السياحة بين العادة والعبادة

Cover Image for السياحة بين العادة والعبادة
نشر بتاريخ

ما إن يشتد الحر، وتشرف المدارس على إغلاق أبوابها، حتى تجد الآباء والأمهات يخططون للوجهة التي يولون وجوههم إليها لقضاء عطلة الصيف. فكيف نجعل هذه العادة عبادة نتقرب بها إلى المولى عز وجل؟ وكيف نطمح أن تكون السياحة في مجتمعاتنا الإسلامية؟

السياحة من منظور قرآني

السياحة لغة هي السير والانتقال من مكان إلى آخر، يقال: ساح فلان في الأرض، يسيح سياحة وسيوحا وسيحانا. يقول الإمام القرطبي: «إن مادة السياحة تدل على أن أصلها الذهاب على وجه الأرض كما يسيح الماء».

وقد وردت كلمة سياحة في القرآن في ثلاثة مواضع: جاءت في سورة التوبة في قوله تعالى: السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ (112)، وفي قوله عز وجل: فَسِيحُواْ فِى ٱلْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍۢ (2)، كما ذكرت في سورة التحريم في قوله عز وجل: عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ (5)، إلا أن العلماء أجمعوا على أن المقصود بها هنا الصوم، لما روي عن عبيد بن عمر رضي الله عنه قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السائحين فقال: هم الصائمون» (رواه بن جرير رحمه الله)، وقيل هي الجهاد.

إلا أن السياحة بمفهومها اللغوي حث عليها المولى الكريم في آيات أخرى لم يذكر فيها لفظ سياحة، فقد قال عز من قائل: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۗ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (يوسف، 109)، وقال عز وجل: قُلْ سِيرُواْ فِى ٱلْأَرْضِ ثُمَّ ٱنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ (الأنعام، 11). هنا الله عز وجل يدعو عباده للسياحة في الأرض قصد الاعتبار بمصير الأقوام السابقة، لما في ذلك من تقوية العزائم والإقلاع عن الذنوب والمعاصي التي بسببها أهلكوا. وتعد ھذه سياحة تأمل واعتبار.

كما رغب الباري عز وجل في نوع آخر من أنواع السياحة؛ ألا وهو السياحة الجغرافية أو الفلكية إن صح التعبير، فقد قال تعالى: قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ (يونس، 101)، إذ السياحة قصد البحث والتنقيب عن أسرار الكون ومكنوناته من الأمور المستحبة، لما تحقق من الاكتشافات، وترقى بالأمة في مراقي العلم والازدهار.

وهناك أنواع أخرى للسياحة، كالسياحة العلمية، التي بين الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم فضلها بقوله «من سلك طريقا يلتمس به علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة». والسياحة الثقافية لمشاهدة المعالم والمآثر التاريخية والحضارية، والسياحة الإيمانية الفكرية؛ كزيارة الأماكن المقدسة، والسياحة العلاجية قصد الاستشفاء، وسياحة الترفيه والترويح عن النفس، لأن القلوب تمل فساعة وساعة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.

وقد بين الإمام الشافعي رضي الله عنه فوائد السياحة بجميع أنواعها فقال: «إن في الأسفار خمس فوائد هي: تفريج هم، واكتساب معيشة، وعلم، وآداب، وصحبة ماجد».

فالسياحة إذن محطة مهمة للاستفادة من ثقافة الأمم الأخرى، ومن حضاراتهم وعاداتهم وتقاليدهم… كما أنها مناسبة للتعريف بحضارتنا الإسلامية، والدعوة إلى ديننا الحنيف.

لتكن سياحتنا وفق بيعة العقبة

لقد كانت بيعة العقبة، كما لا يخفى على مسلم، في موسم الحج، حين كان الحجاج يأتون من المدينة إلى مكة في سياحة إيمانية لأداء مناسك الحج، وقد استثمر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ھذه السياحة لإرساء أسس الدعوة إلى الله.

وفي ذلك عبرة لكل متهمم بأمر الله، يسعى إلى إعلاء كلمة الله في الأرض. فإن كانت السياحة الإيمانية استثمرت لدعوة الله، فما بالك بالسياحة الترفيهية أليس من الأجدر أن تكون مناسبة لإبراز المميزات الخاصة بالحضارة الإسلامية، والإرث التاريخي والثقافي، ليجعل من البلدان الإسلامية وجهة سياحية متميزة، بدل التقليد الأعمى الذي يجعل منها نسخة للدول الغربية، تحل فيها ما حرم الله من خمر وزنا وقمار… بدعوى الانفتاح طمعا في سياحة مزدهرة. ووالله لن تزدهر سياحتنا أبدا ما دمنا نستقبل زوارنا بلافتات عليها صور فتيات شبه عاريات يقلن هيت لك، وصور فنادق من خمس نجوم تستطيع تقديم الخمر كما يقدم المسلمون الشاي. فليس بالحانات والفتيات الجميلات، والرقص الماجن، والمهرجانات التافهة، نبرز ثقافتنا، وإن الثقافة الإسلامية أعز وأجل من أن تخاطب ملذات الجسد والهوى. فكما وهب الله الإنسان الجسد وهبه العقل والروح، والثقافة التي لا تلبي حاجيات ھذه المكونات الثلاث تبقى بتراء، ونحن أمة أعزها الله بالقرآن فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله.

فلتكن سياحتنا هادفة ومتميزة، نابعة من روح ديننا الحنيف ومن تعاليم القرآن الكريم، فمن هان عليه دينه هان على الله. أعاذني الله وإياكم من الذلة والهوان، وأعز الله أمتنا الإسلامية. آمين آمين، والحمد لله رب العالمين.