الشوق إلى الحبيب صلى الله عليه وسلم

Cover Image for الشوق إلى الحبيب صلى الله عليه وسلم
نشر بتاريخ

تتجلى محبة الله سبحانه للعبد في مدحه له وثنائه عليه بالجميل، وهي “من صفات فعله، فهو إحسان مخصوص يلقى الله العبد به” [1]، وهي إرادة منه تعالى لتخصيص عباده بالقربة والأحوال العلية. ومحبة الله لنبيه الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من أعظم ذاك التخصيص وأسماه، فقد اتخذه خليلا، وأثنى عليه بما لم يثن به على غيره.

هذا الحب الذي خص الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم، قذفه سبحانه في قلوب المؤمنين وتوارثوه على مرِّ الأزمان، فعمرت به القلوب وأثمرت شوقا لرؤية المحبوب صلى الله عليه وسلم. حصل هذا مع الصحابة رضوان الله عليهم؛ الذين كتبت لهم مشاهدته ومعايشته والقرب منه، فآووه ونصروه وافتدوه بأنفسهم وأموالهم، وكان لهم في التعبير عن شوقهم المتوقد قصص وطرائف.

وحصل هذا أيضا مع التابعين؛ فمنهم من ألّف القصائد في الشوق لحبيب الله، ومنهم من ألف الكتب، ومنهم من ألف قلوب المؤمنين ودلّها على التحليّة بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرّضها على الفوز بمعيّة المحبوب، إذِ “المرء مع من أحب”، كما جاء فيما رواه أنس رضي الله عنه: “أَنَّ أَعرابيًّا قَالَ لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ قَالَ: حُبُّ اللَّهِ ورسولِهِ، قَالَ: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ” (متفقٌ عَلَيهِ) [2].

ونحن كذلك آمنا به نبيا ورسولا وإن لم نرَهُ بأبصارنا، فالشوق إليه صلى الله عليه وسلم يسكننا. نشتاق لزيارته بالروضة الشريفة في دنيانا، كما نشتاق إلى أن نَرِدَ عليه الحوض فنشربَ من يديه الكريمتين شربة لا نظمأ بعدها أبدا، نشتاق إلى رؤيته صلى الله عليه وسلم، ونهفو أن نكون من أبناء أمته الذين يباهي بهم الأمم يوم القيامة.

نشتاق إلى الحبيب الذي اصطفاه الله لينزل عليه آخر رسالاته ليكون صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والرسل، نشتاق إلى الرحمة المهداة، فهو حبيبنا ومهجة أعيننا، رسول من أنفسنا، رؤوف رحيم بنا، لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٞ مِّنَ اَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُومِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞۖ (التوبة، 128).

عن عبدِ الله بنِ عمرو بنِ العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ ٱلنَّاسِ ۖ فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُۥ مِنِّى ۖ وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (إبراهيم، 36)، وقول عيسى عليه السلام: إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (المائدة، 118)، فرفع يديه وقال: “اللهم أمتي أمتي، وبكى. فقال الله عز وجل: يا جبريل اذهب إلى محمد، وربك أعلم، فسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال، وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل، اذهب إلى محمد، فقل: إنا سنرضيك في أمتك، ولا نسوؤك” [3].

نشتاق إلى حبيبنا رسولِ الله ونعمل على توطيد محبته في قلوبنا؛ بالمواظبة على الصلاة عليه والعمل على تجسيد سنته في سلوكنا ومعاملاتنا وتحسين أخلاقنا، فضلا عن العمل الجماعي في صف العاملين على إحياء منهاجه صلى الله عليه وسلم تربية وتنظيما وزحفا، ونحن كلنا طموح أن نستجلب كينونة الحبيب فينا؛ رجاء في صاحب العطاء والمنّة الذي قال وقوله الحق: وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ (الأنفال، 33).

فكيف لا نشتاق، واتِّباعُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يحقق للمتّبِعين محبة الله جلَّ وعلا. شفاعةٌ في الدنيا تفتح الباب لثواب الآخرة، قال تعالى مخاطبا رسوله الكريم: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ (آل عمران، 31).

هو ذاك الشوقُ الذي هام بالمحبين، ففاقت محبتهم له صلى الله عليه وسلم وعلت على غيره من الأحباب والأقراب من الأهل، وهو ما تطفح به السيرة من أخبار نذكر منها؛ محبة وخوف الأنصارية التي لم يهمها من أمر أهلها في الحرب مقابل خوفها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع حبيب الله بغزوة أُحُد. فماذا كان سؤالُها عندما نَعَوْهُمْ لها؟ لقد قالت: ما فَعَلَ رسولُ الله -صلى اللهُ عليه وسلم-؟ فلما أجابوها: “خيرا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين”. قالت: “أَرُونِيهِ حتّى أنظُرَ إليه”. قال ابن إسحاق: فأشير لها إليه، حتى إذا رأته قالت: “كلُّ مُصيبةٍ بعدَكَ جَلل” [4].

وفي تأكيد تلك المحبة يقول علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه: “كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ” [5].

أما عمرو بن العاص فيقول عن محبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم: “وما كان أحد أحبَّ إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجلَّ في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه” [6].

وهذا ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عنه القرطبي أنه: كان شديد الحب لرسول الله، قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه، ونحل جسمه، يُعرَف في وجهه الحزن، فقال له: “يا ثوبان: ما غيَّر لونَك؟” قال: يا رسول الله، ما بي ضُرٌّ ولا وجَعٌ، غيرَ أني إذا لَمْ أرَكَ اشتقتُ إليك، واستَوْحَشْت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرتُ الآخرةَ، وأخاف أن لا أراك هناك، لأني عرفت أنك تُرفَع مع النبيين، وأَنِّي إن دخلت الجنة كنتُ في منزلة هي أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل، فذلك حينٌ لا أراك أبداً. فأنزل الله عز وجل قولَه: وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّۦنَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّٰلِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُوْلَٰٓئِكَ رَفِيقًا (النساء، 69) [7].

وختاما، نستأنس ببشارة رسول الله وحبيبه ونتخذها فَأْلاً حسنا بإذن الله، عسى أن تَحِقَّ فينا، حيثُ يقولُ صلى الله عليه وسلم: “مِنْ أشدِّ أمّتِي لي حبًّا ناسٌ يكونون بَعْدي يَوَدُّ أحدُهم لو رآني بأهله وماله” [8]. (رواه أبو هريرة).

وأترك قارئتي وقارئي مع شَوْقِ العجوزِ في ليلها وهي تَـنْفُشُ صُوفَها وتقول:

على محمد صلاةُ الأبرارْ 

صلى عليه الطيِّبونَ الأخيارْ

قد كنتَ قوَّاما بكًا بالأسحارْ

يا ليت شِعري والْمَنَايَا أطْوارْ

هل تَجْمَعَنِّي وحبيبي الدَّارْ؟ [8].


[1] القشيري، الرسالة القشيرية، ص 270.

[2] رواه البخاري، كتاب الأدب، باب ما جاء في قول الرجل: ويلك، رقم (6167)، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب المرء مع من أحب، رقم (2639).

[3] صحيح مسلم، كتاب دعاء النبي لأمته، رقم (202).

[4] نقله الذهبي في “تاريخ الإسلام”، (2/217).

[5] القاضي عياض، الشفا بتعريف حقوق المصطفى، دار سعادت، المطبعة العثمانية، 1312، 2/568.

[6] جزء من رواية ابن شماسة، وهو عبد الرحمن أبو عمرو بن شماسة قال: حضرنا عمرو بن العاص، وهو في سياقة الموت، فبكى طويلا، وحول وجهه إلى الجدار، فجعل ابنه يقول: يا أبتاه، أما بشرك رسول الله ﷺ بكذا؟ أما بشرك رسول الله ﷺ بكذا؟ فأقبل بوجهه، فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، إني قد كنت على أطباق ثلاث: لقد رأيتني وما أحد أشد بغضا لرسول الله ﷺ مني، ولا أحب إلي من أن أكون قد استمكنت منه فقتلته، فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار، فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي ﷺ فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه فقبضت يدي، فقال: ما لك يا عمرو؟ قلت: أردت أن أشترط، قال: تشترط ماذا؟ قلت: أن يغفر لي، قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟ وما كان أحد أحب إلي من رسول الله ﷺ ولا أجل في عيني منه وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه؛ إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت، لأني لم أكن أملأ عيني منه، ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها؟ فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني، فشنوا علي التراب شنا، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور، ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم، وأنظر ما أراجع به رسل ربي، رواه مسلم في كتاب الإيمان، باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج، برقم 121.

[7] الجامع لأحكام القرآن، أبو بكر القرطبي، الجزء السادس، ص. 448.

[8] صحيح مسلم، الرقم 2832.

[9] كتاب الشفا، القاضي عياض، م. س، ص 496.