الدين والسلوك الإجرامي

Cover Image for الدين والسلوك الإجرامي
نشر بتاريخ

مقـدمة

الأخلاق والقيم، بحسب مبادئ الدين، هي أساس المجتمع السوي المتماسك المتضامن، والظلم والفساد في الأرض هو سبب كل الاختلالات والتفكك داخل المجتمع. والسلوك الإجرامي، بحسب علماء النفس، اضطراب نفسي ناتج عن عوامل سوء التربية والنشأة الاجتماعية. ويعرف فرويد المجرمَ بأنه شخص يعاني من شعور عقدة الذنب). وهذه الاضطرابات النفسية إن لم يتم الانتباه لها وتشخيصها من طرف المختصين في المراحل العمرية الأولى للطفل لمعالجتها، فمن المؤكد أن يزداد الوضع تعقيدا وتتراكم العقد النفسية في اللاشعور عند الإنسان لتصل إلى مرحلة الخلل ثم الانحراف والمرض مما يدفع بالمريض إلى ارتكاب الجريمة أو يصبح فريسة سهلة أمام نزوات المجرمين. ولا يفهم من هذا التفسير تبرير للسلوك الإجرامي، أو أن هذا المجرم خاضع لحتمية الإجرام، بل يجب أخده بعين الاعتبار، أي المرض النفسي، كأحد الأسباب المباشرة المؤدية للجريمة. وهذا ما سنحاول مناقشته في هذا البحث بشكل موجز رغم أن الموضوع أكبر وأعقد من ذلك، عبر مبحث واحد ومطلبين، محاولين الإجابة عن السؤال التالي: أي علاقة بين الدين والسلوك الاجرامي؟

المبحث الأول: الدين والرسالة الأخلاقية التربوية لمواجهة الإجرام

الدِّين أحد أهمّ مكونات شخصية الإنسان وتفكيره وسلوكه وتعامله مع نفسه ومع من حوله، الدِّين في اللّغة من الفِعل: دَانَ، أي اعتنق واعتقد بفكرٍ ما أو مذهبٍ ما وسار في رِكابه وعلى هداه. أمّا الدِّين في الاصطلاح فهو: جملة المبادئ التي تدين بها أمّةٌ من الأُمم اعتقادًا أو عملًا، والدِّين في الاصطلاح الشّرعيّ الإسلاميّ هو الاستسلام والتّسليم لله بالوحدانيّة وإفراده بالعبادة قولًا، وفعلًا، واعتقادًا حسب ما جاء في شريعة النّبي محمد صلى الله عليه وسلم في العقائد والأحكام، والآداب، والتّشريعات، والأوامر والنّواهي، وكلِّ أمور الحياة. وقد جاء الدين ليقي المجتمع من الجرائم لأنَّهُ يفترض أنَّ الإنسانَ يجب أن يعيش من طريق شريف، وأن يحيى على ثمرات كفاحه وجهده الخاص، أى أنه لا يبنى كيانه على الجريمة، والإسلام كدين للعالمين لا يعتبر أي فعل من الأفعال جريمة إِلا ما فيه ضرر محقق للفرد والجماعة، ويظهر هذا الضرر فيما يمس الدين، أو العرض، أو النفس، أو النسل، أو المال، وما يترتَّبُ على ذلك من فسادٍ وإخلالٍ في المجتمع، لقوله تعالى مخاطبا الرسول صلى الله عليه وسلم: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (108) سورة الانبياء. وأول ما يستقى من هذه الآية الكريمة أن المخاطب هنا كل البشر باختلافهم وتنوعهم، وأن هذا الدين دين رحمة لكل البشر بغض النظر عن ألوانهم وثقافتهم. والرحمة هي منبع كل الخير وسد مانع للظلم والشر، لأن أي سلوك متهور غاب فيه العقل وهاج الإنسان غضبا ولم يعد قادرا على ضبط النفس، يؤدى بصاحبه لارتكاب المعصية، بالاصطلاح الديني، وسلوك طريق الفعل الإجرامي. لهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب” متفق عليه. لأن الإنسان إذا غضب يخرج عن طوره ويفقد السيطرة على نفسه الأمارة بالسوء. وقد يطلق وقد يسرق ويقتل. حيث إن مجموعة من الدراسات العلمية من طرف علماء النفس أثبتت أن لموجات الغضب التي انتابت العديد من المجرمين لحظة ارتكاب الجريمة كانت السبب المباشر لحدوثها. وأن للغضب جذورا في النفس البشرية لها ارتباطات عميقة بالتربية غير المتوازنة التي يطغى فيها نوع من العنف الممارس من طرف الأسرة أو المدرسة والمجتمع على شخصية الجاني. لهذا نجد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يحدثنا عن الرفق واللين والابتعاد عن الغلظة والفظاظة. يقول عليه الصلاة والسلام: “ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه”. لكن السؤال المحير هنا لماذا يغض الإنسان الطرف في لحظة عن تعاليم الدين فينحرف اتجاه السلوك الإجرامي؟

المطلب الأول: ازمة القيم الدينية كأحد أسباب الإجرام

لعل أهم المواضيع التي شغلت الرأي العام والمثقفين والمفكرين والعلماء من أهل الاختصاص في السنوات الأخيرة هي مشكلة القيم أو أزمة القيم التي نتج عن غيابها تحلل المجتمع وتفسخه مما تسبب في انتشار الجرائم والفساد، ويعزى ذلك حسب عالم النفس د/ مصطفى حجازي في كتابه علم النفس والعولمة أن التحولات التي فرضتها العولمة جعلت من المعرفة القوة الأهم لأي مجتمع، وأصبح الاقتدار المعرفي أبرز متطلبات بناء المستقبل، وهذا الاقتدار لا يقتصر على المستوى العلمي فقط، بل هو يمتد إلى تنمية الإبداع وخلق جو من الحرية التي تتيح لأفراد المجتمع إطلاق طاقاتهم التي يعتبر كبتها سببا لأكبر الأمراض النفسية). ومفاد هذا أن السياسة الجنائية والمنظومة التربوية وتجديد الفهم الصحيح للخطاب الديني داخل المجتمع والمؤسسات يجب أن تشتغل مجتمعة بانسجام وتوازن وبكفاءة عالية لإنتاج منظومة أخلاقية ومعرفية متكاملة تساهم في بناء مجتمع متجانس ذي مناعة قادرة على التطور والتقدم ومواجهة التحديات، وقد أكد سعيد حوى في كتابه: تربيتنا الروحية) أن هناك عدة أسباب لتخلف وتفشي الجريمة في المجتمعات، حيث قال: نحن في عصر مادي وشهواني وجاهلي… ونحن في عصر قلما يوجد فيه من يضبط نفسه على مقتضى الأدب الإسلامي الرفيع). ولتشخيص أوضح للشخصية الإجرامية وتبيان أهم الأسباب الدافعة للإجرام التي تتركب لتكون شخصية مهدورة من شأنها أن تبيح هدر الدم بكل برودة وترتكب أبشع الجرائم في المجتمع يضيف: مصطفى حجازي في كتابه سيكولوجية الإنسان المهدور) أن أهم أسباب إنتاج هذه الشخصية هو الاستبداد وآليات تحكمه بالسلوك وتدجينه للطاقات الحية وهدر الوعي والفكر عند الشباب والمؤسسات، انتهاء بالهدر الوجودي في الحياة اليومية. أيُّ مخرج اليوم للمجتمعات من هذا الوباء المتفشي في النفوس وأي حلول ممكنة في ظل تفشي الحرمان والفقر والجهل واتساع رقعة الفوارق الطبقية داخل المجتمع؟ لقد سرق الدين وتم تأويله وتوظيفه بشكل خاطئ من طرف الأقليات المتحكمة التي تعاني مرض التسلط حتى أوصلت المجتمع للهزيمة الفكرية). هذه الأقليات التي وصفها برهان غليون النخبة القائدة للمجتمع بواسطة إيديولوجيا تقليدية مستوردة، حيث عجزت هذه النخبة عن أن تكتسب العلم الغربي وتتمثله). ويضيف أن هذه الهزيمة الفكرية لم تكن هزيمة دين البسطاء الإيماني العفوي والفقير، وإنما دين الساسة “العلماني” الذي لم يكن فيه من العلمانية إلا عقلنة كل ما هو عشائري، ودنيوي، وأناني، ووضيع). وأن هذا العنف غير المعلن هو السبب الرئيسي لتفشي الإجرام والسخط داخل المجتمع كما يقول بيار بورديو: إن عملية عنف رمزي تكون فعالة بقدر ما تكون لا مرئية).

المطلب الثاني: المقاربة الدينية والحلول الممكنة.

يقول فيلسوف المنطق المغربي طه عبد الرحمان في كتابه: العمل الديني وتجديد العقل): ما تزال اليقظة الدينية الجديدة التي دخل فيها العالم الإسلامي في العقدين الأخيرين تحتاج إلى دعامتين اثنتين، حتى يكتمل تيقظها: دعامة التجربة الإيمانية الحية التي تقيها آفة التنازع وتؤمن لها القدرة على التكامل، ودعامة الفكر المحرر على شروط المناهج العقلية والمعايير العلمية المستجدة والذي يقيها آفة التحجر ويؤمن لها القدرة على التجدد). إذا ما أمكننا القول إن العمل الديني كلي وليس جزئيا ومتجدد وليس متحجرا، فإن النظرة الدينية للفعل الجرمي متكاملة ومواكبة للتطور الذي يسير نحوه المجتمع، أي العمل الديني، للتصدي لكل الانحرافات والاختلالات التي يمكن أن تطفو أحيانا إلى سطح المجتمع لتأخذ شكل جرائم، وتجديد العمل الديني هنا ليس محتكرا من طرف أحد بل الكل مطالب بالعمل وليس العمل فقط بل الإحسان في العمل، من مؤسسات، ومسؤولين، جمعيات، مساجد، إعلام، مفكرين، إدارات، وأفراد، وفق رؤية واضحة المعالم ذات أولويات وأهداف ونتائج محددة. فالتنمية تعتبر من أهم المحددات لتقليل الجرائم لكن عن أي تنمية نتحدث؟ التنمية المؤسسة التي تنطلق من الاسرة تم المدرسة العمومية، وهنا نستحضر قولة الرئيس الماليزي مهاتير محمد عن سر القفزة التنموية التي عرفتها بلاده حيث قال: إن الدين هو البوصلة التي تساعد الإنسان على الحفاظ على اتجاهاته السليمة في هذه الحياة، وتحول بينه وبين الهيام على وجهه دون هدف، مما قد يوقعه في براثن الشر). وهذا الكلام العاقل لا يمكن أن يتناقض مع سعي الإنسان المخلص في العمل على تزكية النفس والرقي بها للفوز بالفلاح وتجنب الخيبة في اتباع هوى النفس المؤدي للفجور والخسران دنيويا وأخرويا، مصداقا لقوله تعالى: ونفس وما سواها، فألهما فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها سورة الشمس، الآيات،7. 8. 9.