قال عمر بن الخطاب: “استخلفنا الله على عباده لِنَسُدَّ جَوْعَتَهُم، ونستر عورتهم، ونوفّر لهم حرفتهم”. قَدَّمَ الفاروق سَدّ الجوعة على ستر العورة، وَعَلى توفير الحرفة، وسهر رضي الله عنه بنفسه على الأمر ولم يكله إلى جهة أخرى، غير خلافة المسلمين.
على الرصيف
العورة لغة: الخلل وَالنقص والعيب، وعورة الإنسان ما يستقبح النظر إليه، وتعني العورة اصطلاحا: ما يجب ستره.
الجوع وباء متفشٍّ في بلدان غنية متخمة، فتات موائدها يكفي حاجة شعوبها العزيزة، والمفارقة واضحة. الجوع والفقر والمرض فساد الدول، وَفسادها فساد برامج التنمية، وفساد برامج التنمية المستدامة الأممية، المتتالية.
دَهَسَ الفسادُ أبناءَ الشعب، فَأجهز على مستقبلهم، وتركهم على الرصيف، من يُعزّ الشعب يعتبر ضعفاء الشعب جلفة موز، يزلقه عفسها فيتجنبها. من أبناء الشعب من على الرصيف ينام، غطاؤه الليل، فراشه وَرَقٌ مَارِقٌ، مُؤرِّقٌ، من قمامة مضيافة للقطاط يقتات، الرصيف مزروع بالفقر، بالجوع، والسَّغَب، والغَرَث، والطَوَى، فالمَخْمَصَة ثم الضَّرَم، والمرض، والجهل، والتهميش رغم الماجستير والدكتوراه، والوظائف والمساكن اللائقة شاغره، وإهانة تيهاء بلا نهاية، عَلِموا أنهم في هذا العالم أَضْيَعُ من الأيتام في مَأْدُبَةِ اللِّئام، بالآلاف يهجرون البلاد، على فَلَكِ البحر وَفلائك الموت، نحو عالم قائم على الخيال بعيد عن الواقع، سراب ترقرق أمام أعينهم، همهم بناء عالم أفضل، لذويهم قبل أنفسهم. للقهر دمعة حارة.
سنوات الأمم المتحدة الدولية
في أذن جائع طوي بطنه لا تسلك أصوات الأمم المتحدة، الملحونة، ولا شعاراتها المعسولة، المضحكة المبكية: “السنة الدولية للتضامن مع الشعب الفلسطيني”، “السنة الدولية للسكان الأصليين في العالم”، “السنة الدولية للسلام والثقة”، “السنة الدولية لثقافة السلام”، “السنة الدولية لتقديم الشكر”، “السنة الدولية لإيواء المشردين”، “السنة الدولية للتعاونيات”، “بناء عالم أفضل”، “أهداف التنمية المستدامة 2030″، “العيش معًا في سلام”… ويا سلام على الكلام الجميل، لا يسلك في أذن الجائع المعوز الفقير إلّا صوت واحد: لقمة العيش في سلام ولا للاحتلال. من الناس من يظن أن الفقر والجوع تحتكره القارة الإفريقية، إننا لنراه متفشيا أيضًا في آسيا وأوربا وَأمريكا، وحتى في الولايات المتحدة الأمريكية، نراه على أرصفة مدينة سان فرانسيسكو، ودنفر، وفيلادلفيا، ونيويورك، وشهد شاهد من أهلها، صحيفة نيويورك تايمز: “ارتفاع معدلات الفقر في نيويورك، ويتحمل الأطفال العبء الأكبر في ذلك” 1. أرصفة الجوع والفقر قارة هنا وهناك وهنالك، في عصر الذكاء الاِصطناعي الذي عجز رغم ذكائه عن فك لغز الفاقة، وفك لغز التنمية المستدامة، المستدامة التأجيل، وكأنها سراب. قال الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي- مون، بمناسبة السنة الدولية للتضامن مع الشعب الفلسطيني 2014، ما يلي: “إنني أدعو جميع أعضاء المجتمع الدولي، ولا سيما الإسرائيليون والفلسطينيون، إلى العمل معا من أجل تحقيق العدالة وإحلال سلام دائم… وسيتعين على قادة إسرائيل وفلسطين أن يتحلوا بالإرادة السياسية والشعور بالمسؤولية التاريخية وأن تكون لديهم رؤية واضحة لتحقيق مستقبل أفضل لهذا الجيل والأجيال التي تليه. وإنني أتعهد ببذل قصارى جهدي لدعم جهودهم. 2” لا ترى شعوب العالم اليوم إلا إباحة اعتداء دائم، فهل انحرفت هيئة الأمم عن مقاصدها؟ نعم.
القارة السمراء تَؤُمُّ القائمة السوداء امتحقت ثرواتها، القارة السمراء تَؤُمُّ قائمة الاِستنزاف، تسلطت عليها خفافيش الظلام، وَتسلط عليها مصاصو الليل ليحتسوا دماء النائمين، يخبرنا التاريخ وتخبرنا الجغرافية، وتخبرنا نظرية الواقعية السياسية، المصلحية، تخبرنا أنه كلما ترشح رئيس بلد إفريقي فيه خير، يريده لشعبه، أطيح به، ليمنح آخَر كرسيه، وليفتح الباب بمصراعي التهميش وَالاِستنزاف، فلا داعي لذكر الدول الإفريقية المستنزفة، ولا داعي لذكر الرؤساء المطاح بهم، ولا داعي لذكر من تولى الحكم مكانهم وصال وجال، ولا داعي لذكر من يُسقِط رئيس ويرفع رئيس، ولا داعي لذكر النهب الأعظم، ولا داعي لذكر الثروات الإفريقية التي تمول حملات الرؤساء الفرنسيين الاِنتخابية مثلا، تحمل إليهم حقائب رصعت بالعملة الصعبة، وَصفائح من الماس تهدى لرئيس فرنسي سابق، فلا داعي لذكر أسماء من أهدى ومن أهدي إليه، فما من هدية تهدى إلا اقتطعت من وقود التنمية المستدامة، وَمن إسمنت العالم الأفضل، وَاقتطعت من قوت أبناء الشعب ومن لحمه، وَما الاِقتطاع إلا عربون سفن الموت، جزء من أثمنتها، فلا داعي للخوض في هذا الملف أكثر من اللازم، فالمعلومة سهلة المنال، لمن يهتم بعلاقة الرؤساء الحميمية بالقارة الإفريقية، منذ استقلال دولها إلى اليوم.
لمنظومة الأمم المتحدة دراية دقيقة بوضع الدول الأعضاء الغنية الفقيرة، صاحبة المناجم والمعادن وَآبار النفط والغاز وَالأرصفة معًا، لمنظومة الأمم المتحدة دراية بحالاتها الاِقتصادية، والسياسية، والاِجتماعية، والمالية، وحتى الأمنية، كلها مُدوّنة في آلاف التقارير، والدراسات، والاِتفاقيات، والبيانات، وبرامج المساعدات التقنية، يصدرها البنك الدولي بغزارة، وَصندوق النقد الدولي، وَتصدرها كل من منظمة العمل الدولية، وَمنظمة الأغذية والزراعة، وَمنظمة الصحة العالمية، وَمنظمة التجارة العالمية، وَمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة اليونسكو، وَمنظمة الأمم المتحدة للطفولة اليونيسف، وَالمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وَوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين الأونروا، والسفارات، ووكالات الاستخبارات، وَهلم جرّا، على سبيل المثال ليست التنمية المستدامة الأممية بمسجلة في بيان الهوية التعاونية، بيان الحلف التعاوني الدولي المصون، ولا في قوانين التعاونيات الأساسية، حتى تلتزم بها التعاونيات، كما تزعم الأمم المتحدة عبر أمينها العام 3، بل تقع المسؤولية على عاتق الدولة المدعوة لتقليص الفجوة بين الفقر المدقع والثراء الفاحش، بين فقر صاحب رصيد مدين دائم في حساب بحانوت، بحي شعبي، بحي الصفيح، وبين ثراء صاحب رصيد دائن دائم في حساب ببنك بزوريخ، جمعه فأوعاه، لم يُعلِم به أحدًا لأسباب يعلمها الجميع، مُتَبَنْدِرٌ هَمُّهُ زيادة الأصفار إلى حسابه، فحتى إذا جاءته الموت، وأجابَ على أسئلة منكر ونكير، انتقل الرصيد إلى ملكية البنك السويسري.
تعج الملاوذ الضريبية برؤوس أموال هاربة من التنمية المستدامة، هروب السارق من مسرح الجريمة، بضبط محكم، فارّة من البناء، فارّة من بناء عالم أفضل للجميع، تعج الملاوذ الضريبية برؤوس أموال أتتها من الدول الغنية الفقيرة، زبائن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي الطيبة، فرجاءً قبل احتفاء زائف باليوم العالمي للعيش معًا في سلام، وَقبل احتفاء زائف بالسنة الدولية للتعاونيات، وَقبل احتفاء زائف بالسنة الدولية للسلام والثقة، الانتباه لأولويات سبقت من حيث الأهمية وَالأزمنة، هل التعاونيات مثلا مطالبة حقًّا بتقليص الفجوة بين الفقر والثراء، لتحقيق أهداف التنمية المستدامة 2030 السبعة عشر الذائعة الصيت، المنتشرة المنشورة في كل مكان منذ 2015؟ فهل التعاونيات مطالبة بملاحقة ذوي الحسابات في بنوك الملاذات الضريبية، غير الشرعية في غالب الأحيان والغير أخلاقية دائما، ومحاسبتهم كي يقال إن التعاونيات تنخرط في برنامج 2030 وَأن الخلاص النهائي لا يأتي إلا بالتعاونيات، فيصفق الجميع؟ هَل يساهم أصحاب الأرصدة الفرعونية، والهامانية، والقارونية، الراكدة في البنوك السويسرية، فِي بناء عالم غير عالمهم؟ لَيس أصلًا بناء عالم أفضل بأصلهم التجاري، ولا بأصلهم الأخلاقي، حتى يعانقوا دلالته، ومعناه الجلي وَالخفي، مخافة أن يُذهَبَ بطريقتهم المثلى.
عبادة الأرباح
نرى شركات تجارية تعبد الأرباح ليؤجر أصحابها، تعتمد على رأس المال وَتُتَوِّجُه، فتسعى في الأرض فسادا، إلّا من رحم الله، رأس مالها مغلق، الأرباح تغادر البلاد سامقةً غدارةً بالعباد، لا ترعى لهم الذمام، لتصعّد الأرباح صعودًا إلى الشركة الأم الأجنبية، فلا يستفاد منها، لا أثر لها على محيط الشركة التّجارية وفيه، ولا على التنمية، شعارها المنافسة الشرسة، التنافس والتقاتل، تَهوس بالربح والقسوة، تنتقل من مكان إلى مكان، من بلد مُضيف إلى بلد مِضياف، لتتكرر المضائف وتتعدد، حسب مصالحها، ومصالح شركائها الاستئثارية، مخلفة وراءها عند كل ضيافة أزمةً اِجتماعية، تتملص من الضرائب، وتتخلى بدون رحمة عن الموظف المضاف، والعامل المضاف إليه، بالآلاف، لتترك فاتورات التكاليف لحكومات المضيف والمضياف.
آلة الغسيل
نضع على القائمة ظاهرة أخرى، ألا وهي ظاهرة غسيل الأموال، التي أصبحت عملياتها من أخطر ما يهدد الاقتصاد العالمي، في ظل تقدمها المتسارع، ومشاركة مؤسسات عملاقة وذائعة الصيت فيها، عالم غسل الأموال عالم سُفلي له جرذان تعيش في جحور، لها شبكات ونسل، من رتبة قوارض الاقتصاد، والتنمية المستدامة، والعالم الأفضل، سباقون إلى الإبداع في تبييض الأموال، نشاطهم مُتعب وصعب، وضبابي وتنافسي، لا يستحكمه إلا خبير، يُدِرُّ أربعة تريليونات دولار أمريكي سنويا، ما يعادل خمسة في المائة من الاقتصاد العالمي، يضاف تبييض الأموال إلى القائمة السوداء، التي تشل الاِقتصاد والتنمية المستدامة، والعالم الأفضل.
في هذا السياق تطالب الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاونيات باختراع لقاح ضد الطاعون، الذي أصاب رئة الاقتصاد العالمي، جراء انتقال العدوى من مريضه إلى سليمه، تظهر العدوى في الاقتصاد نتيجة التعرض للقوارض، وقد تظهر كذلك في بعض الحالات منتشرة في الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، رغم مناعة يُضرب بها المثل، تطالب التعاونيات عبثا اصطياد الوحوش في ماء عكر، تطالب باقتحام عقبة التنمية المستدامة، وهي تُشرد أمام أعين الناظرين.
إنني لا أعلم برنامجا أفيد من برنامج آلة غسيل الأموال، آلة مزودة بخاصية التجفيف، فيها تقنية متطورة، برنامجها جلي ومحكم، وهو أفيد بكثير من برامج الأحزاب السياسية، ومن برنامج التنمية المستدامة 2030، الذي طال عليه الأمد، فمن المسؤول الحقيقي عن التقصير في بناء العالم الأفضل؟ تبدو مهارات غسل الأموال ناجعة لأصحابها، فكيف لا تُنقل هذه المهارات والقدرات، ليتم توظيفها في مجال التنمية المستدامة؟ نقلها نافع، للتمكين من تحقيق أعمال هرقل السبعة عشر الأسطورية 2030، التي صادقت عليها الجمعية العامة للأمم المتحدة، ودولها الأعضاء، تصادق الدول ثم تخرق الدول، بكرة وَأصيلا.