزب العدالة والتنمية سيحافظ على أسس النظام الجمهوري ولن يدخل في مماحكات مع القوات المسلحة التركية وقال: سنتبع سياسة واضحة ونشطة من أجل الوصول إلى الهدف الذي رسمه أتاتورك لإقامة المجتمع المتحضر والمعاصر في إطار القيم الإسلامية التي يؤمن بها 99%من مواطني تركيا).

ثالثا: الانخراط في الإقلاع الاقتصادي والسياسي والثقافي للوطن

بعدما فاز “الشيخ رجب” برئاسة بلدية اسطنبول عام 1994عمل على تطوير البنية التحتية للمدينة وإنشاء السدود ومعامل تحلية المياه لتوفير مياه نظيفة وصحية لأبناء المدينة، كما عمل على تطوير أنظمة المواصلات من خلال شبكة مواصلات قومية وقام بتنظيف الخليج الذهبي (مكب نفايات سابقا) وأصبح معلما سياحيا كبيرا، كما عمل على إنشاء حدائق واسعة واهتم بنظافة المدينة، حتى غدت اسطنبول محجا سياحيا عالميا، كما قطع الطريق على المافيا التركية وحارب رموزها الكبار، وتصدى كذلك لرجال الأعمال الفاسدين الذين كان اقتصاد اسطنبول مرتهنا وفق حساباتهم الضيقة والخاصة، وبذلك فقد انتشل بلدية اسطنبول من ديونها التي بلغت 2 مليار دولار إلى إن وصل رقم معاملاتها إلى 7% بفضل عبقريته ويده النظيفة وبقربه من الناس خاصة العمال حيث رفع أجورهم وحسن ظروف رعايتهم الصحية والاجتماعية، الأمر الذي أكسبه شعبية كبيرة في عموم تركيا لأنه معروف لدى الأعراف التركية أنه من دانت له اسطنبول فقد ملك تركيا كلها. ليس هذا غريبا فقد خاض حزبه الانتخابات التشريعية سنة 2003 وتمكن في مارس من نفس السنة من تولي رئاسة الحكومة حيث عمل على تعزيز الاستقرار والأمن السياسي والاقتصادي والاجتماعي في تركيا، وقاد حكومته للتصالح مع الأرمن بعد عداء تاريخي طويل – وصل إلى حد سجن ومحاكمة المثقفين والأدباء الدين يشيعون هذا النقاش، كما وقع للروائية ذات التوجه العلماني “إليف شفاق” التي حوكمت بسبب روايتها “لقيطة اسطنبول”- وكذلك مد جسور التواصل مع اليونانيين متجاوزا العداء التاريخي وفتح جسورا بينه وبين أذربيجان وبقية الجمهوريات الروسية السابقة، وأرسى تعاونا مع العراق وسوريا وفتح الحدود مع عدد مع الدول العربية ورفع تأشيرة الدخول إليها – منح من طرف المملكة السعودية بجائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام سنة 2010 ومنح الجائزة الفخرية من جامعة أم القرى بمكة المكرمة في مجال خدمة الإسلام بتاريخ 23/03/2011، أيضا منحته مؤسسة القذافي العالمية لحقوق الإنسان جائزة فخرية سلمها له الدكتور أحمد الشريف يوم الإثنين 29نونبر2010، كما لبى دعوة القمة الإفريقية الأوربية الثالثة بصفته “ضيف شرف” تعرض للانتقادات بعدها وطالبه منتقدوه برفض جائزة معمر القذافي والتنازل عنها.

من جهة أخرى قام أردوغان سنة2011 بتقديم الاعتذار التاريخي باسم الدولة التركية للأكراد العلويين جراء الأحداث التاريخية التي وقعت في منطقة “درسيم” بين سنوات (1936_1939) والتي ارتكبها الحزب الجمهوري آنذاك، وقوبل هذا الاعتذار بترحيب شديد من قبل رئاسة إقليم كردستان وقالت إن هذا التصريح يدفع بعملية الانفتاح الديمقراطي في تركيا إلى مرحلة أكثر تقدما.

رابعا: أردوغان ودعمه التاريخي للقضية الفلسطينية ولقضايا الأحرار في العالم الإسلامي

تميز أردوغان في دعمه ومساندته لقضايا الأحرار والمستضعفين في العالم حيث عرف عنه دوره المميز في العدوان الإسرائيلي على غزة الأبية سنة 2008-2009 حيث كان موقفه موقفا “حازما” ضد خرق إسرائيل للمعاهدات الدولية وقتله للمدنيين بدون موجب حق، فقد قام بجولة في الشرق الأوسط تحدث فيها إلى قادة الدول بشأن تلك القضية وكان تفاعله واضحا مما أقلق الإسرائيليين ووضع تركيا في مرمى النقد الإسرائيلي فأجاب “الشيخ أردوغان إني متعاطف مع غزة).

يضاف إلى ذلك موقفه الشهير والقوي والشجاع في مؤتمر “دافوس” سنة 2009 وهو ما صادف الهجوم الوحشي على غزة، حيث غادر منصة المؤتمرين احتجاجا على عدم إعطائه الوقت الكافي للرد على الرئيس الإسرائيلي “شيمون بيريز” بشأن الحرب على غزة، بعد أن دافع الرئيس الإسرائيلي عن دولة إسرائيل وقال مشيرا إلى أردوغان: ماذا ستفعل لو أن صواريخ القسام أطلقت على اسطنبول كل ليلة؟ وقال أيضا: إسرائيل لا تريد إطلاق النار على أحد لكن حماس لم تترك لنا خيارا، رد أردوغان بقوة وقال: لا يحق لك أن تتكلم بهذه اللهجة والصوت العالي الذي يثبت أنك المذنب. وتابع أيضا: إن الجيش يقتل الأطفال في شواطئ غزة، ووزراؤكم قالوا لي إنهم يكونون سعداء جدا عندما يدخلون غزة على متن دباباتهم. ولم يترك مدير الجلسة الفرصة لأردوغان حتى يكمل رده على بيريز، فانسحب من المؤتمر قائلا: شكرا، لن أعود إلى دافوس بعد هذا.

من جهة أخرى دعم أسطول الحرية المتجه إلى غزة المكون من ست سفن، تضم ثلاث سفن تركية، وسفينتين من بريطانيا، بالإضافة إلى سفينة مشتركة بين كل من اليونان والجزائر والكويت، تحمل على متنها إغاثة ومساعدات إنسانية بالإضافة إلى 750 ناشطا حقوقيا وسياسيا بينهم صحفيون يمثلون وسائل إعلام دولية. تعرض الأسطول إلى هجوم كوموندو إسرائيلي مباغت وقتل عددا من المتضامنين مع غزة بينهم أتراك، فقطع علاقات تركيا مع إسرائيل باستدعاء السفير التركي لدى إسرائيل، وأرغم حكومة الاحتلال على الاعتدار. كما عمل القائد أردوغان على استقبال العديد من الأسرى المبعدين في صفقة وفاء الأحرار بين حماس وإسرائيل عام 2011.

خامسا: رئاسة الحكومة وتزامنها مع العدوان الغاشم على غزة في 2014

واصل “الشيخ رجب” انتصاراته المبهرة رفقة زوجته أمينة أردوغان التي لم يفوت الفرصة لاصطحابها معه في مؤتمراته وأنشطته السياسية وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على احترامه للمرأة وحقوقها في ممارسة الشأن العام كأخيها الرجل.

في غشت 2014 فاز أردوغان في الانتخابات الرئاسية في الجولة الأولى منها على منافسيه، وبذلك يكون أول رئيس تركي ينتخب عن طريق الاقتراع المباشر مؤكدا على شعبيته التي لم تتغير رغم الاحتجاجات في ميدان “تقسيم” التي كشفت الحقائق أنها من تدبير ما يسمى ب”الدولة العميقة” أو ما أطلقنا عليه في عنوان هذه المقالة “بذئاب الوادي”. فوزه في الانتخابات الرئاسية لم ينسه آلام الفلسطينيين في غزة جراء العدوان الوحشي الإسرائيلي الأخير. فقد تعهد باستقبال الجرحى في مستشفيات تركيا، وهدد الكيان الصهيوني بفتح خط جوي يربط غزة بإسطنبول إن هو عارض فكرة خروج الجرحى الفلسطينيين للتداوي في تركيا.

خاتمة

ما أحوج الأمة الإسلامية إلى مثل هؤلاء الرجال في زمن تكالبت عليها قوى الاستعمار والعدوان من كل جانب، ونحن إذ ندون هذه المقالة يهمنا أن يقتدي القادة والحكام بمثل هؤلاء القادة لتحقيق إقلاع اقتصادي للأوطان العربية الإسلامية وتحرر سياسي بدل التبعية المذلة التي تدوس كرامة المسلم وتحقر من شأنه. قد يقول قائل: ما شأننا بأردوغان وما شأننا بتركيا؟ وما هذا الوله بالرجل وإنجازاته؟ نقول: إن ما جنى على الأمة هي ذهنية القعود والتقاعس بدون النظر إلى تجارب الآخرين ونجاحاتهم والاقتداء بها، سيما إن صدرت من أيدي نظيفة وقلوب مؤمنة، ونضيف ردا على أصحاب القول بأن افعلوا ما فعل الرجل أو اصمتوا، بدل التصفيق للغرب الإمبريالي الاستعماري الذي امتص ثرواتنا وخرب عقول مثقفينا، وأصبح يعيرنا بالتخلف والسير في طريق النماء.