قال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (فصلت، الآية 32).
الدعوة وظيفة الأنبياء وورثتهم من العلماء والصالحين، وفضلها عظيم وأجرها كبير ونتائجها في الإصلاح، بعد توفيق الله، مضمونة إذا أجاد الدعاة فن الدعوة وأتقنوا أداءها وتمكنوا من استغلال الفرص المتاحة لتبليغ كلمة الإسلام ونشر الحق ومجابهة الباطل. وهي من أفضل ما يعمله المسلم عندما يدعو الناس إلى التوبة ويرشدهم إلى الخير ويحثهم على الأخلاق الكريمة والقيم النبيلة.
ولبيان أهميتها فقد أمر الله أنبياءه بالدعوة فقال لهم: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِے كُلِّ أُمَّةٖ رَّسُولاً اَنُ اُ۟عْبُدُواْ اُ۬للَّهَ وَاجْتَنِبُواْ اُ۬لطَّٰغُوتَۖ [النحل، الآية 36]، وأمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالدعوة فقال له: وَادْعُ إِلَيٰ رَبِّكَۖ إِنَّكَ لَعَلَيٰ هُديٗ مُّسْتَقِيمٖۖ [الحج، الآية 65]، وقوله تعالى: اَ۟دْعُ إِلَيٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ اِ۬لْحَسَنَةِ وَجَٰدِلْهُم بِالتِے هِيَ أَحْسَنُۖ [النحل، الآية 125]. كما أمر سبحانه أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالدعوة فقال: وَلْتَكُن مِّنكُمُۥٓ أُمَّةٞ يَدْعُونَ إِلَي اَ۬لْخَيْرِ وَيَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ اِ۬لْمُنكَرِۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ اُ۬لْمُفْلِحُونَۖ [آل عمران، الآية 104]. وقال تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ا۟خْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ اِ۬لْمُنكَرِ وَتُومِنُونَ بِاللَّهِۖ [آل عمران، الآية 110]، فكان من علامات هذه الخيرية التي خص الله بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم أنها تشترك مع النبي محمد صلى الله عليه في فضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله تعالى، لذا كانت الدعوة من أحب الأعمال إلى الله تعالى، يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: “في رأس قائمة الأعمال الإحسانية المحبوبة عند الله المفضلة، لا أفضل منها، الدعوةُ إلى الله وراثَةً للنبوة وتأدية لوظيفتها. قال الله عز وجل: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت، الآية 32]” 1.
فالانتماء لسلك الدعوة شرف وتكريم واصطفاء وطاعة لله ورسوله، يقول الأستاذ منير الركراكي عن الدعوة: “إنها نداء رباني، والاستجابة إليه اصطفاء إحساني، بما هي أمر بالمعروف ونهي عن المنكر: وَمَنْ يُّطِعِ اِ۬للَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَعَ اَ۬لذِينَ أَنْعَمَ اَ۬للَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ اَ۬لنَّبِيٓـِٕۧنَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّٰلِحِينَۖ وَحَسُنَ أُوْلَٰٓئِكَ رَفِيقاٗۖ [النساء، الآية 68]” 2.
فمن أشرف الأعمال وأحسنها، إذن، الدعوة إلى الله تعالى والانخراط في صفوفها بهمة وعزم، ورفع رايتها بالحال والمقال، يقول ابن القيم الجوزية: “فالدعوة إلى الله تعالى هي وظيفة المرسلين وأتباعهم، وهم خلفاء الرسل في أممهم، والناس لهم تبع، والله سبحانه قد أمر رسوله أن يبلغ ما أنزل إليه وضمن له حفظه وعصمته من الناس، وهكذا المبلغون عنه من أمته لهم من حفظ الله وعصمته إياهم بحسب قيامهم بدينه وتبليغهم له، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه ولو آية ودعا لمن بلغ عنه ولو حديثا” 3.
وإذا كان المجتمع تتناوشه الفتن والشبهات، وتنهش استقراره المظالم، والأفراد تتزاحم عليهم سهام الغفلة، فيخف تدينهم حتى لا تكاد تجد له أثرا، فيشردون بعيدا عن طريق الله تعالى، أو يكون بعضهم قد كانت له سابقة في الدعوة خفت وهجها، وغاب نورها، وغار ماؤها بعد أن كان دافقا رقراقا، فإذا كان هذا حال المجتمع والأفراد، فإن الدعوة إلى الخير والإصلاح تصبح من آكد الواجبات التي لا يستقيم حال الأمة إلا بها، فيخف الداعية من عقال النفس المتثاقلة إلى الأرض، ليستأنف مسيره بعد انقطاع، ويستدرك ما فاته من أجر الدعوة فيمتطي صهوتها الرحيمة الرفيقة، ملوحا بكلتا يديه لمن معه في قافلة الدعوة أن أقبلوا وهلموا واركبوا، رافعا شعار “لأن يهدي الله بك رجلا”. فعن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي كرم الله وجهه: “فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم” [متفق عليه].
ويزداد الداعية توثبا لدعوة غيره إلى الخير والصلاح، ويحرص أشد الحرص على إمالتهم إلى الحق وترغيبهم فيه، عندما يعلم عظم الأجر الذي يحصل عليه، ففي صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا”، وفي حديث أبي مسعودٍ البدري يقول النبيُّ ﷺ: “مَن دلَّ على خيرٍ فله مثل أجر فاعله” [رواه مسلم والترمذي].
وأفضل الخير دعوة الناس للتوبة ومعرفة الله تعالى والاستعداد للآخرة، يقول الأستاذ عبد الهادي بلخيلية: “ندعو الناس ليعرفوا الله: لماذا خلقوا؟ يستعدون للقاء الله عز وجل، ثم نوفر لهم الجو ليعيشوا هذه الرحمة ومعاني القرب من الله تعالى، معاني التهمم بلقاء الله سبحانه وتعالى” 4.
فيا أيها الداعية شمر عن ساعد الجد، وأقبل على الخير، فهذا النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، إمام الدعوة وفارسها وملهمها، يدعوك إلى شق طريق الدلالة على الخير والإيمان، ويعدك بأجور الذين كنت سببا في صلاحهم وتوبتهم، فتزيد إلى صحيفتك حسنات غيرك، فتعلوا درجتك. وحسبك أيها الداعية أن تدعو الناس إلى ما تعلمه من الحق، وما تتقنه من الأعمال، وما تجيده من الآيات، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “بلغوا عني ولو آية” [رواه البخاري]، فحمل صلى الله عليه وسلم مسؤولية التبليغ لكل الناس، كل حسب علمه ومعرفته وخبرته. وعلى عظم ما معك من العلم والمعرفة تعظم المسؤولية، فهو تكليف لم يستثن أحدا من أمته، ويكفيك فخرا وشرفا أن تدل الناس على مجالس ذكر الله وعلى محاضن الإيمان لصحبة الأخيار، ولك الأجر مضاعفا بما نصحت ووجهت وأرشدت، ورب حامل علم لمن هو أعلم منه، والدال على الخير كفاعله.
وفي طريق الدعوة يلزم التأدب بمجموعة من الآداب وإتقان الوسائل وغشيان منتديات الناس، يقول الإمام عبد السلام ياسين: “الدعوة والتوجيه والإرشاد.. هو واجب جند الله الدائمُ اليوميُّ. وإنما يمكنهم الوفاءُ لواجب الدعوة إذا هم اعتادوا الهجومَ الأخويَّ الرفيق على الناس، ومُبادَأَتهم بالحديث، والتلطُّفَ مع كلٍّ بما يناسب عقْلَه وحالته، والاستعانة بالكلمة الطيبة، والخدمة، والبذل السخي، على تبليغ وتحبيب الدعوة. واجب جند الله الدعاةِ أن ينْبَثّوا في المساجد، والمكاتب، والإدارات، والشوارع، والأسواق. فكذلك كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يجلس في بيته حتى يأتيه الناس مسلمين. وكذلك فعل من حملوا إلينا الإسلام، قطعوا الفيافي، ومخَروا عُبَابَ البحر” 5.
وفي المنهاج النبوي يقول الإمام عبد السلام ياسين: “فمكان المؤمن مجالس الناس ونواديهم وتجمعاتهم مهما كانت. وكلمته لكل من لقي عفوا في تنقلاته، في الحافلة وفي مدرسته، ومكتبه، ومعمله، وجواره، وشارعه، الدعوة إلى الله. ولا يترك الفرص تأتي عفوا بل يهيئها، يقصد الناس يهجم لا يمل بالوجه الباسم، والكلمة الطيبة، والخلق الجميل. باب الدعوة الصحبة، فكن كلمة الحق التي لا تخجل، ووجه الخير الذي لا يعبس إن جاءه الناس، بل يسعى هو إلى الناس. ساعي الخير كن، وكن حيث يحب الله أن تكون، بالوصف الذي يحب” 6.
من كلام الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله، ومن روضته الغناء التي زرعها بمداد صدقه، وتفانى في سقيها بجميل إخلاصه وعطر دعواته وتوجيهاته، يقطف الداعية باقة من الآداب ليجمل بها مسيرته الدعوية، بأن تبسط للناس أخوتك ومحبتك، وتشملهم برفقك وحسن ملاطفتك وجميل أخلاقك، وتغدق عليهم من أفانين الكلام الطيب، وتمد الجسور معهم بالخدمة، والسخاء، والبذل، والسعي إلى الناس بالخير، وغشيان الناس في مجالسهم ونواديهم وميادينهم. يدعوهم بأخلاقه وحاله قبل مقاله، وللدعوة الصامتة مكان الصدارة وقطب الجذب للتأثير في المدعوين، و”الدعوة الصامتة أرحب وأوسع، كلٌّ يدعو بخُلُقه، يدعو بمواقفه، يدعو بسلوكه، فالناس يرونك أكثر مما يسمعون عنك، يُقبلون عليك بآذانهم، لذلك يقول رسول الله ﷺ: “إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن بطلاقة الوجه وبحسن الخلق” 7، وهذه هي الدعوة الواسعة الرحبة” 8.
ولزيادة الترغيب والتحفيز، ها هو الإمام عبد السلام ياسين يحث المؤمنين على الدعوة إلى الله في إحدى رسائله قائلا: “أوصي كل واحد منكم أن يعتبر نشر الدعوة وتعزيز الصف من أحد واجباته بشرط أن يربط سعيه الدؤوب في الدعوة بسعيه الجوهري في التقرب إلى مولاه، إنها لقربة شريفة أن من أعلى شعب الإيمان بل من أسبق سابقات الجهاد أن تدعو غيرك إلى الله. إنها مهمة الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومهنة المصطفين من عباد الله”. ودائما في نفس الرسالة يواصل الإمام عبد السلام ياسين استنهاض الهمم الفاترة قائلا: “فتعست همة لا تطمح هذا المطمح، ولا عاش من لا يحمل هم الأمة، الساكت عن الدعوة ساعة من نهار، وفرصة كل لقاء. تكلموا وبلغوا حفظكم الله. إن إيمانك أخي وأختي له أبواب المزيد مترعة حين يشغل بالك، بعد ذكر الله عز وجل الدائم المقيم، هم تبليغ رحمة الإيمان لغيرك” 9.
فالذي أكرمه الله بحمل هم الدعوة، يستغل كل فرصة سانحة ليبلغ للناس رحمة الإسلام، وحلاوة الإيمان، وعبير الإحسان. ويدعوهم إلى التوبة، والاستقامة، والإنابة لله تعالى. ويخصهم بأفضل الأوقات لا بفضولها، وقد بسط الأستاذ منير ركراكي في كتابه “الدعوة إلى الله هم ووعي، إرادة وسعي” بعض المجالات التي يجب استثمارها في الدعوة وكلها تقوم على استغلال الأوقات والأمكنة والمناسبات والفئات، ومن الأمثلة على ذلك: استغلال الفرص والأوقات والمناسبات للدعوة كشهر رمضان والأعياد، واستغلال مجالس العلم والتربية والنصيحة، وجمع الناس حول القرآن حفظا ومدارسة وتلاوة، واستغلال الأفراح والمناحات، وإتقان العمل والكفاءة العالية في مقر العمل لأنه فرصة سانحة للدعوة، واستغلال الرباط والاعتكاف والإعلام والرياضة والعمل الجمعوي والاجتماعي، مع التركيز على فئة الشباب لما لها من أهمية في التغيير وتحمل المسؤولية وقابلية للانخراط في صف الدعوة. وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالشباب خيرا حيث قال عليه الصلاة والسلام: “أوصيكم بالشباب خيرا، فإنهم أرق أفئدة، لقد بعثني الله بالحنيفية السمحة.. فحالفني الشباب وخالفني الشيوخ” [رواه البخاري].
ومن كانت الدعوة همه، وشغله، والهواء الذي يتنفسه، لن يعدم الوسائل والفرص لتبليغ دعوة الله تعالى، ولن تقف أمامه الحواجز والمثبطات من تسويف، وخلود للراحة، واستصغار للذات، ويأس من الإصلاح، وتشاؤم، وتفكير في الخلاص الفردي، بل يقتحمها اقتحاما بفضل التربية الإيمانية وصحبة رجال الدعوة الصادقين.
وفي الختام هذه كلمة موجزة حول موضوع الدعوة، الهدف منها تذكير وتشجيع واستنهاض، تذكير لعامة الناس، وخاصة الشباب منهم، بأهمية الدعوة وفضلها، وتشجيع لفتيان الدعوة وفرسانها للاستمرار في طريقها بهمة عالية وإرادة لا تعرف الكلل والملل، واستنهاض للهمم الفاترة المتكاسلة لاستئناف الدعوة ومعاودة العمل في صفوفها والانخراط في أنشطتها، وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٖ تَجِدُوهُ عِندَ اَ۬للَّهِ هُوَ خَيْراٗ وَأَعْظَمَ أَجْراٗۖ وَاسْتَغْفِرُواْ اُ۬للَّهَۖ إِنَّ اَ۬للَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞۖ [المزمل، الآية 18]. وفقنا الله جميعا لصحبة الدعاة الصادقين الذين يأخذون بأيدينا في طريق تزكية أنفسنا وإصلاح أسرنا ومجتمعاتنا والفوز برضا خالقنا.
[2] منير ركراكي، الدعوة إلى الله، ط 1 2014، ص 13.
[3] ابن القيم الجوزية، جلاء الأفهام في فضل الصلاة على محمد خير الأنام، ط1997، ص581.
[4] أحمد الفراك، حوار مع الإمام عبد السلام ياسين، ص213.
[5] عبد السلام ياسين، إمامة الأمة، ط1، ص27.
[6] عبد السلام ياسين، المنهاج النبوي، ط5، ص159.
[7] رواه البزار، البحر الزاخر، مسند البزار، مسند أبي حمزة أنس بن مالك، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] أحمد الفراك، حوارات مع الإمام عبد السلام ياسين، ص213.
[9] منير الركراكي، الدعوة إلى الله، ص36.