الزواج بوابة العبادة

Cover Image for الزواج بوابة العبادة
نشر بتاريخ

غالبا ما تنصب عقول الأزواج وعواطفهم، في بداية كل زواج، على الأعمال الإدارية والفنية التي تكلفهم جهدا مضنيا ووقتا كبيرا، في محاولة تأمين المسكن وتنظيم العرس وقضاء شهر العسل، ويغيب عن أذهانهم المعنى الحقيقي والغاية المقصودة من هذا الزواج الذي جاء به الإسلام.

فقد أعطى الحق سبحانه وتعالى لمؤسسة الزواج بعدا استراتيجيا، باعتبارها مؤسسة ربانية فيها يتم الإنجاب، وبها نضمن استمرارية إقامة الدين وحمل الأمانة إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (الأحزاب، 72).

فكيف يكون الزواج عبادة؟

النية في الزواج: عبادة

إن استحضار نية التعبد بالزواج هي المدخل الحقيقي لتأسيس مشروع أسري متماسك ومتراحم. قال الحق سبحانه وتعالى في سورة الذاريات وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات، 56). قال ابن عشور رحمه الله: أي ما خلقتهم لعلةٍ إلا علة عبادتهم إياي.

فالحق سبحانه وتعالى خلق الخلق لغايات معينة، وأتبعه خلق الإنسان ليعمر هذا الكون، لضمان استخلافه في الأرض، ضمان لا يتحقق إلا بالإنجاب، وخاصية التناسل التي أودعها الحق سبحانه وتعالى في الإنسان لكي يدرك غاية الإعمار والاستمرار.

ومن رحمة الله عز وجل على عباده أنه لم يترك خاصية التناسل مطلقة، وإنما جعلها مقيدة، وفتح لها بابا واحدا وهو باب الزواج الذي به نتناسل ونرزق الذرية ونحفظ هذا الدين. “فزواج المؤمنات والمومنين يسبغ عليه جلال الميثاق الغليظ قدسية، وتجلله الأمانة الإلهية. وتعظم من شأن تبعاته الكلمة إن حفظت المرأة وقام الرجل بأعباء الميثاق الغليظ. اكتست كل أعمالهما، وما يتبادلان من معروف وما يتبادلان من عطاء، صبغة العبادة والتقرب إلى الله عز وجل” 1.

حسن التبعل: عبادة 

روى مسلم بن عبيد عن أسماء بنت زيد الأنصارية

أنها أتت النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو بين أصحابه فقالت: بأبي وأمي أنت يــا رســول الله، أنا وافدة النساء إليك، إن الله – عز وجل – بعثك إلى الرجال والنساء كافةً، فآمـنــا بـك وبإلهك، وإنا معشر النساء محصورات مقصورات، قواعد بيوتكم، ومقضى شهواتكم، وحـامــلات أولادكم، وإنكم معشر الرجال فُضلتم علينا بالجُمَع والجماعات، وعيادة المرضى، وشـهـود الجنائز، والحج بعد الحج، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله – عز وجل – وإن الـرجــل إذا خــرج حـاجـاً أو معتمراً أو مجاهداً، حفظنا لكم أموالكم وغزلنا أثوابكم، وربينا لكم أولادكم، أفما نشـاركـكـم الأجر والثواب؟! فـالـتـفـت الـنـبـي إلى أصحابه بوجهه كله، ثم قال: (هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مساءلتها في أمر ديـنـهـا مــن هـذه؟) فقالوا: يا رسول الله، ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا. فالتفت النبي إليها، فقال: (افهمـي أيتها المرأة، وأَعلِمي مَن خلفك من النساء أن حسن تبعُّل المرأة لزوجها -أي حُسن مصاحبتها له- وطلبها مرضاته، واتـبـاعـهـا موافقته يعدل ذلك كله). فانصرفت المرأة وهي تهلل (أخرجه البزار في مسنده).

توجيهٌ نبوي وإرشاد تربوي للزوجات أنّ حسن التبعل ثوابه عظيم وأجره كبير، وهو من أفضل العبادات وأجَلّها، ولا فرق بينه وبين الجهاد والصيام والقيام. فحينما تُدخل الزوجة السرور على زوجها بخدمته، والتزين له، والقيام بكل ما يرضيه، خاصة فيما يحب الرجل أن يراه من زوجته، فبذلك تكون قد أعفته وأعانته على طاعة ربه. كل هذا الفضل والأجر تناله وهي داخل بيتها وفي مخدعها. “تبارك الله! كيف ارتفع قدر الزواج فأشبه ميثاقُه ميثاق النبيئين! وكيف لحقت المعاشرة الزوجية بأصناف العبادات من ذكر وتسبيح” 2.

رحم الله أسماء، كانت سببا في تعليم النساء أقرب الطرق إلى الجنة، فقد شهدت فتح خيبر مع من خرجن من النسوة لمداواة الجرحى ومناولة السهام وطبخ الطعام، وخرجت مع جيش خالد بن الوليد رضي الله عنه لملاقاة الروم في معركة اليرموك.

حسن الاهتمام والتقدير: عبادة

حينما قسم الفقهاء الأجلاء الدين إلى عبادات ومعاملات، لم يكن ذلك من باب الفصل وإنما من باب التسهيل والتيسير، وإلا فجميع حركة الزوجين داخل مؤسسة الزواج تصطبغ بصبغة الله، ويُتقرب بها إلى الله تعالى، وتدور في فلك عبوديته سبحانه وتعالى.

فعن سعد بن وقاص، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: “وإنك لتنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجِرْتَ بها، حتى ما تجعل في فيّ امرأتك” (حديث متفق عليه). سبحان الله؛ حتى اللقمة يضعها الزوج في فم زوجته تعتبر صدقة. من هذا نفهم أن الاهتمام بطعام الزوجة ولباسها وعواطفها ونفسيتها واحتياجاتها، كلها أمور تدخل في نطاق العبادة، كعبادة الصلاة والصوم والزكاة والحج.

بل أكثر من ذلك “في كل صباح ومساء يقضيانهما في ألفة ومحبة يكتب لهما صدقة… -وبضعة أهله صدقة-. أي أن في اجتماعهما في الفراش صدقة. هما في بهجة الجسد والثواب يكتب لهما” 3.

وفي حديثٍ رواه عروة عن عائشة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “إذا قضى أحدكم حجه فليعجل الرجوع إلى أهله فإنه أعظم لأجره” (متفق عليه).

 أمرٌ نبوي للحاج إذا قضى حجه أن يُعجل الرجوع إلى أهله، رغم أن المكان الموجود فيه مكان مقدس، والشعيرة التي يتعبد بها هي الركن الخامس من أركان الإسلام، وهي ركن عظيم. لكن منطوق الحديث يريد أن يقول للأزواج: إن الميثاق الغليظ عبادة، وإن بيت الزوجية بمثابة مسجد يجب التعجيل إليه لنيل رضى الخالق سبحانه وتعالى.

رسالة الزواج: عبادة

فرسالة الزواج ليست عبادة لذاتها تنقطع بانتقال الزوجين إلى الدار الآخرة، وإنما تبقى صدقةً جارية مستمرة يتسلم مشعلها جيلٌ بعد جيل، يحمل الأمانة، ويحفظ هذا الدين من الانحراف إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. زواجٌ رسالي يحصنه الزوجان بحفظ الفطرة. “إذا لم ترضع الأم طفلها الإيمان مع الألبان، ولم يقد الأب خطى أبنائه الأولى إلى المسجد، ولم تلقن الأسرة كلمة التوحيد للصبي أول ما يلهج بالنطق، فقد فاته إبان الحرث” 4. نبتة تنمو وتزدهر داخل أسرة مستقرة تقر بها أعين الزوجين، رافعين أكفيهما بالدعاء شاكرين الله عز وجل على هذه النعمة العظيمة، نعمة الأولاد المطيعين الصالحين الأبرار الأتقياء، راجين من الحق سبحانه وتعالى أن يثمر هذا الغرس، دعوة تكون لبنة في بناء العمران الأخوي المنشود. “فعموم القرآن أهاب بكن إلى تعبئة شاملة تدعمنها بما يفيض من وقتكن وجهدكن بعد أداء واجبكن التربوي الأساسي، وليست تربية الأجيال إلا ترسيخا للمعروف وإبادة للمنكر” 5. الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (الفرقان، 74).


[1] عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، ج2، ص 156، ط1، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء 1996.
[2] تنوير المومنات، م. س. ج 2، ص 140.
[3] تنوير المومنات، م. س. ج 2، ص 140.
[4] عبد السلام ياسين، العدل: الإسلاميون والحكم، ط 3-2018، دار لبنان للطباعة والنشر، ص 493.
[5] تنوير المومنات، م. س. ج 2، ص 270.