السطر الأخير..

Cover Image for السطر الأخير..
نشر بتاريخ

في آخر حصة من حصصه، وفي آخر 5 دقائق من الحصة، انتقد الأستاذ سياسة المغربة (La Marocanisation) التي بدأ تنفيذها من طرف الدولة المغربية في فترة السبعينات، وتحدث عن ضرورة الانفتاح على دول العالم، للاستفادة من تجاربهم والاستفادة اقتصاديا أيضا من الاتفاقيات التي نوقعها معهم. فجأة، أعطى مثالا بمن يتحدثون عن “العلاقات المغربية الإسرائيلية” ثم قال: “مانهضروش بالعاطفة، il faut créer de la richesse, peu importe avec qui، ما نهضروش على الدين، نستفيد اقتصاديا جميعا، وفاش نرجعو لدارنا كل واحد يصلي تجاه قبلته”. سبقتني ملامحي تتحدث عن هول الصدمة، وحين رآني الأستاذ أضع كفي على فمي مفزوعة مما قاله، استطرد قائلا: “هذه وجهة نظري” وغيّر الموضوع.

لم يأبه أغلب الطلبة بما قاله الأستاذ، وحاول بعضهم أن يتحدث عن عدم استفادة المغرب من اتفاقيات التطبيع هذه، لولا أن وقت الحصة انتهى، فغادر الطلبة القاعة لامتحان ينتظرهم.

غادرت أيضا وأفكاري تحدثني: جميل حديث الاقتصاد هذا، ندرِّس الاقتصاد ونقول إن التطبيع أو “الانفتاح على إسرائيل” -كما أسماه الأستاذ- ضرورة اقتصادية، والامتناع عنه هو امتناع عن كل تقدم اقتصادي. ندرِّس علوم السياسة ونقول إن التطبيع ضرورة سياسية، تفرضها حاجتنا للاعتراف بمغربية المناطق الصحراوية التي لا يزال الصراع حولها قائما إلى الآن. ندرٍّس اللغات ونربطها بالثقافات ثم نقول إن الانفتاح على “الثقافة الإسرائيلية” ضرورة يفرضها عصر العولمة للاستفادة من “التنوع الثقافي والتاريخ العريق” اللذان يزخر بهما هذا “البلد”. ندرِّس علوم الإعلام والصحافة ونقول إن “الحقيقة درجات” ثم نزور الحقائق تماما ونبرر بإعلام فاسد تطبيعا أفسد. والفكرة تنطبق على كل العلوم والمجالات. يتفكر المرء في سياسة التجهيل هذه ويتساءل: أين القيم؟! يُمنَعُ الحديث عن القضية الفلسطينية في المدارس والجامعات ويُقمع صوت الاحتجاج في الشارع، جميل! لماذا لا يُمنع الحديث عن التطبيع و”مزاياه” أيضا، إذا كان المراد أن يقول كل واحد كلمته، وإذا كان هذا التطبيع لا يمنع الوقوف إلى جانب الفلسطينيين في نكباتهم المستمرة، أليس هذا ما ملت أسماعنا من ترديدكم له في إعلامكم الفاسد الموجه المطبع المبرر لكل جريمة نكراء في حق شعب تكالبت عليه خطوب الاحتلال والخيانات؟ أوليس “الحياد” أو الخيانة بشكل أدق، هو ما أصبحتم تتغنون به بعد هذا التطبيع؟

مؤلم جدا جدا، والأكثر إيلاما أن الاحتلال أيضا يراهن على الأجيال التي تنشأ على هذه الأفكار، رهانه على بناء أجيال تبرر بل وتشرع الاحتلال والتهجير والأسر والقتل.. رهانه على بناء أجيال خاضعة مستكينة لا تهز أوتارها أخبار القصف. الرهان أن تنبهر الشعوب بعسل “الاستفادات، والمنافع الاقتصادية والسياسية والفنية الثقافية…” فتتجرع سم سلب إرادتها. والأساس كل الأساس هو اتفاقيات التطبيع هذه وهذا الاختراق الصهيوني للفن والثقافة والإعلام والتعليم الذي نعاني ويلاته… أساس كل الشرور هو الاعتراف بهذا الكيان الصهيوني الغاشم الواهم المحتل المغتصب كدولة ذات سيادة.

وسط كل هذه الأحداث التي يظهر للناظر أنها لا تدعو إلا لليأس، ينقضي يومي وأتجه لمنزل مريم جارتنا، وهي تلميذة في السنة الثانية إعدادي، أساعدها في مادة اللغة العربية. اعتدت أن أترك آخر 20 دقيقة من الحصة لنقاش مواضيع باللغة العربية لتطوير مستواها ومستواي اللغوي والتواصلي أيضا، وأترك لها حرية اختيار الموضوع لكي لا يكون حديثها تكلفا يجعل الأمر مملا ثقيلا على عقلها. في آخر عشرين دقيقة من الحصة، طلبت منها اختيار الموضوع، فأجابت في غضون ثواني: هل “إسرائيل” موجودة؟ أخفيت دهشتي وقلت لها تفضلي برأيك أولا، فكان لها (وهذا ما لم أكن أتوقعه) موقف رجولي ضد التطبيع وضد هذا الكيان الواهم، وحدثتني أنها كانت ستشارك في مسابقة للتحدث أمام الجمهور (public speaking)  في مدرستها، وأعدت نصا يتحدث عن القضية الفلسطينية فرفضت أستاذتها قائلة إن الإدارة سترفض هذا الموضوع. بعد ثوان من الصدمة، سألتها: وما الموضوع الذي تحدثت عنه بعد هذا الرفض؟ قالت: لم أشارك، ولن أشارك في مسابقة تمنع الحديث عن القضية الفلسطينية!

مريم تلميذة لم تنشأ في أسرة تسمع فيها عن القضية الفلسطينية، بل أسرتها ليس لها وعي حتى بعشر ما تتحدث عنه مريم. لكن الفتاة تبحث وتنقب، وتدري أن الوعي هو المعركة الأهم الآن وبعد الآن.

حدث هذا بعد أن فاجأتني مريم في أول حصة بحديثها عن “الإسلاموفوبي” وآليات ترويجها. وتحدثت عن الموضوع مستعملة إحصاءات وتواريخ بطريقة مبهرة.

كذلك، تحدثت مريم في الحصة الثانية عن الشذوذ الجنسي، وعن بعض آثاره على مؤسسة الأسرة، من جانب قيمي وعلمي أيضا.

جبارة هي المجهودات التي يبذلها الاحتلال وأعوانه لبناء أجيال خاضعة، لكن “وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اُ۬للَّهُۖ وَاللَّهُ خَيْرُ اُ۬لْمَٰكِرِينَۖ”. آية تطمئنك وتراها رأي العين في الخير الخالد في أمتنا إلى يوم الدين.

استفحال الفساد والظلم ينسينا في بعض الأحيان أن الله متم نوره، وأن الواجب أن نختار موقعنا بين الحق والباطل، والأوجب أن نبلغ؛ بالصوت، بالقلم، بالريشة، بالنغمة والآلة…

الإبحار عكس التيار متعب، لكن الغاية تهونه. فلنعلي سقف الغاية، ولنثبت ونبلغ في زمن كثر فيه المتساقطون، وأصبحت فيه الخيانة وجهة نظر. الوعي معركة حاسمة، وزرع القيم التي يكثف الكيان المحتل والأنظمة الفاسدة مجهوداتهم لمحوها، مهمة كل شريف من موقعه.