خلق الله الخلق وجعلهم زوجين (ذكرا وأنثى) للتكاثر، وجعل ذلك سنة في الخلق وآية من آياته في الكون للتذكر والاعتبار. قال تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (الذاريات. 49)، كما وضع سبحانه لذلك ناموسا تخضع له قوانين حياة الخلق في التناسل والتكاثر لا ينبغي الحياد عنها. فأين يتجلى ذلك؟ وما مقومات الحياة الزوجية ضمن المنظور الإسلامي؟ وما هي المقاصد المتوخاة من الزواج؟ وكيف تعامل الإنسان باعتباره كائنا مكرما ومميزا على عدد من الخلائق مع هذا الناموس؟
جعل الله التزاوج بين الكائنات الحية من نبات وحيوان وحشرات وطيور وأسماك سبيلا للتزايد والتكاثر والحفاظ على بقاء النسل واستمراره في الحياة، حتى كان فصل الربيع موسما للتزاوج لكثير منها. ودافِعُ ذلك ومنظمُه الغريزة الطبيعية الكامنة في نفوس وذوات الكائنات، وبالتالي فهذه الكائنات تخضع طواعية لهذا القانون الإلهي.
إلى جانب هذه الخلائق هناك الإنسان الذي لا يخلو هو نفسه من هذه الغريزة، لكن الله تعالى لم يتركه خاضعا لهوى الغريزة وتقلبات رياحها الهوجاء وأمواجها العاتية، بل شرع له ضوابط وقوانين تنظم هذه الغريزة الطبيعية فيه، انسجاما مع آية التكريم وأمانة الاستخلاف في الأرض، حيث أضحى الإنسانُ المخلوق المميز بالعقل على كثير من الخلق ممن حوله على وجه الأرض، ويتجلى هذا التكريم من خلال قوله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا(الإسراء 70). وهذا يستتبع أن لا يكون الزواج بالنسبة له على شاكلة باقي الخلق كتزاوج النبات أو علاقة جافة خالية من العواطف كتزاوج الحيوان، ولكنها علاقة ملؤها المودة والعطف والحنان والانجذاب الروحي بين الزوجين قبل أن يكون رغبة في إشباع الغريزة.
الزواج ضمن المنظور الإسلامي
يُعرّف الزواج بأنه ميثاق ترابط شرعي بين رجل وامرأة على وجه الدوام غايته الإحصان والعفاف وتكوين أسرة برعاية الزوجين. ولهذا فهو المؤسسة المقدسة في العلاقة بين الجنسين، والإطار الشرعي السامي الذي وضعه الله تعالى للحفاظ على بقاء واستمرار العنصر البشري على وجه البسيطة، فنجد أسمى وأفضل الخلق من الناس – من أنبياء ورسل – هم أبرز من تشبثوا بهذه السنة الإلهية المبثوثة بين خلقه، لأنها هي السبيل الطبيعي الوحيد لاستمرار الخلف. وإلا تعرض المخلوق البشري للدمار؛ إما نتيجة العيوب والأمراض، أو بعقاب إلهي كالذي أصاب قوم لوط الذين أُهلكوا بسبب زيغهم عن جادة الصواب وتوجيههم الغريزة نحو الفسق والفجور. فكانوا عبرة للناس من بعدهم. قال سبحانه وتعالى: إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهلِ هَذِهِ ٱلقَريَةِ رِجزٗا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفۡسُقُونَ، وَلَقَد تَّرَكۡنَا مِنۡهَآ ءَايَةَۢ بَيِّنَةٗ لِّقَوۡمٖ يَعۡقِلُونَ (العنكبوت 35، 34).
والإسلام حث على الزواج ورغب فيه، وجعل له أركانا وشروطا تجعله باطلا أو معرضا للبطلان في حال الإخلال بأحدها. كما بيّن الشرع الحكيم منافعه الدنيوية والأخروية. ويتضح ذلك جليا من خلال العديد من الآيات والأحاديث النبوية الشريفة؛ حيث قال تعالى مبينا حقيقة الزواج وجوهره: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (الروم 21)، وقول الرسول ﷺ وهو يحث على الزواج ويبين بعض آثاره في حديث لعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قال فيه: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ”. 1 والباءة هي القدرة على الإنفاق وإعالة الأسرة.
وحتى يكون هذا الزواج ناجحا ومثمرا فإن الشرع الإسلامي وجه الراغبين في الزواج إلى الأخذ بالأسباب الشرعية. قال النبي ﷺ منبها لضرورة حسن الاختيار في حديث رواه أبو داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال النبي ﷺ “تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك” 2 وهذا الاختيار لا يقتصر على اختيار الزوج لزوجته المستقبلية وشريكة حياته، بل حتى الزوجة أو ولي أمرها لهما الحق في اختيار الزوج المستقبلي بالأوصاف التي أشار إليها النبي ﷺ، حيث قال ﷺ: “إذا أتاكم من تَرضَون دِينَه وخُلُقَه فأنكِحوه إن لا تفعلُوه تكن فتنةٌ في الأرضِ وفسادٌ كبيرٌ . قالوا : يا رسولَ اللهِ وإن كان فيه؟ قال: إذا جاءكُم مَن تَرضَون دينَه وخُلُقَه فأنكِحوهُ“ 3
ولقداسة مؤسسة الزواج فقد سمى الله عقد الزواج بالميثاق الغليظ قال عز وجل: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا وهذا الاسم (ميثاق غليظ) لم يسم به أي عقد غيره مهما بلغت أهميته ورفعته سوى عقد الله مع أولي العزم من الرسل، وهذا يدل على قيمة عش الزوجية في البناء الأسري والعمران البشري.
والقصد أن تتوفر الظروف المناسبة لاحتضان الطرفين للنشء الناتج عن هذه العلاقة الزوجية من تراحم وتعاطف وتواد بين الزوج الذكر والزوج الأنثى باعتبارهما ركني هذا العش وحامييه من أي اضطراب يسبب انهياره أو تفككه. هذا الحب والمودة هما هبة ربانية من الله عز وجل للزوجين قبل أن يكونا نبتة يرعاها هذان الأخيران بينها ويحافظان على نموها وديمومتها، قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.
مقاصد الزواج في الإسلام
وللزواج مقاصد جمة يصعب جمعها في مجلد فما بالك بمقال، ولكن لا بأس أن نورد بعضا منها على سبيل المثال لا الحصر؛ فالزواج تسمو مقاصده بسمو نية الزوجين. فأول مقصد ينبغي على الزوجين أن يسطراه أمامهما هو اعتبار الزواج خلقا تعبديا وقربة من القربات إلى الله تعالى؛ فهو باب العفاف والكفاف عن الحرام، ومجلبة للحسنات وتطهير للنفس، والترفع بها عن مزالق الشيطان المؤدية إلى معصية الله، ففي حديث ضعيف حسنه الألباني: أن الزواج شطر الدين بمعنى نصفة. إضافة إلى باقي المقاصد الأخرى كتكثير النسل وترك الخلف الصالح خدمة لدين الله وأمة رسول الله ﷺ الذي أوصانا باختيار الولود الودود لأنه صلى الله عليه وسلم سيباهي بنا الأمم يوم القيامة، وكلما عظمت النية وسما القصد عظم الأجر والثواب.
وهذه بعض الأحاديث التي تذكر بفضائل الزواج على الزوجين دنيا وأخرى:
قال رسول الله ﷺ: “ثلاثةٌ حقٌّ على اللهِ عونهم: المجاهدُ في سبيلِ اللهِ، والْمُكَاتَبُ الذي يريدُ الأداءَ، والناكحُ الذي يُرِيدُ العفافَ” 4.
وقال عليه الصلاة والسلام في حديث لسعد بن أبي وقاص “إنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بهَا وجْهَ اللَّهِ إلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حتَّى ما تَجْعَلُ في فَمِ امْرَأَتِكَ” 5.
كما قال رسول الله ﷺ: “تزوَّجُوا فإني مُكاثِرٌ بكم الأممَ يومَ القيامةِ ولا تكونوا كرَهْبانيةِ النصارَى“ 6
كما جاء عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- حيث قال: كان رسولُ اللهِ ﷺ يأْمُرُ بالباءَةِ، ويَنْهَى عنِ التَّبَتُّلِ نَهْيًا شديدًا، ويقولُ: “تَزَوَّجُوا الودودَ الولودَ فَإِنِّي مكاثِرٌ بِكُمُ الأنبياءَ يومَ القيامَة” 7. وفي حديث لأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: “إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له“. 8.
فكيف إذا كان هذا الولد صالحا يدعو لأبويه وعالما يبث علمه بين الناس وينفع به أمة رسول الله والإنسانية جمعاء أو مجاهدا يذود عن دعوة الله وكلمة الحق.
مفهوم الزواج في فكر الإمام المجدد
شغل موضوع الزواج كثيرا من العلماء وخاصة المربين المتهممين منهم بهَمِّ الأمة الساعين لتكوين جيل قادر على تحمل أمانة الاستخلاف في الأرض وتحمل رسالة الدعوة إلى الحق والسلوك إلى الله تعالى. ومن بينهم الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله الذي أفرد ضمن كتاباته حظا وفيرا للحديث عن العلاقة بين الزوجين من ود وعطف واحترام وتقدير بينهما، مما ينعكس إيجابيا على البيت الذي يعتبر المحضن الدافئ للأسرة والفضاء الرحب للأبناء. ومن جملة توضيحه لمهمة عقد الزواج والعلاقة الزوجية نورد بعض المقتطفات من كتاباته رحمه الله تعالى:
· “أُنيط بعقد الزواج في الإسلام معان جليلة ومقاصدُ نبيلة. فهو محترم شرعا، مشَجّع عليه، مرغوبٌ فيه، معتمدٌ عليه، يَربطُهُ الصدق والوفاء والعفة والمعروف والإحسان. يَرعى مقتضياته ويحمل مسؤولياته الزوج الرجل بقوامته، والزوج المرأة بحافظيتها. لكل منهما وعليه نصيب من آثار العقد وتكليفاته.
مقصِد سامٍ للزواج الإسلامي، حيث جعله الله سياجا صحِّيا واقيا من المفاسد، يصون في عش الزوجية الدافئ الفطرة التي فطر الله الناسَ عليها، لا تبديل لخلق الله.
تلك هي المبادئ والشريعة والقرآن.” 9
· “لِعِزَّةِ الزواج الإسلامي ونفاسة معانيه ينبغي للمؤمنين والمؤمنات أن يستشيروا ويتحَرّوا قبل الاختيار لكي يجعلوا في جانبهم لا ضِدّهم كل شروط نجاح الزواج “ 10
· “بالمودة والرحمة الحميمين يتميز الزواج المطابِق بالقصد والفعل والتوفيق الإلهي للفطرة. وبهما لا بمجرد العَقْد القانوني يحصل الاستقرار في البيت، وبالاستقرار في البيت يشيع الاستقرار في المجتمع” 11.
· “في الدنيا يتواصل المؤمن والمؤمنة بكلمة الله فتلك الحياة الطيبة (والطيبات للطيبين) المرأة الصالحة للرجل نعمة ما مثلها نعمة يتعاونان على دنياهما واخراهما” 12
· “بين الزوج والزوجة ميثاق غليظ بشهادة رب العزة جل وعلا. لا مـانِعَ من أن تفهمَه رباطا عاطفيا والتزاما أخلاقيا. لكن الواقعية الشرعية كما يفهمها الفقيه تنزلك إلى حقائق الوقائع البشرية والضمانات الملموسة العملية. قال سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: الميثاق الغليظ هو الإمساك بالمعروف أو التسريح بإحسان. ذلك أمر الله للأزواج أن يعاملوا الزوجات بالمفروض الإسلامي الإيماني الصائن لحقوق الزوجات من وراء الحب والكُرْه، في حالات الائتلاف والاختلاف، في رخاء العيش وانقباض الرزق، في غبطة الأنس أو أزْمة الطلاق. إمساك بمعروف من الشرع والمروءة والإنسانية أو تسريح بإحسان” 13
الزواج وتحديات العصر
في عصرنا هذا تعاني مؤسسة الزواج من هجومات شرسة ومضايقات مغرضة، هدف أصحابها النيل من الأسرة، وذلك بتحطيم العلاقة الزوجية وهدم العمران الإنساني. فابتدعوا الكثير من الذرائع قصد تشويه الحياة الزوجية، فسموها بحياة العبودية، ونعتوا الزوج بالمتسلط واعتبروا الزوجة ضحية. ونادوا بحرية المرأة من سلطة الرجل كزوج، واعتبروا احترام العادات والتقاليد المحافظة مجرد مذلة وقهر وتخلف، وتوجيهات الدين المتعلقة بحياة المرأة رجعية وأفكارا ظلامية هدفها التحجير على المرأة واستغلاها!
وبالمقابل شجعوا المرأة على الخروج للعمل مقابل أجر زهيد وأعمال شاقة. كما وضعوا عراقيل متعدة أمام الشباب قصد عزوفه عن الزواج حيث سعوا إلى منح الزوجة صلاحيات متعددة تخالف ما تعود عليه الرجل من غيرة وعزة نفس، كما تخالف الشرع الاسلام الساعي إلى حفظ كرامة المرأة وصيانة حقوقها، فتنضاف هذه الويلات إلى ما تعرفه الساحة من غلاء في الأسعار وقلة فرص العمل واحتكار الثروة في أيدي المتنفذين وأصحاب السلطة وانسداد الآفاق أمام حلول جذرية للبطالة وأزمة السكن وظروف العيش القاهرة.
وحاصل ذلك تكدس المحاكم بملفات الطلاق وتعرض الأسر للتفكك والأبناء للتشرد والانحراف وانتشار الجريمة. أما المرأة المطلقة فحدث ولا حرج على ما ينتظرها في شارع مليء بالذئاب البشرية، حيث تستغل المرأة أبشع استغلال ماديا ومعنويا، ويعبث بعرضها القاصي والداني. وهذا يحرم شرعا لتعارضه مع العدالة الإلهية.
[2] صحيح مسلم، الصفحة أو الرقم: 1466، خلاصة حكم المحدث: صحيح.
[3] أخرجه الترمذي (1085)، والبيهقي (13863) باختلاف يسير..
[4] صحيح الترمذي، الصفحة أو الرقم: 1655، خلاصة حكم المحدث: حسن
[5] صحيح البخاري، الصفحة أو الرقم: 56، خلاصة حكم المحدث: صحيح
[6] السنن الكبرى للبيهقي
الصفحة أو الرقم: 7/78، خلاصة حكم المحدث: إسناده ضعيف.
[7] أخرجه أحمد (12613)، وابن حبان (4028)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (5099)
[8] صحيح مسلم، الصفحة أو الرقم: 1631، خلاصة حكم المحدث: صحيح
[9] تنوير المؤمنات ج:2 ص: 139
[10] نفسه. ج2. ص141.
[11] الإسلاميون والحكم ص 192
[12] نفسه. ص 281.
[13] نفسه. ص 193.