الهجرة النبوية ودرس الصحبة

Cover Image for الهجرة النبوية ودرس الصحبة
نشر بتاريخ

كلما حلت سنة جديدة هجرية إلا واسترجعنا ذكريات التاريخ المجيد، تاريخ المسلمين؛ حيث العزة والكرامة والنصرة والحرية والولاء للدين الإسلامي. لن أخوض في الحديث عن معنى الهجرة النبوية، ولن أتطرق  للحديث عن العبر والعظات، لأنه سبق الحديث عنه وجزى الله عنا أهل الفضل والإحسان، إنما استوقفني من خلال قراءتي لتاريخ المسلمين، بدءا بالهجرة النبوية، معلم البشرية سيدنا محمد عليه السلام نفسه؛ كيف وصل إلى صناعة أمة خيرة كما جاء وصفها في الذكر الكريم، قال تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ (آل عمران، 110)؟ وهل فعلا الصحبة والجماعة هما أول  نبراس للطريق ومعالمه؟   

لعل كل منا يدري أن الرسول عليه السلام عانى من المشركين الكثير، وهذا ما حكت عنه كتب التاريخ والسيرة، ومر أيضا عليه السلام بسنوات الحزن وفراق أحبة منهم: زوجه وجده، وهما اللذان كانا يساعدانه ويثبتانه على دعوته، وفي ذلك روى الإمام البخاري في صحيحه: “دَخَلَ علَى خَدِيجَةَ، فَقالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُوهُ حتَّى ذَهَبَ عنْه الرَّوْعُ، فَقالَ: يا خَدِيجَةُ، ما لي؟ وأَخْبَرَهَا الخَبَرَ، وقالَ: قدْ خَشِيتُ علَى نَفْسِي فَقالَتْ له: كَلَّا، أبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا، إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوَائِبِ الحَقِّ، ثُمَّ انْطَلَقَتْ به خَدِيجَةُ حتَّى أتَتْ به ورَقَةَ بنَ نَوْفَلِ” (1).

إلا أنه اقتضت سنة الله في أرضه أن يكون بعد العسر يسرا، وبعد الضيق فرجا، وبعد الحزن فرحا، قال تعالى: إن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا (سورة الشرح)، صدق قوله سبحانه وتحقق يقينا ونصرة للمسلمين.

هيأ الله سبحانه الأقدار أن أسلم سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وما أدراك ما أبو بكر الصديق؛ الصحبة الطيبة، والصحبة مفتاح، مفتاح للخير ومغلاق للشر.

فمن هو أبو بكر هذا الذي اصطفاه واختاره الله كي يكون صاحب رسول الله عليه السلام؟

وما هي صفاته التي أهلته لينال هذه الرفعة بجانب خاتم الأنبياء والرسل عليه السلام؟

وكيف وصل إلى قلب الحبيب المصطفي عليه السلام، وخاصة أن المرء يبعث يوم القيامة مع من أحب؟

أبو بكر الصديق رضي الله عنه

هو عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، سمّاه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بعبد الله بعد أن كان يسمّى في الجاهلية عبد الكعبة؛ ويلتقي نسب أبو بكر رضي الله عنه مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم في الجد السادس مرّة بن كعب (2).

وُلد الصدّيق رضي الله عنه في مكة المكرمة أم القرى في السنة الثالثة من ولادة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك بعد عام الفيل بسنتين وستة أشهر (3).

“وكان الصّديق رضي الله عنه تاجراً معروفاً في قريش، ذا علمٍ وعقلٍ، مرشداً لقومه، محبوباً بينهم، جميل المجالسة، وكان رضي الله عنه صديق رسول الله عليه السلام في طفولته وشبابه قبل الإسلام وبقي على ذلك بعده، وعندما نزل الوحي على سيدنا محمد عليه السلام كان الصدّيق أوّل رجل علِم بذلك، فقد أخبره عليه الصلاة والسلام عن الوحي والإيمان بالله وتوحيده، فما كان منه رضي الله عنه إلا أن قال: “صدقت”، فما شهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبا منذ طفولته، فأسلم رضي الله عنه خاضعاً مستسلماً لله تعالى، وكان أوّل من أسلم من الرجال رضي الله عنه” (4).

ومن ثمة تشكل عقد الأخوة في الله بين رسول الله عليه السلام وأبي بكر وتمتن، خاصة وأن الرجل كان يتمتع بصفات حميدة؛ منها أنه كان شجاعا، وما أحوج ديننا الكريم إلى من يحمل هذه الصفة في زمن عم فيه الظلم، فقد ثبت عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أنه قال: “سَأَلْتُ ابْنَ عَمْرِو بنِ العَاصِ: أخْبِرْنِي بأَشَدِّ شيءٍ صَنَعَهُ المُشْرِكُونَ بالنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قالَ: بيْنَا النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُصَلِّي في حِجْرِ الكَعْبَةِ، إذْ أقْبَلَ عُقْبَةُ بنُ أبِي مُعَيْطٍ، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ في عُنُقِهِ، فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا فأقْبَلَ أبو بَكْرٍ حتَّى أخَذَ بمَنْكِبِهِ، ودَفَعَهُ عَنِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قالَ: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّـهُ)” (5).

شجاعته رضي الله عنه نستشفها أيضا من خلال موقفه حين موت الرسول عليه السلام وقوله: “أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت”، حيث كان أول من أخبر الصحابة بموت الرسول عليه السلام.

الرحمة واللين

قال عنه الرسول عليه الصلاة والسلام: “أرحمُ أُمَّتي بِأُمَّتي: أبو بكرٍ” (6).

شهادة حق من رسول الأمة في حق صاحبه، والمعلوم أن من كان رحيما في خلقه التف حوله الناس وأحبوه لحسن معاشرته لهم، ناهيك عن كونه كان كريما باذلا لماله ونفسه.. في سبيل الله. خصاله عديدة لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: من أين استقى هذه الخصال: البذل، والشجاعة، والصدق، والرحمة؟ وفي أي مدرسة تعلم وتربى؟

سؤال ليس له إلا جواب واحد: هي الصحبة والمعية التي جمعته بالرسول عليه السلام، ومن كان مع الرسول فهو مع الله، ومن بايع الرسول فقد بايع الله، ومن أحب الرسول فقد أحب الله، قال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ (الفتح، 29). وبالرحمة والتراحم والمحبة تشكل الجيل الفريد والجماعة المنظمة المحكمة.

قوله عليه السلام لأبي بكر في الغار: “لا تخف إن الله معنا”، ما هو إلا شعاع إيماني ينبثق من قلبه إلى من صحبه، ثم اتسعت الصحبة وراثة، فكانت رحمة قلبية وحكمة عقلية تسري إلى العالمين.

صلى الله على من بعثه الله رحمة للعالمين، ورضي الله على من تبعه بإحسان إلى يوم الدين.


(1) محمد طقوش (2003)، تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية (الطبعة الأولى)، الأردن: دار النفائس، صفحة 13. بتصرّف.

(2) علي الطنطاوي (1986)، أبو بكر الصديق (الطبعة الثالثة)، جدة: دار المنايرة، صفحة 47 – 48. بتصرّف.

(3) نفسه، صفحة 65 – 67. بتصرّف.

(4) رواه البخاري في صحيحه، عن عبد الله بن عمرو، الصفحة أو الرقم: 3856، صحيح.

(5) رواه الترمذي في سننه، عن أنس بن مالك، الصفحة أو الرقم: 3791، حسن صحيح.

(6) عبد الستار الشيخ (2011)، أبو بكر الصديق خليفة رسول الله، الطبعة الأولى، دمشق: دار القلم، صفحة 32-37. بتصرّف.