جميع الدعوات المباركات منذ الأزل لم تسلم من بطش الجبارين وإفك الطغاة، وكان الحصار بكل أنواعه؛ من تضييق في الأرزاق أو سجن أو نفي وتشريد أو إغلاق بيوت أو شن الحرب الإعلامية المقيتة على أصحابها. وأصحاب الأخدود الذين قتلوا شر قتلة قصتهم خلدت في القرآن الكريم، وهو أعلا ما يصل له الظالمون في كل وقت، وشهداء رابعة العدوية في العصر الحديث كانوا على عهد ثبات أهل الأخدود رحم الله الجميع.
تتجدد الدعوة ويتجدد التعسف الفرعوني.
ومن راجع السيرة النبوية لمولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يلاحظ الابتلاءات والمحن التي واكبت مسيرة الدعوة من قبل كفار قريش قبل تمكن الدولة الإسلامية، وبعدها انضاف إليهم المنافقون والمكر اليهودي.
الدعوة المباركة رجاؤها أن ينسلك الناس ويكونوا جميعا كأسنان المشط، قويهم لضعيفهم، وغنيهم لفقيرهم، والحاكمون خدام للشعب، وعامة الناس في تواد وتراحم وتعاطف وتؤازر وتماسك. فكيف يُسلم المترفون ومصاصو الدماء الأمرَ للناس حتى يكون هم من الناس؟
الدعوة المباركة غايتها العظمى أن يعلن الناس أن لا إله إلا الله ويوجهوا قلوبهم وولاءهم لله الواحد الأحد، فكيف يفسح الماسكون برقاب الناس أن يتولى الناس عنهم وأن ينكفئوا عن التسبيح بحمدهم؟…
ولذا يجتهد فراعنة الزمان أيما اجتهاد في خنق الأصوات الحرة، والضمائر الحية، ووأد الدعوة الصادقة، وتتبع الدعاة وإلجامهم، وفي الوقت نفسه تجدهم يحرصون كل الحرص مع سبق إصرار وترصد على قتل القيم الفاضلة والأخلاق السنية، ونشر الفاحشة وأخواتها وفصيلتها، مستعينين بالأموال والأبواق والقدرات الواسعة، والإمكانات القارونية الكبيرة لسحر أعين الناس واسترهابهم، والجوقة العلمائية والإعلامية والفنية… تشتغل في كل وقت حسب منطق “إن أريكم إلا ما أرى”.
الدعاة الصادقون يعلمون يقينا أن الله تعالى ناصرهم، وهو معهم. يقفون على بابه كل وقت وحين، يلتجئون إليه يسألون القرب منه والفوز به والفرح به هنا وهناك، يتحببون إليه ويحببون عباد الله إليه.
وعند الابتلاء يقولون حقا وصدقا: حسبنا الله ونعم الوكيل.
يقول عز وجل: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ آل عمران.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِذا وَقَعْتُمْ فِي الأَمْرِ العَظِيمِ فَقُولوا: حَسْبُنا الله وَنِعْمَ الوَكِيلُ) رواه ابن مردويه. وآنذاك يكون المدد الإلهي والنصر الرباني.
تحدثنا الآيات عن ما وقع بعد يوم أحد، الذي كان بلاء ومصيبة وتمحيصا، فقد قتل سبعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعده توعد أبو سفيان بن حرب -قبل إسلامه- حينما قال عبر الإعلام المتاح آنذاك: أَخبر محمداً وأصحابه أني ندمت على تركهم أحياء في أحد بعدما انتصرت عليهم وإني جامع جيوشي وقادم عليهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون: “حسبنا الله ونعم الوكيل” فهو الكافي لنا ما أهمنا وغمنا، ونفوض إليه كل أمورنا. فكانت العاقبة للصفوة الصادقة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ. فما كان من أبي سفيان ومن معه من المشركين إلا أن عادوا إلى مكة وجلين خائفين قد ألقى الله في قلوبهم الرعب.
يحتاج الدعاة في كل وقت وحين إلى معاني الاستمداد الإيماني، حتى تتدفق منهم مياه يرتشف منها المتعطشون ماء لحياة قلوبهم.
كلما كان الدعاة مستمطرون للغيث الرباني، ومستظلون برحمة الله، واقفون عند الأمر والنهي في الصف الأول صلاة وذكرا وقرآنا وقياما للليل، ومن يعاشرهم يجد فيهم لطف المعشر وسلامة اللسان وإتقان العمل والكلمة التي تجمع ولا تفرق.. إن كانوا كذلك كانوا قناطر للخلق يقولون بلسان حالهم: من هنا البداية من هنا الطريق…
إن كان الدعاة ربانيين حقا، صالحين أساسا، مصلحين تباعا، انجلى ليل الظالمين، وطلع النور الذي فيهم وظهر للناس ولاح مهما كان ليل الظالمين.
دعوة الله تعالى كالماء المتدفق عبر وديان وأنهار.
الماء له مسيرة طويلة محفوفة بالمخاطر من المنبع إلى المصب، لا تحبسه سدود أو تقف في طريقه حدود أو تكبله قيود.
الماء بفضل خالقه وعناية ربنا تعالى يرسم مسارات مرنة في غاية المرونة، مع أي ضيق أو انعطاف ينعطف ويواصل المسير. يسير على الأرض وقد تصرفه مصارف، فيجد لنفسه مسلكا تحت الأرض، فإن كان حاجزٌ أمامه فهو يتدفق ويتدفق ويبحث عن مسرب لطيف فيمر، والسد العظيم يُخاف عليه مهما كانت ضخامته وقوته وارتفاعه فيُفرَج عنه مخافة الانهيار أو يَفتَح الماء ثلمة ويمر لمرونته وقوته. قوة ومرونة.
لكن الشرط في الماء أن يتدفق ويسير، أما الماء الراكد فيفسد.
إني رأيتُ وقوفَ الماء يفسدهُ ** إِنْ سَاحَ طَابَ وَإنْ لَمْ يَجْرِ لَمْ يَطِبِ
ما تتعرض له هذه الحركة المائية الدائمة المباركة في طريقها الصاعدة من سدود تصدها صخور تصدمها أو حجارة تسقط عليها أو غبار أو تراب أو أعواد أو ما يرمى عليها من جيف وقاذورات الإفك والبهثان إنما هو تجلية للمياه وتصفية للمذاق حتى يعذب وأني أن يلتف الناس والعطشى بل المخلوقات عن الماء العذب الزلال. والشرط السير وعدم التوقف دون التفات أو تأفف…
ولن يردع أحد الماء عن الوصول إلى المصب، والمصب عدل وإحسان. عدل في القسمة والأرزاق وكرامة إنسانية، وخلق حسن يسري في الناس وتطلع للكمال البشري.
حفظ الله الدعوة والدعاة من كل سوء وبلاء. والحمد لله رب العالمين.