الشح المحمود

Cover Image for الشح المحمود
نشر بتاريخ

لو خير أحدنا في هذه الحياة الدنيا بين المال والوقت وقيل له أيهما أفضل؟ لأسرع المتهور الأحمق باختيار المال لما يجلبه له من لذة آنية ومتعة عابرة، لكن العاقل المتبصر يدرك أن المال لا يساوي شيئا أمام الوقت، لأن الوقت رأس مال الإنسان، بل هو عمره، فكلما ذهب يوم ذهب بعض منه، ويعلم يقينا أن المال يُعوَّض أما الوقت إذا ذهب لا يعوض، قال الحسن البصري: «ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: يا ابن آدم أنا يوم جديد وعلى عملك شهيد فاغتنمني فإني لا أعود إلى يوم القيامة».

المال نصيب مقدر، قسمه المولى الكريم بين العباد، ولم يوكل به بني البشر؛ قال تعالى: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (الذاريات، 521)، وحتى لو اعتقد الإنسان أنه حظي به على علم عنده وكد وكدح ليل ونهار، ونسي ربه وأفنى عمره كله في جمع ثروة هائلة؛ فإنه لو أصيب بمرض عضال وطلب منه أن ينفق كل تلك الثروة في العلاج لما توانى، ولأنفقها بغية الحصول على وقت إضافي يعيشه في هذه الحياة الدنيا، حينها يدرك أن الوقت أعز من المال، فهو استرخصه مقابل تمديد عمره، فماذا لو قبضت روحه وأيقن بالخسران المبين.

لذا ما أقسم المولى سبحانه بالوقت في القرآن الكريم إلا لعظم شأنه في حياة الإنسان، فأقسم عز من قائل بالعصر والفجر والليل والضحى… لينبه عباده إلى أسمى ما يملكون، وما هم فيه مختبرون.

من هنا كان على الإنسان أن ينتبه ويعتبر، ويحسب ألف حساب قبل أن يضيع دقيقة واحدة من عمره، لأن هذه الأوقات التي نهدرها إهدارا، ونضيعها أحيانا في العبث واللهو وفي سفاسف الأمور، يحصيها علينا الرب الرقيب، ويسجل خلالها الملكان الموكلان بأعمالنا كل صغيرة وكبيرة ونحن في غفلة من أمرنا، حتى إذا كشف الغطاء وأصبح البصر حديد وظننا أنه الفراق صحونا من غفلتنا، ووددنا العودة للحياة الدنيا لنحسن التزود ليوم الميعاد، لكن هيهات، وما تنفع حينها الحسرات، يقول المولى الكريم: وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَآءَ أَجَلُهَا ۚ وَٱللَّهُ خَبِيرٌۢ بِمَا تَعْمَلُونَ (المنافقون، 11).

كم يود المخاطب بهذه الآية آنذاك لو أنه في حلم يستطيع أن يستفيق منه ليتدارك ما فات ويطلب من ربه أن يجبر العثرات، وهو  يرى كتابه أمامه فيخجل من الزلات والغفلات، فيقول نادما متحسرا: يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (الكهف، 49).

ومن ثم فإننا محظوظون لأن العمر ما تزال فيه بقية، وأمامنا فرصة ذهبية لا يجب أن نضيعها، بل نشمر على سواعد الجد ونقبل على ما يرضي عنا الرب، ونقتصد ونحن ننفق من ميزانية الوقت، بل نبخل أحيانا حتى لا ننفقها إلا في ما يعود علينا بالنفع. قال الحسن البصري: «أدركت أقواما كان أحدهم أشح على عمره منه على دراهمه ودنانيره»، ومن هؤلاء ما روي عن عامر بن قيس أن رجلا قال له: كلمني، فقال له: أمسكِ الشّمس (1)، يعني أوقف الزمان إن شئت أن نتحدث حديثا لا طائلة منه. وهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان يقول: «ما ندمت على شيء  ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي».

لنا في هؤلاء الأكابر إسوة نقتفي أثرهم ونسير على خطاهم، فلا نعبث بأثمن ما نملك، بل نحافظ على أوقاتنا ونصرفها في الطاعات، وقد خط لنا الإمام رحمه الله برنامجا كاملا متكاملا؛ «يوم المؤمن وليلته»، من انضبط به لن يعرف لضياع الوقت معنى.

ولنحذر، لأن إضاعة الوقت مفسدة ما بعدها مفسدة، فهي أشد من الموت كما قال ابن القيم الجوزية رضي الله عنه: «إضاعة الوقت أشد من الموت لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها».

رزقنا المولى تعالى دوام الصلة به، والحمد لله رب العالمين.     


(1)  ابن الجوزي رحمه الله، صيد الخاطر، ص 13.

(2)  نفسه، ص 31.