الدين عند الله عدل وإحسان

Cover Image for الدين عند الله عدل وإحسان
نشر بتاريخ

قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90]. هذه الآية من جوامع الذكر الحكيم التي تحيط برسالة الدين الإسلامي.

فالدين عند الله عدل وإحسان، عبودية لله بمعرفته وتوحيده والخضوع له، واستخلاف في الأرض وعمارتها نشدانا لمجتمع العمران الأخوي، وأي افتراق أو تفريق بين المفهومين “العدل والإحسان” من حيث الفهم والتمثل والعمل بهما فهو يؤدي بنا إلى الميل إلى أحد الطرفين، وعدم تحقيق مراد الله بدينه في صورته الكاملة والتامة؛ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا صدق الله العظيم.

فتغليب الجانب التعبدي الفردي يؤدي إلى الانزواء والدروشة وتعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتقويض دعامات مجتمع العمران الأخوي وقصور عن الاستخلاف في الأرض، أما تغليب جانب العدل هو سقوط في الحركية المفرطة الملهية عن العبودية لله والمفرغة للإنسان من أصل وجوده عبدا لله، والتقصير فيهما معا عدلا وإحسانا هو سير حثيث نحو المجتمع الجاهلي الصاد عن الله حيث يفشو الفساد والظلم، يقول الإمام عبد السلام ياسين: ”هنا يكمُن الخطـر الداهم ويعظُم الخطبُ وتتربص الزلة حين ندخل في معمعـان الحركية العـالمية – ونحن داخلون إليها مرفـوعي الرأس أو أذلاءَ مُكرهين – فتلتهمنا وتُلهينا عن مهمتنا الأولى في الحياة. هنا يهدد دَولابُ الحركية والفاعلية والوقت الجاري والمواعيد العجِلة ومنطقُ السرعة بصرفنا عن وِجهتنا. يهددنا الخطر القاتل، خطرُ أن نكسِب معركة التنمية ونخْسَرَ روحَنا. ونخسَر الإيمان. يهددنا أن نلْبَس مع الناس وكالناس لَبوسَ الدنيا ونطرح لِباسَ التقوى. ومَنْ خسِر الآخرة فما معنى حياته وما قيمة مروره من الدنيا؟ هذا ثمن باهظ وغبن ما بعده غبن. نعوذ بالله” (1).

ونؤكد على أن تلازم العدل والإحسان لا ينبغي أن يفهم كأنهما جسدان مفصولان، بل هما بمثابة الروح من الجسد وجهان لعملة واحدة يسكن أحدهما الآخر، ولا يتحققان مكتملين إلا معا متلبسا كلاهما ببعضهما.

والانتماء لجماعة العدل والإحسان هو بالضمن طلب للعدل والإحسان معا؛ بتمام طلب معرفة الله عز وجل وخلوص العبودية له، واستخلاف في الأرض نصرة لدينه وطلبا لتحقيق شرعة الإسلام، ويفتل في هذا المعنى حديث سيدنا جبريل عليه السلام “الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه” (2)، فالإحسان هو طلب لمعرفة الله أولا حتى يقر في قلب العبد أن وجه الله أعز ما يطلب، ولا بد لتحقيق ذلك من العدل يرفع عن العباد الظلم والجور واستكبار المفسدين في الأرض المانع للعباد من تحقيق حريتهم وكرامتهم الآدمية وخلع ربقة الاستعباد لغير الله، فكما قال الصحابي الجليل ربعي بن عامر رضي الله عنه لكسرى حين استفسره عن فحوى رسالة الإسلام قال: “الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عباده من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام” (3)، فهنا نرى هذا التلازم بين العدل والإحسان.

وأي تفريق بينهما يؤدي إلى الخلل في تمثل وظيفة الدين، وذلك ما عشناه في تاريخنا الإسلامي وما أطلق عليه الإمام عبد السلام ياسين رحمة الله عليه مصطلح “الانكسار التاريخي”؛ حيث انزوت التزكية وانكمش طالبوها في الزوايا وتفلت الحكم من سيادة الدعوة ليصبح السيف الآمر الناهي.

ونحن حين نطلب العدل والإحسان نروم، مما نروم، أن تصبح التربية والاهتمام بالشأن العام من صميم بناء شخصية أخ وأخت العدل والإحسان، يقول الإمام: ”وفي مستقبل الإسلام نحتاج لِقران “الفطم” الفردي الأنفسي السلوكي بالفاعلية الجهادية، ليكون السلوك الإحساني عملا مصيريا رائده الفردي عبادة الله كأننا نراه، ورائده الجماعي إتقان الأعمال الجماعية لتحقيق إسلام العدل” (4).

وبهذا الفهم فالتربية وطلب التزكية ما هي انزواء وانعزال ودروشة شرطها الأساسي شيخ وخلوة وعزلة، نعم الزوايا والصوفية حافظت لنا على لب التربية وجذوة طلب وجه الله حية ألا وهي الصحبة، لكن الصحبة بمفهومها النبوي هي صحبة في جماعة مجاهدة مؤهلة للدلالة على الله، وليست صحبة فردية انعزالية لا يعنيها شأن المسلمين وإعلاء كلمة الله في الأرض طلبا للاستخلاف بالعدل والإحسان، ومربط الفرس هنا؛ فالصحبة الدالة على الله ليس شرطا أن تكون صحبة فردية، بل الأولى أن تكون صحبة في جماعة بشرط أهليتها للدلالة على الله.

وتحقيق العدل والإحسان يكون بتربية تزكي الإنسان وترقيه طلبا للكمال الإنساني في جميع مناحي وجوده؛ من كمال إيماني وخلقي وعلمي وجهادي، فهي كمالات أربع نشتغل عليها لتعطينا المؤمن الشاهد بالقسط، فالتربية عند الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله هي: “تنميةُ الإيمان والطموحِ.. التربية صعود إراديٌّ وتصعيدٌ مستمر. التربية اقترابٌ من الكمال وتقريب. التربية قَدْحُ زِنادٍ في القلب والعقل، إشعالُ فتيلٍ، تعبئة طاقاتٍ فرديّةٍ لتندمج في حركية اجتماعية يَعْمَل فيها العاملون بجهْدٍ مُتكامِلٍ ينفع الله به الأمة” (5).

وهذه الكمالات لا تنال قفزا، بل هي بناء على أساس إسلام وإيمان ثم إحسان.

والعمران الأخوي يربط بين عمارة الأرض والمسجد، وبهذا المفهوم فالدين ليس مجرد عبادة تربط العبد بربه، بل هو عبادة ومعاملة وأخلاق وقيم وسعي في الأرض، وعمارتها بروح مسجدية تسري في جميع مناحي الحياة. يقول الإمام عبد السلام ياسين: “عمران أخوي له اتجاه ومعنى: اتجاهه صلاح الدنيا لِصلاح الآخرة، من الدنيا الزاد الصالح، وفي الآخرة المستقر السعيد، والرحلة عمران موقت لدار يستكمل فيها المسافر معاني آدميته، وتستكمل فيها الأمة وظيفتها الرسالية. لا تُسْمَعُ كلمتها الرسالية إن كانت أمةً مفتقرةً هزيلةً ضعيفةً” (6).

ففي مجتمع العمران الأخوي المواطنة ليست فقط تعاقد بل هي قبل ذلك تراحم ومواطنة قلبية. يقول: ”المواطنة القلبية الإيمانية بين المسلمين هي أم الخصائص في العمران الأخوي. سِمَتُها النفسية السلوكية الإقلاع عن حب الدنيا والتحررُ من العبودية للهوى. وبهذا الإقلاع والتحرر ينقلب موقف المسلم رأسا على عقب من المِلكية الأنانية لمتاع الدنيا، وتنقلب ذهنيته، وينسلخ من عادات المنكر، ومن الشرك بالآلهة التي يعبدُها الإنسان المشرك والغافل من دون الله: الشحِّ والمصلحةِ الخاصةِ والربحِ واللذةِ والمالِ والجاهِ” (7).

فدعائم مجتمع العمران الأخوي: العقيدة الصحيحة بتوحيد العبودية لله، محبة الله ورسوله والمومنين، إقامة العدل، التكافل الاجتماعي…

ومجتمع العمران الأخوي بمفهوم العدل والإحسان ليس فقط مجموعة أفراد يحكمها القانون، بل هو قبل ذلك مجموعات بشرية تجمعها روابط إنسانية قوية من مكارم الأخلاق، يقدرها الشارع حق قدرها ويحث عليها ويرعى حرمتها، لذلك فذوو القربى لهم حق أوجب وصلتهم والإحسان إليهم من تمام العبودية لله، ويليها رعاية الرحم الإنسانية بالصلة والتراحم والتعاون والنهي عن الفحشاء والمنكر وتثبيت نموذج عال من مكارم الأخلاق، وهو فتل في استقرار المجتمع.

فما موقع المومنة كامرأة من كل هذا؟

يتساوى في طلب العدل والإحسان همم الرجال والنساء على حد سواء، فالحمد لله ما كانت المرأة في ديننا سقط متاع، ولا صنف الإسلام النساء في مرتبة دون الرجال، فالخلق واحد؛ خلق الله مطالب بالعبودية لله والاستخلاف في الأرض. وليتحقق الاستخلاف جعل المولى ناموس الزوجية لعمارة الأرض وبناء مجتمع العمران الأخوي، ولبنته الأساس الأسرة حافظة الفطرة السليمة، ولا وجود للأسرة بدون ذكر وأنثى تتكامل أدوارهما ولا تتماثل، مما يقتضي اختلافا في الخلقة بينهما والوظائف، وكل منهما يحقق كمالاته مراعاة لأدواره، وكل ذلك لا يسقط حق المرأة المسلوب تاريخيا في معرفة الله، وهو أوجب الحقوق، ولا يعفيها من واجب التدافع لبناء مجتمع العمران الأخوي؛ انطلاقا من أسرتها ودورها المعتبر فيها لا وقوفا عنده واقتصارا عليه، يحثها على ذلك حثا صريح آي القرآن الداعي لها لتحقيق الولاية بين المومنين والمومنات.

وفي هذه المعاني يقول الإمام عبد السلام ياسين: ”نعود ونتساءل لتتربى المؤمنات التربية الكاملة المتكاملة عقلا وقلبا وخلقا. قلبا قبل كل شيء، ليتأهلن بالأنوار المقتبسة المشعة من جيل مؤمن لجيل مؤمن، ولينشِئْ ن أجيالا مؤمنة يرضعنهم مع لبن الجسم لبن الإيمان“ (8).

ويضيف: ”لو أصبح المسلمون فردا فردا على أتقى قلب واحد منهم، ولو اجتهدوا في الأعمال الصالحة الفردية ما اجتهدوا، ثم لو يؤلفوا قوة اقتحامية جماعية تكون المرأة فيها فعالة لفاتهم فردا فردا درجة الجهاد، ثم لفات الأمة ما فاتهم، ولتردت الأمة بترديهم عن الدرجة العالية، ولتبدد حاضرها وضاع مستقبلها بتبدد إرادتهم“ (9).


(1) عبد السلام ياسين، العدل: الإٍسلاميون والحكم، ط 2018/1، ص 473.

(2) صحيح البخاري، 4777.

(3) ابن كثير، البداية والنهاية، 7/39. 

(4) عبد السلام ياسين، الإحسان، ط 2018/1، ج 1، ص 1. 

(5) عبد السلام ياسين، حوار الماضي والمستقبل، ط 2018/1، ص 84.

(6) عبد السلام ياسين، حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، ط 2018/1، ص 190.

(7) عبد السلام ياسين، العدل: الإٍسلاميون والحكم، م. س، ص 197.

(8) عبد السلام ياسين، تنوير المومنات، ط 2018/1، ج 2، ص 19.

(9) المصدر نفسه، ص 20.