الشأن السياسي في المنظومة الإسلامية بين سؤال الاجتهاد وسياقات الواقع (2)

Cover Image for الشأن السياسي في المنظومة الإسلامية بين سؤال الاجتهاد وسياقات الواقع (2)
نشر بتاريخ

استكمالا لما بدأناه في الحلقة السابقة، تأسست أحكام الشأن السياسي في العهد النبوي، كما ، ضمن مجموع الأحكام والتوجيهات التي صاغت شخصيات الصحابة رضي الله عنهم، حاملو مشروع الخلافة والاستخلاف، بحسب تفاوت درجاتهم في الاجتهاد ـ على الوحي والاجتهاد:

1. الوحي: ونقصد به الوحي بنوعيه المتلو المتعبد به، أي القرآن الكريم، وغير المتلو أي السنة الشريفة. إن كل قاعدة من قواعد الشأن السياسي في هذا العهد، وكل خطوة من خطوات الحركة النبوية، كانت منبعثة من القرآن الكريم، مؤسسة على تعاليمه، متبعة لتوجيهاته التي كانت صريحة واضحة في بعض الأحيان، مشيرة هادية في أحيان أخرى. فلم يكن يمثل التطبيق العملي الكامل، لما ينزل من السماء سوى الشخص الكريم صلى الله عليه وسلم، وبصحبته ومعيته رجال أشداء على الكفار رحماء بينهم: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم، تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا 1 .

تظهر هذه الحقيقة في الأحداث المتتالية التي ميزت الفترات الأولى من التدافع مع الملإ المشركين الذين شكلوا القوة الرئيسية للتصدي للدين الجديد. كالأمر بالقراءة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ 2 ، والأمر بقيام الليل يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلا 3 ، والأمر بالإنذار يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ 4 ، ثم الصدع بالدعوة إلى الله تعالى: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ 5 ، ثم الهجرة، ثم بناء الدولة.

2. الاجتهاد: لم يمنع نزول الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم من الاجتهاد بالرأي فيما لا نص فيه، أو فيما تأخر نزول الوحي بإزائه، وسواء وافق الوحي اجتهاده صلى الله عليه وسلم وصوبه، أو غيَّره وسدده. ومن أهم القضايا التي اجتهد فيها صلى الله عليه وسلم، والمرتبطة بالشأن السياسي، اعتراض قوافل المشركين قبل غزوة بدر، وفي تحديد مكان مقاتلة المشركين في نفس الغزوة، وفي التصرف مع أسرى بدر، وتيسير استجابة الصحابة رضي الله عنهم لأمره إياهم بحلق شعورهم، وذلك بحلق رأسه الشريف أولا…

ولم يكن سلوك الاجتهاد في الشأن السياسي صادرا من النبي صلى الله عليه وسلم فقط، بل كان يصدر من الصحابة رضي الله عنهم أيضا ، خصوصا من السابقين، وقد يكون في بعض ذلك ميل عن توجيه منه صلى الله عليه وسلم، وذلك كثير في حياتهم رضي الله عنهم مثل رفع عبد الله بن مسعود الصوت بالقرآن الكريم في وجه المشركين، وجهر أبي ذر بإسلامه أمام الملأ المشرك، وجهر كل من حمزة وعمر رضي الله عنهما بإسلامهما،بل بالدعوة الإسلامية.

ومع كل ذلك، تعهد صلى الله عليه وسلم نبتة البناء التي غرسها، فسقاها ماء الإيمان، وأحاطها برعاية التكتم حينا، والإعلان أحيانا أخرى. ثم رتب صلى الله عليه وسلم خطوات العمل كالآتي:

– الجهر بالدعوة وتحدي المشركين خصوصا بعد إسلام كل من عمر وحمزة.

– انتزاع الحق في عبادة الله تعالى، وأداء الصلوات، ولو وسط الأصنام، كما فعلوا عند الكعبة المشرفة.

– إحسان محاورة ملك الحبشة، وإقناعه بمشروعية قضية المسلمين المهاجرين إلى بلده.

– إرسال مصعب بن عمير يعلم الناس الدين الجديد بالمدينة المنورة، ويمهد الطريق للقدوم القابل، وما يتبعه من جليل الأعمال.

– إرساء قواعد البيعة وشروطها بين القائد والجماعة المومنة.

– إرساء قواعد للشورى والاستشارة والاجتهاد إزاء النوازل والقضايا المطروحة على أرض الواقع.

– إنشاء عقد أخوة بين المهاجرين من جهة ، وبين المهاجرين والأنصار من جهة ثانية.

– بناء الدولة الخاضعة للدعوة، وإرساؤها على أسس متينة، ومقاصد واضحة هي الشورى والعدل والإحسان تبليغا لكلمة الله تعالى.

– استخلاف الأمة الإسلامية: إذ كان صلى الله عليه وسلم يدرك تمام الإدراك أنه مفارق هذه الدنيا، منتقل إلى ربه، لكن رأفته بها وحرصه عليها، يقتضيان المحافظة عليها ما أمكن، وتحذيرها مما يعصف بوجودها.

وإذا كان قضاء الله أمرا محتوما، وبلاؤه شيئا لازما، فإن ذلك لم يمنع من كون هذه الأمة مستخلفة في دين الله تعالى. وقد كانت رعايته لها من خلال:

– إنبائه ببعض ما سيقع بعده صلى الله عليه وسلم من فتن سياسية واجتماعية وخلقية… وكيف يتعامل مع كل منها.

– تحقيبه صلى الله عليه وسلم لتاريخ الأمة تحقيبا واضحا: نبوة ورحمة، ثم خلافة راشدة، ثم ملك عضوض، ثم ملك جبري، ثم خلافة على منهاج النبوة. عن النعمان بن بشير قال: كنا قعودا في المسجد، وكان بشير رجلا يكف حديثه، فجاء أبو ثعلبة الخشني فقال: يا بشير بن سعد، من يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمراء؟ فقال حذيفة: أنا أحفظ خطبته فجلس أبو ثعلبة فقال حذيفة: قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم يكون ملكا عاضا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على مناهج نبوة، ثم سكت”. قال حبيب: “فلما قام عمر بن عبد العزيز، وكان يزيد بن النعمان بن بشير في صحابته، فكتب إليه بهذا الحديث أذكر إياه. فقلت: إني لأرجو أن تكون أمير المؤمنين يعني عمر بعد الملك العاض والجبرية، فأدخل كتابي على عمر بن عبد العزيز فسر به وأعجبه 6 .

ثالثا: الخلافة بين الأصول الشرعية والسياقات التاريخية والسياسية

الحديث السابق سندٌ أساسٌ في فكر كثير من رواد الفكر والحركة الإسلامية في العصر الحديث، وعلى رأسهم جماعة العدل والإحسان الجماعة، ومنطلق أصيل تنبني عليه كل المشاريع الدعوية والسياسية، ولا أحد يملك ينفي الحديث، إنما يظهر الخلاف في فهمه، وهو يبين الحقب التي تمر منها الأمة الإسلامية في مسيرتها التاريخية، إذ أنها ستمر من عدة مراحل كالآتي:

– من النبوة إلى الخلافة الراشدة.

– من الخلافة الراشدة إلى الملك العاض.

– من الملك العاض إلى الملك الجبري.

– من الملك الجبري إلى الخلافة على منهاج النبوة.

ولكل مرحلة خصائصها المميزة عن غيرها، ولقد أسست جماعة العدل والإحسان مشروعها التربوي والفكري والسياسي على قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ 7 وهي أجمع آية في كتاب الله تعالى. وعلى هذا الحديث المعروف بحديث الخلافة على منهاج النبوة، فصل ذلك الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى في عدة كتب هي الآن منهل للباحثين والعلماء، فكيف يعقل اختزال مشروع ضخم في عبارات في مجلس ذي سياق تربوي تعليمي واضح، وتحميل الخطاب أكثر مما يحتمله السياق الحال والدلالي للموضوع.

الأصول الشرعية لموضوع “الخلافة” مستمدة من القرآن الكريم، ومن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم العملي، ثم من الاجتهاد العملي التنزيلي الذي تربي عليه الصحابة رضوان الله عليهم في صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم .

فلا بد الحديث من التمييز بين المصطلحات ودلالاتها، والخطاب وسياقاته.الحديث يتحدث عن مجال حضاري إسلامي عام له خصائص تميزه عن المجالات الحضارية التي عرفها العالم، وليس مقام الحديث عن المجال الحضاري الخاص -حيث الكلام عن الدولة القطرية-، ولذلك فالكلام عن “الخلافة” يكتسي أهميته من اندراجه في خانة الكلام عن المرحلة التأسيسية للمجال الحضاري الإسلامي العام، ومن خطورة الأحداث التي ارتبطت في تاريخ المسلمين بالفتنة الكبرى وما تلاها من انقلاب نزع عن “الخلافة” صفة “الرشد” التي أُضْفِيت عليها خلال حكم الصحابة الأربعة الكبار -رضي الله عنهم-: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.

فكيف تثير الضجات الإعلامية حساسيات خلفيات نفسية وفكرية وتلبسها لبوس التحليل والدراسة؟ وكيف ننسى الأوضاع الجيوسياسية التي تدخلت في سلخ مفهوم “الخلافة” عن معاني الرشد والسداد والتلويح بخطر الدولة الإسلامية على الناس اليوم في عالم أشبه ما يكون بقرية صغيرة متقاربة الأطراف سريعة التأثر بشكل تفاعلي على المستويات الأفقية والعمودية.

رابعا: الخلافة والأوضاع الجيوسياسية اليوم

ما أن تطلق كلمة “الخلافة” و”الدولة الإسلامية” حتى تنطبع في ذهن المتلقي مجموعة من التمثلات المشوهة، فكأننا أمام مجتمع ليس فيه إلا ضرب الرقاب، وجلد الظهور، وإرسال الكتائب لنهب خيرات البلدان الأخرى و…

في تاريخنا الطويل شكلت الفتنة الكبرى وظهور “الخوارج” كارثة كبرى في التاريخ الإسلامي لم يدرك الفروق بين الخلافة الراشدة والملكين العضوض والجبري، فصار محضنا خطيرا لصورة مشوهة ” للخلافة” ومثل مرجعا تاريخيا لتيارات الجمود والتحجر والتكفير والقتل على الهوية، تجددت منه لأسباب ولأخرى في تجدد نسخ “خوارجية” منقحة ومزيدة، لم تسلم قطاعات واسعة في العالم الإسلامي من أثرها اتخذت المجموعات الغالية والمتشددة لنفسها مظاهر وأشكال وأسماء ورموز ورايات ومرجعيات، تم استثمارها لإشاعة فهم منحرف للإسلام يفضي إلى تحنيطه وتجميده ،وتكريس تأويل واحد له لا يخدم إلا المصالح الاستعمارية الكبرى في صورها الجديدة، وتفتعل الصراعات الطائفية والمذهبية،وتعوق حركة الشعوب نحو التحرر من الاستبداد والفساد، وتبدد كل أرصدة القوة لديها بولائها الأعمى لأمريكا.

كل ذلك أحدث خللا في ترتيب الأولويات، وخللا في فقه مراتب الأعمال (السنة والبدعة)، وخللا في فهم شبكة المصالح والعلاقات الدولية المعقدة، وخللا في تدبير الاختلاف مع المخالفين الداخليين والخارجيين (التكفير)…

وهكذا آل الأمر بالكثير من تلك الاتجاهات إلى استكانة أفضت إلى تساكن مع استبداد أقنعهم بأنه: “الخلافة” في أبهى صورها، وحصرهم في بوثقة الاهتمام بالفرد فقط في خاصة شأنه العبادي والمعاملاتي، ومحاربة طاغوتية البدع والشرك فحسب.

كما كان من مآلات هطا الانحراف تناسل الجماعات العنفية، لكل منها “إمارة” و”خلافة”. وليس آخر تجل لذلك إلا إعلان “داعش” “الخلافة الإسلامية” في العراق والشام، في منطقة ملتهبة وحساسة، وهي بذلك تستدعي مراحل تاريخية مهمة مختلف بشأنها، وتقذف بمصطلحات يحتاج فقه مدلولاتها إلى تبين تاريخي وعقلاني وشرعي ومنهاجي، وتخلق الذرائع لتعيد أمريكا الكرة لاحتلال العراق،بالتهمة الجاهزة الناجزة محاربة “داعش” كما احتلته أول مرة بدعوى القضاء على “القاعدة” وأسلحة الدمار الشامل،ليكتشف العالم بعد ذلك كذبها الصراح وتدليسها البواح..

ومما لا شك فيه أن التوظيف السلبي الفاسد للمصطلح من قبل الجماعات الإرهابية الغامضة في تصرفاتها المتوحشة في سلوكها، المخالفة لأبسط أحكام الإسلام ومقاصده من جهة، ومن قبل الإعلام الغربي المذعور من تنامي اقتناع الشعوب بالعدل الإسلامي ودخول الغربيين في الإسلام بصورة منقطعة النظير هو الذي سبب في هذه الصورة من جهة ثانية.

أما مسألة الإجماع فقد اتفقت الأمة فعلا على وجوب إقامة الخلافة متى تمكنت من ذلك، كما أثبته السيد الأمين العام من مظانه المعروفة 8 . وقد قام بذلك في سياق شرحه لحديث الخلافة على منهاج النبوة، وبيان مسؤولية الأمة جماعة وأفرادا في ذلك.

غير أنه لابد من التنبيه على أن هذا الإجماع منحصر في مسألة “حكم إقامة الخلافة” أما كيفية ذلك والمدة الزمنية الخاصة به، وشكلها بحسب تطور الزمان والمكان والأحوال فأمر اجتهادي كما هو كثير من العاملين للمشروع الإسلامي، وكما هو حال جماعة العدل والإحسان. تجتهد في الإسهام في إعادة إقامة الخلافة على منهاج النبوة في إطار من السلمية والتدرج والتمكن المتئد، ولا غبار على هذه الحقيقة في مسيرتها الطويلة، بل وفي تأثيرها على سير الحركة الإسلامية في العالم على خطى من السلمية والوسطية والتسامح الإيجابي الذي لا يلغي الذات إرضاء للآخر.

أما ما يروجه الإعلام بشكل مغرض فإنه توجيه غير بريء منهم، ولعل الضغط الإعلامي المتكرر والمتسارع، والأعمال الإرهابية المرتكبة باسم الدولة الإسلامية والخلافة الإسلامية، والتسارع إلى التبرؤ من ذلك هو الذي حدا بالبعض من التعليق على الخبر، وإعادة صياغته بطرق غاية في الإغراض واللاموضوعية، ولذلك خلافيات مرتبطة بالأوضاع السياسية العامة اليوم، الخلفية النفسية الفكرية الناتجة عن الضغط الإعلامي والسلوك غير الإسلامي المروج له اليوم هو الذي أثار هذه الضجة كلها.

خامسا: مقاصد الخلافة بين الماضي والحاضر والمستقبل

إذا كان المقصد الأسمى للخلافة سابقا، أي في العهد النبوي والراشدي هو إقامة الدين، فإن هذا المقصد ساري المفعول اليوم وغدا، لكن بوسائل العصر وبحكمة أهله من النظم التي تمنع التظالم بين الناس وتدبر الخلاف بشكا إيجابي، أما حكاية عمر بن الخطاب من كونه أمر بضرب عنق من خالف وهو على فراش ، فقد استغل استغلالا غير موضوعي، وكأن الأمين العام لجماعة العدل والإحسان يوصي بما أوصى به عمر وهو خليفة للمسلمين، فأي ضرب من الافتراء هذا. الرجل يحكي قصة تاريخية ساهمت بغض النظر عن مفرداتها الجزئية في تثبيت حكم قائم بالقرآن والسنة من حيث شموله لا من حيث الوسيلة المفضية إليه والتي هي محل اجتهاد.

وعليه، فإن المقصد الأسمى من الخلافة هو إقامة العدل بين بني آدم ليتعرفوا إلى ربهم ويختاروا على بينة ما يقتنعون به، والسعي إلى الإحسان في عبادة الله تعالى بالنسبة للمسلمين، ثم الإحسان إلى الناس كافة.

وهكذا، فإنه لا بد من تضافر الجهود بين علماء الدين وعلماء النفس وعلماء الاجتماع وعلماء التربية والتعليم، وقيادات الحركات الإسلامية إلى لرسم خطة تنهض بالتوعية العامة حتى لا تنطلي حيل وتَخيُّلات “أمراء الزور” على الناس. أولئك “الأمراء” يستمدون تصوراتهم من فقه سياسي تقليدي ترسخ بالترغيب والترهيب بعد الانقلاب الأموي على الخلافة الراشدة وتكريس الملك العضوض وتحكيم “السفهاء” في رقاب الناس، وحتى تصحح مدلولات الخلافة والاستخلاف، وتتبلور مفاهيم الدولة الإسلامية والحكم الإسلامي التي يراد اليوم تشوهها. فلقد سئم المسلمون حال التشتت والتفرق الذي يعانون منه اليوه.

سادسا: الوحدة الإسلامية

أمل كل المسلمين فوق الأرض والصورة المرجعية لقوة المسلمين ووحدتهم هي “الخلافة”: ما من مسلم اليوم إلا ويمني نفسه بوحدة جامعة للمسلمين ومبرزة لقوتهم وعزتهم، والصورة المرجعية في رصيدهم التاريخي ومخزونهم الثقافي هو “الخلافة” مع ما عرفه المصطلح من تشويه، بحيث لا يميز كثيرون بين “الملك” وخصائصه والخلافة ومميزاتها، وهذا مجال للباحثين والمختصين حري بالدرس والتمحيص والنقد والتصويب، ثم التجاوز والتطوير.

هذا الأمل في الوحدة تدعمه ما يراه المسلمون من صور الاتحادات والتجمعات الكبرى للأمم الأخرى من أجل ترسيخ قوتهم الاقتصادية وهيمنتهم السياسية، فهم يقولون بلسان حالهم، وما يرونه من تشتت بين أوصال خير أمة أخرجت للناس: ما المانع أن يكون لنا نحن المسلمين وحدة اسمها “الخلافة” كما كان في زمان من سبقونا؟

أما تصورهم لمفرداته فالله أعلم بذلك من حيث شكلها، وزمانها وأحكامها وتفاصيلها، وعلاقتها بغيرها. المهم إنه أمل المستضعفين الذي تتعلق بهم نفوسهم، وللعلماء بعد ذلك النظر في التوابع،

هذا، والعمل لوحدة المسلمين وقوته وعزتهم مطلب شرعي من كل مكلف عاقل مسلم بالغ، ولا يضر هذا العمل الجاد الدؤوب غيره، بل يكون على خطى إيجابية فيها كثير من الصبر والمصابرة، والرحمة والرفق، والاستفادة من حكمة الأمم في تدبير الخلاف ومنع التظالم وضمان الاستقرار للمستضعفين فوق الأرض من إخواننا في الآدمية مهما كانت عقيدته وملته.

بعد كل هذا نقول: إن حديثنا نحن اليوم عن الخلافة وما شابهها من الموضوعات التي سرعان ما يلتقطها اللانهائي من وسائل الإعلام الإلكتروني، يتطلب مزيدا من الاحتراز وإيراد كثير من التقييدات المزيلة للبس، والمبعدة للغموض.. أما المتصيدون في الماء العكر، متتبعو الفلتات اللفظية دون سبر غور كنه الأفكار فليس من الموضوعية في شيء.

ختاما، عجبت لهؤلاء الذين يخشون من الدعوة للوحدة الإسلامية في صورة ” الخلافة” أو في أي صورة أخرى لأنه لا مشاحة في المصطلحات إذا اتحد المعنى، عجبت لهم يريدون البقاء مزعا مفرقة في أحضان الاستبداد على أن يشموا نسيم الحرية وعبير الكرامة ليبتكر المسلمون لوحدتهم المنشودة ما يرونه صالحا لذلك، ألا ترون إسرائيل اليوم تمني نفسها بدولة إسرائيل الكبرى واستعباد الأممين، وشحن الناشئة من خلال البرامج التعليمية بمعاني الاستعلاء والتحقير للأمم الأخرى، والسعي إلى ذلك عن طريق الإرهاب والعنف والحديد والنار، ولا أحد يوجه لها أصابع الاتهام .

وحدة المسلمين مطلب مشروع، وشكله سمه ما شئت خلافة أو غيرها، وإلصاق التهم بالمجان أمر عفى عليه الزمن، والأمة الإسلامية قيمة مضافة للبشرية وقوة اقتراحية تسعى إلى أن نحقق جميعا تعايشا سلميا وحرية معتقد ومأمن أممي عام. وإلا نفعل يؤول الامر لا قدر الله إلى فساد يفضي- كما حدث في التاريخ- إلى الفاشية والنازية والصهيونية والتوسع والاستعمار.

وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ.

والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.


[1] سورة الفتح.\
[2] سورة العلق الآية الأولى.\
[3] سور ة المزمل الآية الأولى.\
[4] سورة المدثر الآية الأولى.\
[5] سورة الحجر الآية 94.\
[6] مسند الإمام أحمد رحمه الله تعالى، أول مسند الكوفيين، حديث النعمان بن بشير. لمعرفة درجة هذا الحديث، يجب التعرف على رواة الحديث وما قيل فيهم من جرح وتعديل، وهم: أولا: حبيب بن سالم: خلاصة القول في حبيب بن سالم أنه وثقه جماعة، وتكلم فيه آخرون من جهة الخطأ والاضطراب في الأسانيد، لا من جهة الصدق، فإنه ثقة صدوق، لذلك روى له الإمام مسلم في صحيحه. – داود بن إبراهيم الواسطي: داود بن إبراهيم الواسطي البصري، وثقه تلميذه أبو داود الطيالسي، وابن حبان، واكتفى الحافظ ابن حجر بتوثيقيهما، وذكره الإمام الذهبي في المغني مع راويين يشتركان معه في الاسم، ثم قال: “ما علمت أن أحدا ضعفهم، وفيهم من فيه جهالة”، ثم ذكره في الميزان واكتفى بتوثيق الطيالسي، ثم ذكر بعده سميَّيْه، وبيّن أنهما مستوران، مما يعني أنهما المقصودان بعبارة “وفيهم من فيه جهالة”. -داود بن إبراهيم هو إبراهيم بن داود: ورد في سند أبي داود الطيالسي أن حديث الخلافة سمعه داود بن إبراهيم من حبيب بن سالم، وقد أطبق مترجمو داود أنه من تلامذة حبيب الذين سمعوا منه، وقد وقع قلب الاسم في سند البزار، فقال: “حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سُكَيْنٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَضْرَمِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي حَبِيبُ بْنُ سَالِمٍ”، وقد أورد هذا السند بلفظه الإمام البخاري في ترجمة داود، ولو كان شخصا آخر لخصّه بترجمة ضمن من اسمه إبراهيم. -أبو داود الطيالسي: سليمان بن داود بن الجارود، صاحب المسند، قال الفلاس وابن المديني: ما رأيت أحفظ منه، وقال ابن مهدي: هو أصدق الناس، وقال وكيع: ما بقي أحد أحفظ لحديث طويل من أبي داود، وقال العجلي: ثقة، كثير الحفظ، وقال النسائي: ثقة، من أصدق الناس لهجة، ولقوة حافظته، وقدرته على الحفظ، كان شعبة يحدث، فإذا قام قعد مكانه وأملى من حفظه ما مرّ في المجلس. – أقوال العلماء في الحديث: بينا بوضوح ما قيل في رواة الحديث الموجودين في سند الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، وهو السند الذي قال عنه الحافظ نور الدين الهيثمي: رجاله ثقات، أما الحافظ زين الدين العراقي فقد صحح الحديث بأصرح عبارة وأوضحها، فقال: “هذا حديث صحيح، أخرجه أحمد في مسنده هكذا، وداود بن إبراهيم سكن البصرة، وثقه أبو داود الطيالسي وابن حبان، وباقي رجاله محتج بهم في الصحيح”، وقال الشيخ أبو عاصم الغمري: إسناده على شرط الصحيح غير شيخ أبي داود.\
[7] سورة النحل الآية 90.\
[8] نقل الإجماع على ذلك: الماورديُّ في (الأحكام السلطانية ص 15)، وأبو المعالي الجويني في (غياثِ الأمم ص 15)، والقاضي عياض في “إكمال المعلم 6/220″، والنوويُ في [شرح صحيح مسلم 12/205]، وغيرهم كثير، ونصوصُ الإجماع كثيرة مبثوثة في مظانِّها لا حاجة لإطالة المقال بذِكرها.\