الزهراء، الوجه الجميل لمراكش العصي على الطمس والابتذال

Cover Image for الزهراء، الوجه الجميل لمراكش العصي على الطمس والابتذال
نشر بتاريخ

مراكش فيما مضى ليست هي مراكش اليوم، لم تكن مدينة اللهو واللعب والمجون بل كانت هويتها إحسانية وحاضرة الأولياء والعلماء والأدباء وحضارة عريقة، اندثرت هذه الصورة وولى هذا الوجه المشرق من تاريخها وبقي شاهدا عليه أضرحتهم آثارا تأبى طمس هوية هذه الجوهرة الحمراء.

أعلام هذه المدينة لم يكونوا رجالا فقط فمن بينهم يسطع نجم امرأة تربعت في قلب مراكش ويشهد على مكانتها في قلوب المراكشيين الطيبة وعظيم أثرها ضريحها الذي يجاور مسجد الكتبية أشهر معلمة في المدينة، صومعتها الحمراء تجاورها قبة بيضاء لضريح هذه السيدة في تناغم جمالي اعترافا لهذه المرأة الجليلة بمكانتها ورمزا لحضارة مراكشية عريقة لم تكن فيها النساء هملا ونسيا منسيا توارى سيرهن في الظل وتسقط عمدا من التاريخ، بل هذا الضريح وهذه المجاورة مع صومعة الكتبية دليل صامد ساطع على مكانة المرأة المغربية وحضورها، حضور زكاه وثبته حسن تمثلهم للإسلام، وجعل منه رافعة ليعلو ذكر مسلمات مؤمنات محسنات عشن له وبه ونلن الدرجات العلى دنيا وآخرة.

إنها لالة الزهراء الكوش اسم على مسمى؛ سليلة حسب ونسب وجاه وربيبة بيت تقوى وعلم وجهاد، فوالدها عبد الله الكوش من أعلام المدينة وصلحائها، حتى أن مكانته كانت تخيف السلطان وتقض مضجعه، وأمها فاسية نالت حظها من الفضل والخيرية، أبوان كريمان تربت على يديهما كريمتهما تربية صوفية صقلتها وخالطت معاني الإحسان روحها وتجلت سيرتها ترجمة لهذه التربية العالية مبوئة إياها مكانة عالية في قلوب المراكشيين.

درجت شابتنا الجميلة، التي أوتيت شطر الحسن، في هذه البيئة الطيبة؛ ذاقت حلاوة القرب من الله وتعلمت دينها ونهلت من المعارف والعلوم والآداب من شعر ونثر ما كون شخصيتها، وعايشت جهاد أبيها وكرم بيت لا يخلو من الزوار يرتاده الفقير قبل الغني ويفتح مصراعيه للناس بالخيرات والعطاء، وأخذت من أمها الذوق الرفيع والأدب الجم، وأضفى كل ذلك عليها هالة من الحسن والبهاء والعلو والرفعة والقبول بين الناس.

وصل صيت حسنها إلى السلطان السعدي زيدان بن المنصور وهو العارف بكرم منبتها فطلبها للزواج، لم يكن يتوقع إلا القبول وهو من أسياد زمانه بميزان الأرض، ولم يخطر على باله ولو طيف الرفض الذي كان جوابا قاطعا من الزهراء؛ فهي لم تكن تختزل نفسها في صورة أنثى جميلة أقصى أحلامها أن تعيش في قصر من الحريم محاطة بالجواري وتتنعم في الحلي وترفل في الحلل وحياة الترف الباذخ.

أحلام هذه الفاضلة التقية النقية سبقت سنها، هي ليست أحلام بل همة عالية ويقظة قلبية تطاول عنان السماء طلبا لوجه ربها والقربى، ولم تكن ترى في السلطان فارس أحلامها فقلبها المعلق بالله أراها حقيقته، حاكم جائر وعبد فان إن اقترنت حياتها بحياته تخاف أن يصيبها من شر ما اقترفت يداه من وزر، فمعاشرة الظالمين ذنب وفي حق أولياء الله كبيرة لا تغتفر، لذلك اختارت ما هو أحوط لدينها وأريح لروحها فما كان لروح محسنة أن ترتاح في مثل هذه البيئة.

أصرت على موقف رفض خطبة السلطان الذي أعياه الترغيب معها فجاء دور الترهيب والانتقام؛ فكان نصيبها السجن ولسان حالها يقول: رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه مبرزة بذلك جانبا آخر من شخصيتها؛ إرادة صلبة وقوية لا تركع لطاغية، ابتلاءات دنيوية احتسبتها في الله ولم تزحزح من ثباتها ويقينها قيد أنملة، فمن عاش لله لن تزيده مصائب الدنيا إلا يقينا وإصرارا ما دام في دينه سالما معافى.

وفي محبسها كان قربها من المولى عز وجل ملاذا؛ رضيت بنصيبها وطابت روحها بهذا القرب، وكيف لا ترتاح وبين جناحيها قلب عارفة بالله ولية طلبت القرب فنالته، وأفاض الله عليها مما يفيض على الخلص من أوليائه من الكرم الرباني الذي لا تساوي أمامه كل الدنيا بمفاتنها ومباهجها وإغراءاتها جناح بعوضة لذلك فأرواح الأولياء والزهراء منهم مطمئنة ساكنة أمام تقلبات الدنيا.

وبعد أن يئس السلطان منها أطلق سراحها ووهبها أملاكا شاسعة، ونذرت الزهراء حياتها للعلم وتعليمه، وزهدت في الزواج، أو بالأحرى من يجرؤ على طلب يد من رفضت السلطان، عاشت حياتها في كنف الله؛ عبادة وزلفى وخدمة لخلق الله إكراما وتعليما في تجرد قل نظيره، فكانت سيدة عصرها حقا وصدقا، عابدة زاهدة فاضلة شاعرة مثقفة ومجاهدة بصمت حياة من عاشروها كدوحة عالية من الفضائل، وشهدوا لها بعلو الكعب في تجربتها الإنسانية التي اختارت أن تكون لله ودلالة عليه لعباد الله، فيا لها من مهمة شريفة جليلة أدتها بتفان.

صورة مشرقة للمرأة المغربية المسلمة هي عملة نادرة تنهار أمامها كل عملات هذا الوقت الذي أصبحت فيه مراكش سوق نخاسة تباع فيه الأعراض بدريهمات، نموذج شامخ يدل على أن أرض مراكش ومعها سائر المغرب حبلى بالمكرمات لن تنطمس فضائله مهما كان حجم التردي، وما يسخر له من أيادي بطش طولى تعيث فسادا أينما وليت.

المغربيات المسلمات حفيدات الزهراء وزينب النفزاوية والحرة وغيرهن من الفواضل الشامخات لن يركعن لهذا الزيف الذي يصر على اختزالهن في أجساد بئيسة للمتعة والسخرة، ويلهث عبثا ليعطل فيهن ملكة الروح والعقل، لينطلقن رائدات يعانقن حياة الكرامة والرقي.