إن من عِظم فضل الدعوة، ورفعة شأنها؛ أنّ الله تعالى جعلها مهمة الأنبياء والرسل، وجعل العلماء ورثة الأنبياء، حتى تبقى الدعوة قائمةً ومستمرةً إلى قيام الساعة، حيث قال سبحانه: قُل هـذِهِ سَبيلي أَدعو إِلَى اللَّهِ عَلى بَصيرَةٍ أَنا وَمَنِ اتَّبَعَني وَسُبحانَ اللَّهِ وَما أَنا مِنَ المُشرِكينَ (يوسف، 108). مهمة كلّف الله تعالى بها الأمّة، حيث قال: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ (آل عمران، 110).
وتتنوع الوسائل والأساليب والكيفيات التي يمكن للداعية أن يدعو بها، ومن خلالها، إلى دين الله تعالى. وسنكتفي في موضوعنا بالحديث عن الدعوة الصامتة، وهي ما يصطلح عليه “الدعوة بالحال”، إذ بالرغم من أن هذه الدعوة صامتة، غير أنها تبقى من أكثر الأساليب الدعوية نجاعة وعطاء. وهنا يمكن أن نعطي مثالا لدخول الملايين من الأفارقة دين الإسلام بسبب أخلاق ومعاملة التجار المسلمين. وسنتطرق في موضوعنا هذا لثلاثة عناصر أساسية لحصول هذا المقام والتمكن منه في شخص الداعية ومؤهلاته، وهي: حال الداعية مع الله، وحاله مع عباد الله، ثم ثباته في المواقف.
1- حال الداعية مع الله
لا بد أن تكون علاقة الداعية مع الله تعالى دائمة، بحيث يجعل جميع حركاته وسكناته له سبحانه، مستحضراً بذلك معيّته طوال الوقت، وإنّ مما يعين على ذلك:
– التفكّر الدائم في خلقه، وإعمال العقل في عظمته وقدرته، وذلك من أسرع السبل لتجديد الإيمان في القلب.
– الدعاء: إذ على الداعية أن يكون دائم التوجه إلى ربه، بسؤاله الثبات والمعونة، وقدوته في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي كان من دعائه: “يا مُقلبَ القلوبِ ثبِّت قلبي على دينِكَ”.
– قيام الليل: فهو من أجلّ العبادات وأرفعها للدرجات، وهي عبادة ترفع همّة المؤمن وتزيح عن قلبه الغفلة، وفضلها يكمن في أنّها سرّ بين العبد وربّه، وقد ذكر الله تعالى فيها آيات من القرآن الكريم لتبيان هذا الفضل، إذ يقول سبحانه: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (السجدة، 16).
– قراءة القرآن: فكلام الله تعالى دواءٌ لأمراض القلوب وأسقامها، والفتور أحد هذه الأمراض، وقراءة القرآن علاجٌ نافع لها بإذن الله تعالى.
– المواظبة على الأذكار والتسبيح: فهي دليلٌ على صحوة القلب وصحة الإيمان، وهي صفة ملازمة للمؤمنين، ودالّة على الاتصال بالله سبحانه، وفضل الذكر عظيم، يدل على عظم أثره حديث رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال عليه السلام: “سبَق المُفرِّدونَ سبَق المُفرِّدونَ، قالوا: يا رسول الله ما المفرِّدون؟ قال: الذَّاكرون الله كثيرًا والذاكراتُ”. فأذكار الصباح والمساء تحصّن المسلم، وتبعد عنه الشّيطان، الذي يسعى كل حين أن يبعد العبد عن ربّه، ويُفسد طمأنينة الوصال به، فكانت الأذكار مبعدة للشيطان ولوساوسه وأفعاله. والذكر الكثير يرفع المؤمن إلى درجات المقربين.
– التضرع والابتهال: يقبل العبدُ على ربِّه بالدعاء والتضرع والخشية والتذلل والمسكنة وشدة الاحتياج، والرغبة الملحة فيما عنده عزّ وجلّ، حتى يرفعه الحق سبحانه أرفع الدرجات. روى الترمذي وابن ماجه: جاء أعرابي فقال: يا رسول الله علِّمني صلاة الليل، قال النبي: “صلها مثنى مثنى، تتشهد في كل ركعتين وتدعو وتتمسكن إلى ربك وتتذلل إلى ربك، وتتضرع إلى ربك، وترفع يديك، تجعل باطن يدك إلى وجهك تقول له: يارب يارب”.
– القبول في الأرض: وما يزال الداعية يتقرب من ربه حتى يحبه. روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قال: “من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن؛ يكره الموت وأنا أكره مساءته”.
وإن من علامات حب الله تعالى للعبد أن يضع له القبول والمحبة بين خلقه من ملائكته وإنسه وجنه، وقد جاءت بذلك أحاديث صحيحة عديدة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا أحب الله العبد نادى جبريل إنَّ الله يحب فلاناً فأحببه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض”، رواه البخاري ومسلم.
فبهذا القبول يحبه الناس، ويقبلون عليه، ويتأسون به، ومنهم من يعلن إسلامه على يديه، لما يرى من عظمة هذا الدين.
2- حال الداعية مع عباد الله
أ- التعامل بالأخلاق العالية:
وليس يخفى أن على الداعية أن يتميّز بأخلاق رفيعة عالية، وهي كثيرة، نذكر من بينها:
– احترام مشاعر الناس وعدم التعرُّض لهم بإهانة أو تجريح.
– مراعاة أحوالهم ومعرفة طبائعهم وأخلاقهم والتعامل معهم كلٌّ حسب ما يناسبه ويتماشى معه ومخاطبتهم على قدر عقولهم.
– إنزالهم منازلهم وإعطاء كلِّ واحدٍ منهم حقَّه وقدره.
– الاهتمام بهم والتعرُّف على أحوالهم والسؤال عن أوضاعهم.
– التواضع لهم وعدم التعالي أو التكبُّر أو الفخر عليهم.
– طلاقة الوجه وانبساطه عند لقائهم.
– إحسان الظنِّ بهم وعدم التجسُّس عليهم.
– العفو عن زلاَّتهم وعدم تتبُّع عثراتهم وكظم الغيظ عندهم.
– الاستماع إلى حديثهم والبُعد عن الجدال والمراء معهم.
ب- الزهد فيما في أيدي الناس:
وهو خلق رفيع أفردت له فقرة لأهميته القصوى. فعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: “يا رسول الله، دُلَّنِي على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس؟”. فقال: “ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس”، رواه ابن ماجه.
ت- علم يصدقه العمل:
إن من أخطر ما يبعد الناس عن الإقبال على الدعاة والأخذ منهم ما قد يرونه من اختلاف بين أقوالهم وأعمالهم. وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (الصف، 3-2). وقال تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ (البقرة، 44).
ث- الابتعاد عن مواطن التهم:
لا يقف المسلم في مواقف الرّيبة أو في مواقف التهمة، فإن النفوس يتسرَّبُ إليها الشك بسرعة. وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء في مسجده، وتأتيه صفية زوجُه تعودُهُ وهو معتكف، فلما قام يودِّعها مَرَّ به أنصاريان فقال لهما: “على رسلكما، هذه صفية بنت حيي”، يخبرهما صلى الله عليه وسلم لئلا يجري الشيطان في دمائهما فيظنوا به سوءا، فالابتعاد عن مواطن الشبهة والريبة أصلح وأسلم وأتقى وأنقى.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “لا تضع نفسك موضع الشبهات ثم تلوم من أساء بك الظن”.
3- الثبات في المواقف
إن الصراع بين الحق والباطل، بين التوحيد والشرك، بين الخير والشر، منذ أن أوجد الله الخليقة، قائم على سنة التدافع والمقدمات التي تسلكها كل فئة وما تؤول إليه من نتائج، وهنالك عنصر هام جدا في هذا النزال وتلك المعركة يبدأ من مستوى الفرد صعودا إلى مستوى الجماعة، ألا وهو الثبات على الموقف، والاستقامة على الحق، والاستمرار على المبدأ، وعدم التراجع والتنصل والتلون والتقهقر، وقد حثنا الله سبحانه وتعالى في أحلك الظروف وأصعب المواقف على الثبات إذ يقول جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (الأنفال، 45).
وإن مما كان يدعو به رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل”، فالعجز هو الضعف والهوان والخور الاستسلام والخنوع، والرضى بالواقع، بِعُجَرِهِ وَبُجَرِه 1، من غير أن يكون للمسلم المؤمن صاحب المبدأ موقف ولا كلمة. وقد جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير”. فاستعن بالله ولا تعجز، إن المواقف تُريك الحقيقة كما هي بلا تنميق وتزييف، وتبين لك الأشياء بشكل واضح، وإن موقفا واحدا قد يغنيك عن آلاف الكلمات.
خاتمة
إن كثيرا من الدعاة يبدعون في أساليب الدعوة والحكمة والموعظة، سواء بالصوت أو الصورة والصيغة، كتوظيف القصة والوسائل الحديثة والقديمة، ويجتهدون اجتهادا طيبا في كل ذلك، وهذا أمر مطلوب في حد ذاته، لكنهم ينسون حالهم مع الله تعالى، وحالهم مع خلق الله سبحانه، فتبوء أعمالهم بالفشل لا قدر الله، ومن نسي الله لا يبارك الله في عمله، ومن نسي الله أنساه الله نفسه. وكيف يدعو الناسَ إلى الله من هو بعيد من ربه؟ أم كيف يدعو الناسَ إلى الإيمان من هو فاقد لمعناه ومبناه؟ إن فاقد الشيء لا يعطيه، قال الله تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ (الحشر، 19)، وقال أيضا: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ (التوبة، 67)، أي تركوا الله ولم يذكروه في السر والعلن ولم يطيعوه ولم يتبعوا أمره، فتركهم الله من توفيقه وهدايته ورحمته.
ومن كان في خلقه ثغرة، وفي تعامله ثُلْمة، وفي مواقفه وثباته فجوة، فإن أمره سرعان ما ينكشف، ويفر الناس من حوله، ويهدم ما قد بناه بجهد على حين غرة.
لذا، فإن إصلاح الحال مع الله ومع خلق الله أمر مستعجل، ويكون قبل الشروع في الدعوة، وأثناءها، وبعدها، إنه أمر لا ينفك عنه المومن البتة، ومما يعين على ذلك صحبة أولياء الله الصالحين، والاغتراف من رحيق قلوبهم، فهم الدواء الشافي. أخرج أبو داود، وكذلك أحمد، والترمذي، عن أبي هريرة رضي الله عنه أَن النبيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ: “الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُر أَحَدُكُم مَنْ يُخَالِل”.