لم يكن عصر السعادة المبارك عصرا ملائكيا كما يتصوّره البعض. لم يكن عهدا خاليا من شياطين الجنّ والإنس. لم يكن زمنا بلا مغريات، بلا مشاكل، بلا فتن. بل على العكس من ذلك، لقد كانت سنوات مليئة بالمحن والإحن، قيّض الله لها حبيبه المصطفى ﷺ فأخذ بأيدي النّاس -صغيرهم وكبيرهم، أنثاهم وذكرهم، محسنهم ومسيئهم- حتى أخرجهم من الظلمات إلى النّور.
برحمته، بلطفه، بيسره، بأناته وحلمه، عالج -عليه الصلاة والسلام- مشاكل أمّته، وتعامل مع قضاياها الكبرى، حاملا همّ كلّ شرائح المجتمع، موليا عناية كبيرة بالشباب، لما كان يرى فيهم من قوّة الأمّة ومستقبلها.
وتأمل معي -أخي القارئ- هاتين القصتين العجيبتين حيث تلوح معالم التربية النبوية، وتتجلى نفحات الرحمة المحمّدية، ويفوح عبير الهدي النبوي لمن أراد أن يهتدي ويقتدي.
1- يروي لنا سيدنا جابر بن عبد الله قائلا:
“… وَأَرْدَفَ الفَضْلَ بنَ عَبَّاسٍ، وَكانَ رَجُلًا حَسَنَ الشَّعْرِ أَبْيَضَ وَسِيمًا، فَلَمَّا دَفَعَ رَسولُ اللهِ ﷺ مَرَّتْ به ظُعُنٌ 1 يَجْرِينَ، فَطَفِقَ الفَضْلُ يَنْظُرُ إلَيْهِنَّ، فَوَضَعَ رَسولُ اللهِ ﷺ يَدَهُ علَى وَجْهِ الفَضْلِ، فَحَوَّلَ الفَضْلُ وَجْهَهُ إلى الشِّقِّ الآخَرِ يَنْظُرُ، فَحَوَّلَ رَسولُ اللهِ ﷺ يَدَهُ مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ علَى وَجْهِ الفَضْلِ، يَصْرِفُ وَجْهَهُ مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ يَنْظُرُ…” 2
في هذه الرواية يبيّن لنا سيدنا جابر بأن ما يتحدّث عنه حدث في أعظم الأيام قدسية عند المسلمين. إنّها أيام الحجّ… بل إنّه يوم الحجّ الأكبر… في الطريق من مزدلفة إلى منى… مع رسول الله ﷺ. ثمّ يعطينا وصفا دقيقا لابن عمّ رسول الله ﷺ. فهو شاب وسيم؛ حسن الشعر، أبيض اللون، قد أكرمه رسول الله ﷺ فأردفه على ناقته القصواء، منطلقا من مزدلفة إلى منى في حجة الوداع المباركة.
وكأيّ شاب في مثل سنّه تفتنه الحسناوات المارّات به، فينظر إليهنّ.
وها هو ذا سيدنا عبد الله بن عباس -أخ الفضل- يعطينا مشهدا آخر من هذه الرحلة بين مزدلفة ومنى. قال: “كان الفضل رديف النبي ﷺ فجاءت امرأة من خثعم. فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه. فجعل النبي ﷺ يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر. فقالت: إن فريضة الله أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة، أ فأحج عنه. قال: نعم. وذلك في حجة الوداع” 3 في رواية: “وكان الفضل رجلا وضيئا – أي: جميلا – وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة، فطفق الفضل ينظر إليها وأعجبه حسنها” 4
كان النظر متبادلا من الطرفين. فتنته بحسنها، وفتنها بوسامته. وطفق ينظر إليها تفيد استمرار النظر.
يكمل لنا سيدنا علي هذه الصورة قائلا: “واستَفْتَتْه جاريةٌ شابةٌ مِن خَثْعَمَ، فقالت: إن أبي شيخٌ كبيرٌ، قد أدركَتْه فريضةُ اللهِ في الحجِّ، أَفيُجْزِئُ أن أَحُجَّ عنه؟ قال: حُجِّي عن أبيك. قال: ولَوَى عُنُقَ الفضلِ، فقال العباسُ: يا رسولَ اللهِ، لِمَ لَوَيْتَ عُنَقَ ابنِ عمِّك؟ قال: رأيتُ شابًّا وشابَّةً، فلم آمَنِ الشيطانَ عليهما” 5.
ويسهم الفضل بن عباس نفسه في إتمام المشهد إذ يقول: “كنت رديف النبي ﷺ حين أفاض من المزدلفة وأعرابي يسايره وردفه ابنة له حسناء قال الفضل فجعلت أنظر إليها فتناول رسول الله ﷺ بوجهي يصرفني عنها فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة” 6.
في رواية أخرى قال: “كنت رديف رسول الله ﷺ من جمع إلى منى، فبينما هو يسير إذ عرض له أعرابي مردفاً ابنة له جميلة، وكان يسايره، قال: فكنت أنظر إليها، فنظر إليَّ النبيُّ ﷺ فقلب وجهي عن وجهها، ثم أعدت النظر فقلب وجهي عن وجهها، حتى فعل ذلك ثلاثاً وأنا لا أنتهي، فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة” 7.
حينما نجمع هذه الروايات بعضها ببعض نخلص إلى ما يلي:
في حجة الوداع، حيث أزيد من مائة ألف من المسلمين جاؤوا ليأخذوا عن رسول الله ﷺ مناسكهم ويتعلّموا منه دينهم. في أجواء خيّمت عليها غيوم الوداع الأليم، وشابتها حالة من الاستنفار التعليمي والدعوي، والنبي ﷺ منشغل بتعليم هذه الحشود القادمة من كل حدب وصوب، وبعد الوقوف بعرفات والإفاضة منها، ثمّ المبيت بمزدلفة، يمضي ﷺ في اتجاه منى وسط زحام شديد، فيردف خلفه-إكراما- ابن عمّه -الفضل بن عباس – وهو أكبر بني العبّاس وبه كان يكنّى. وهو شاب حدث لم يتجاوز عمره العشرين سنة؛ بهيّ الطلعة، جميل الوجه، حسن الشعر، فيه ما في الآدمي من شهوة، وما جبلت عليه الطباع البشرية من النظر إلى الصور الحسنة. فكان إذا مرّت به الظعينة – المرأة في الهودج- نظر إليها، فلا يفوتنّ النبي ﷺ نظره ذاك، فيحوّل بيديه الكريمتين وجهه عن النظر متلطّفا معه مراعيا حداثة سنّه.
وبينما هما في الطريق يمرّ بهما أعرابي مردفا خلفه ابنة له حسناءَ، فجعل الفضل يلتفت إليها ورسول الله ﷺ بلطفه المعتاد يأخذ برأسه فيلويه.
ثمّ تأتي شابّة وضيئة خثعمية 8 سائلة رسول الله ﷺ عن إمكانية حجّها عن أبيها الذي طعن في السنّ ولا يثبت على الراحلة. فلمّا رآها الفضل أخذ ينظر إليها نظر المعجب وأخذت تنظر إليه. فتدخّل عليه ؑ وأخذ بذقن الفتى يصرفه عن النظر.
كان سيدنا العبّاس حاضرا فرأى ما فعله رسول الله ﷺ بابنه فقال: «يا رسولَ اللهِ، لِمَ لَوَيْتَ عُنَقَ ابنِ عمِّك؟». -ولم يكن هذا منه استنكارا إنّما كان استفسارا- فأجاب الرحمة المهداة ﷺ قائلا: “رأيتُ شابًّا وشابَّةً، فلم آمَنِ الشيطانَ عليهما”.
دعنا لا نلوي أعناق الحديث انتصارا لمذهب معيّن وفكر معيّن وفهم معيّن. دعنا لا نحمّل الكلام ما لا يحتمل، ثمّ دعنا لا نصرفه عمّا يحتمل.
لقد نظر الفضل وكرّر النظر وأطال النظر. بل لقد كان مولانا رسول الله ﷺ يغطي وجهه بيده من هذه الجهة، فيحوّل هو وجهه إلى الجهة الأخرى. ليس إصرارا على معصية، ولا مخالفة مقصودة لأمر رسول الله ﷺ. لكنّه ميل شاب لشابة، ميل بشري لبشرية… ولعلّه لم يكن يظنّ بأنّ في المسألة معصية أو مخالفة شرعية. بل لعلّه لم تكن هناك مخالفة أصلا… وهل كان رسول الله ﷺ ليسكت عن منكر ويتعامل معه بهذا اللين؟
ألم تر كيف تلوّن وجهه وانتفخت أوداجه حينما أتاه حبّه أسامة بن زيد يكلّمه في شأن المرأة المخزومية التي سرقت وشقّ على قومها قطع يدها وقال له غاضبا: “أتَشْفَعُ في حَدٍّ مِن حُدُودِ اللَّهِ؟” 9. وأسامة كان في مثل سنّ الفضل. وكان حِبَّ رسولِ الله ﷺ وابن حبّه. لكن لمّا تعلّق الأمر بمخالفة شرع الله، أظهر عليه الصلاة والسلام صرامة الأب، وحزم المربي.
لكن في حال الفضل، المسألة أخذ احتياط وسدّ ذريعة، ولذلك علّل النبي ﷺ فعله بقوله: “رأيتُ شابًّا وشابَّةً، فلم آمَنِ الشيطانَ عليهما”.
ويقول محلّق في سماء المُثل-لا يريد أن يصدّق القصة-: هذا لا يليق بأحد من الصحابة فبالأحرى ابن عمّ رسول الله ﷺ. لكن إذا تأمّلنا الأمور ونظرنا إليها بواقعية، رأينا شابا دون العشرين من العمر، أعزب، وضيئا، بهي الطلعة، سمح المحيّا، حسن الشعر، ليس بمَلَك، وليس معصوما من الزلل، يأخذه ما يأخذ البشر من الميل الى كلّ جميل حسن، ويفتتن بالمرأة الوضيئة. وإلى جنبه نور الله في الأرض…الرحمة المهداة ﷺ. بأبي وأمّي هو ﷺ … ما أحلمه وما أكرمه وما أعقله!
لم يزمجر ﷺ غضبا… لم يقل له انزل من ورائي يا لُكع… لم يقل له ألا تستحي منّي –يا هذا- وأنا رسول الله؟ لم يقل له أردفناك خلفنا إكراما لك ولأبيك، فإذا أنت لست أهلا للإكرام، ولا خير فيك.
لقد كرّر الفضل النظر إلى هذه وتلك. وفي كلّ مرّة كان ﷺ يعامله بلطف، ويصرفه عن النظر إلى الأجنبيات برحمة، مراعيا حداثة سنّه، وبشرية طبعه.
إنّ طبيعة الشباب أن ينفروا من كلّ من يحدّ من حرياتهم، وينزعجوا ممن يتعقب حركاتهم، ويثوروا في وجه من يحول بينهم وبين شهواتهم. لكنّ الفضل لم يظهر أيّ تذمّر من ذلك، ولا أخبرنا أخوه عبد الله عن شيء من هذا القبيل، ولا غيره ممن حضر ونقل الخبر. بل على العكس من ذلك، نجد الفضل يخبرنا عن عبادة النبي ﷺ وسط كل ذلك قائلا: “فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة”.
فالطريقة التي تعامل بها رسول الله ﷺ مع الفضل لم تجعله يأخذ منه موقفا سلبيا. بل على العكس من ذلك جعلته يشعر بحنو الأب، وحكمة المعلّم، ورحمة الداعية، وسماحة الإسلام. فازداد حبّا وتقديرا واحتراما لرسول الله ﷺ. وازداد تعلّقا بدين الله.
فمن يصرف شباب الأمّة -اليوم- عن النظر الحرام والفعل الحرام؟
من يأخذ بأيديهم حتى يتجاوزوا حبائل إبليس ومكائد الشيطان –وما أشدّها في هذا الزمان؟
من يفعل هذا بأناة وحكمة، ولطف ورحمة؟
من يرغّب ويحبّب ويقرّب؟
من يأخذ عن رسول الله ﷺ سنّته في معاملة الخلق، كما يأخذ عنه سنّته في عبادة الحقّ؟
2- وهذه آية أخرى من آيات الكمال، وصورة من أبهى صور الجمال لسيد الرجال، فداه الأهل والآل، فداه المسكن والموطن والمال و كلّ ثمين غال:
فعن أبي أمامة الباهلي قال: “إنَّ فَتًى شابًّا أتى النَّبيَّ ﷺ فقال: يا رسولَ اللهِ، ائْذَنْ لي بالزِّنا، فأقبَلَ القَومُ عليه فزَجَروه وقالوا: مَهْ، مَهْ! فقال: ادْنُهْ، فدَنا منه قَريبًا، قال: فجَلَسَ، قال: أتُحِبُّه لأُمِّكَ؟ قال: لا واللهِ، جَعَلَني اللهُ فِداءَكَ، قال: ولا النَّاسُ يُحِبُّونَه لأُمَّهاتِهم، قال: أفتُحِبُّه لابنتِكَ؟ قال: لا واللهِ، يا رسولَ اللهِ، جَعَلَني اللهُ فِداءَكَ، قال: ولا النَّاسُ يُحِبُّونَه لبَناتِهم، قال: أفتُحِبُّه لأُختِكَ؟ قال: لا واللهِ، جَعَلَني اللهُ فِداءَكَ، قال: ولا النَّاسُ يُحِبُّونَه لأَخَواتِهم، قال: أفتُحِبُّه لعَمَّتِكَ؟ قال: لا واللهِ، جَعَلَني اللهُ فِداءَكَ، قال: ولا النَّاسُ يُحِبُّونَه لعَمَّاتِهم، قال: أفتُحِبُّه لخالتِكَ؟ قال: لا واللهِ، جَعَلَني اللهُ فِداءَكَ، قال: ولا النَّاسُ يُحِبُّونَه لخالاتِهم، قال: فوَضَعَ يدَه عليه وقال: اللَّهُمَّ اغفِرْ ذَنبَه، وطَهِّرْ قَلبَه، وحَصِّنْ فَرْجَه، قال: فلمْ يَكُنْ بعدَ ذلك الفَتى يَلتفِتُ إلى شيءٍ.” 10
زجره القوم وأغلظوا له في القول والفعل… ولو تركه لهم لضربوه وأبعدوه وطردوه… ولو خلّى بينهم وبينه لأهلكوه. لكنّه بأبي وأمي هو ﷺ ما أحناه؛ لان للفتى فأدناه، وأجلسه قريبا منه واستمع إليه. استمع لهواجس شهوته، ولوساوس نفسه، ولهذيان بدنه وفورة شبابه.
إنّه شابّ سويّ… إنّها حقيقة البشرية وطبيعة الإنسانية. ولولا تلك الشهوة الكامنة فينا لكنّا في مصافّ الملائكة.
وإنّه لغلام تقيّ هذا الذي علم أنّ الزنا ممنوع فجاء يطلب الإذن من صاحب الإذن. ولم يخضع للشيطان. ولم يرتكب المعصية.
لقد استولت الجسمانية على الروحانية، وتربّعت الشهوة على عرش البدن-والشهوة غول – وهي تغري الفتى بمخالفة القانون والخروج عن طاعة الله تعالى ومعصية الرسول. فأين سبل النجاة… وما هي الحلول؟
أما إنّ شباب الأمّة في حاجة إلى علماء ربّانيين وشيوخ مربّين يحسنون الاحتضان، ويتقنون فنّ الاستماع، ويحلّون المشاكل بموضوعية بعيدا عن التحليق في سماء المُثل.
شبابنا في أمسّ الحاجة لمن يسمع آهاتهم، لمن يشعر بمعاناتهم، لمن يفهم واقعهم، لمن يراعي حالهم.
هم في حاجة لمن يخاطب عقولهم، ويلامس قلوبهم، ويجعل لهم حظّا من سهام الليل يدعو المولى الكريم لهم.
خاطب مولانا رسول الله ﷺ في ذلك الشابّ عقله ووجدانه، ثمّ سأل المولى الكريم سبحانه أن يغفر له ذنبه ويحصّن فرجه ويطهّر قلبه. فأثمر كلّ ذلك وأعطانا فتى مصونا محصّنا لا يلتفت لشيء من حبائل الشيطان.
فيا أيها الأب ضُمّ ولا تذُمّ…
أيها العالم ارحم ولا ترجُم…
أيها المعلّم تلطّف ولا تتعسّف…
أيها المفتي يسّر ولا تعسّر…
بشّر ولا تنفّر…
شبابنا فلذات أكبادنا… إنّهم مستقبل أوطاننا… قوّة أمتنا. عاملوهم باللين والرِّقّة، وارفعوا عنهم الحرج والشِّقّة، ارحموهم… ضمّوهم… قرّبوهم… ولا توقعوهم في العَقَّة… يكفيهم أن أشرقت شمسهم على هذا الواقع الأليم.
وصلى الله وسلّم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه و حزبه.
[2] أخرجه مسلم(1218)، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما
[3] فتح الباري لابن حجر العسقلاني ص80 ج04، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما
[4] نفسه، من رواية شعيب
[5] أخرجه الترمذي في سننه(885)، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما
[6] أخرجه الإمام أحمد في مسنده(213/1)، عن الفضل بن عباس رضي الله عنهما
[7] أخرجه الإمام أحمد في مسنده، عن عبد الله بن عباس عن أخيه الفضل بن عباس رضي الله عنهما
[8] نسبة إلى قبيلة خثعم و هي قبيلة مشهورة من قبائل اليمن
[9] أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
[10] أخرجه أحمد(22211 )، والطبراني(190/08) (7679)، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه