رحل الإمام عبد السلام ياسين منذ أربع سنوات وقد ترك فينا مشروعا تجديديا كبيرا يتجاوز القطرية والحاضرية. هذا المشروع نذر له عمرا طويلا، وبنى جزئياته على أرض الواقع لبنة لبنة، اجتهادا علميا وجهادا عمليا بثه في كتبه وفي قلوب تلامذته، فأسس منذ البداية جماعة العدل والإحسان التي تعتبر وعاء هذا المشروع ومشتله ووسيلة نشره رحمة ورفقا وحكمة وقوة.
إن بناء هذا المشروع التجديدي الكبير على الدعوة إلى الله بالرفق والرحمة يقتضي أن يكون الحوار هو جسره للتواصل والتبليغ، يقول رحمه الله: وليس أهون ما يجب أن نبذله في حوارنا مع الفضلاء من المثقفين بسط الوجه لا عن تصنع ونفاق بل إظهارا لما ينبغي أن يتبطنه قلب كل من يهتدي بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي واساه ربه عز وجل في خطابه إياه بقوله: )لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين (الشعراء 3) المنهاج النبوي ص: 309.
يروم المقال التالي الاقتراب من موضوع الحوار عند الإمام عبد السلام ياسين باعتباره وعيا سياسيا استراتيجيا كبيرا بلغة السياسيين المناضلين، وباعتباره حكمة ونورا عظيمين بلغة الربانيين الجامعين.
لذلك، وفي مناسبة رحيله، رحمه الله، عن الدنيا إلى دار الخلود، يقتضي المقام أن نغتنم الفرصة للتذكير بأفكاره ومناقشتها والحوار معها، وفاء للرجل وفهما لمشروعه.
تعتمد هذه الورقة المحاور التالية:
أولا: بواعث الحوار ودواعيه عند الإمام عبد السلام ياسين.
ثانيا: مقدمات الحوار وعقباته.
ثالثا: أرض الحوار وسماؤه.
رابعا: خاتمة (نسأل الله حسنها).
أولا: في البواعث والدواعـي:
لقد كان الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله، بإجماع من عرفوه من الشخصيات الفكرية والسياسية، رجل حوار وبامتياز. فقد حاور أهل الفكر والعلماء والفضلاء والملوك وحاور من خلال مؤلفاته العديد من الإيديولوجيات والمواقف، ولم يتخل عن مبدإ الحوار أبدا رغم كل الصدود الذي واجهه به من سعى إليهم.
فكتب “حوار مع الفضلاء الديموقراطيين”، “الشورى والديموقراطية”، “حوار مع صديق أمازيغي”، “حوار الماضي والمستقبل”. وفحص ما عند الأغيار من نظريات وأفكار فألف “الإسلام والقومية العلمانية”، “الإسلام وتحدي الماركسية اللينينية”، “سنة الله”، “الإسلام والحداثة”، “من أجل حوار مع النخب المغربة”… كتب كل هذا وغيره بعقلية نقدية عالية لا متعالية، بناءة لا صدامية، وبحكمة قلبية محبة لهذا البلد.
ولا غرو فقد دشن الإمام مرحلة الحوار منذ بداية تحركه، بل وقبل أن يؤسس أي عمل منظم وقبل أن يجتمع حوله الناس والمؤيدون. منطلقه في ذلك بواعث إيمانية ودواعي عقلية نجملها كالتالي:
أ/ الحوار أسلوب نبوي
لم يأل الإمام عبد السلام ياسين جهدا في فتح باب الحوار مع كل من ترجى استجابته ومن لا ترجى إقامة للحجة، وذلك انطلاقا من اقتناع مبدئي هو أن الحوار أسلوب نبوي. يقول الله عز وجل: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين (النحل الآية: 125). قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون. (آل عمران 64).
هكذا كان الله تعالى يعلم نبينا الكريم آداب الحوار ومنطق التواصل مع من يدعوهم ويبتغي هداهم… وعلى هذا المنهاج النبوي في الدعوة والتواصل والحوار عاش الإمام ومات رحمه الله تعالى.
ب / الحوار دعوة
يقول الإمام عبد السلام ياسين: الحوار عندنا دعوة، الدعوة نداء… الحوار عندنا جدال بالتي هي أحسن ومقدمة الجدال وموضوعه ومضمونه وغايته إسماع الدعوة). (الشورى والديمقراطية ص: 103).
ويقول أيضا: نخاطب من وراء واجهات الأحزاب والمنظمات والنقابات كل ذوي المروءات والذمم أن يتوبوا إلى الله) (مجلة الجماعة العدد 1 ص. 8).
دعوة إلى التوبة والإنابة، قد يختلف أسلوب الحوار من سياسي إلى فكري، لكن يبقى الهم الدعوي حاضرا بقوة.
ج/ الحوار ضرورة سياسية
يكون الحوار ضرورة سياسية لدرجة قصوى في هذا الوقت الذي تمر فيه الأمة من منعطف تاريخي حاسم يقتضي لمّ الشمل والتفاهم والتناصح والتآزر بدلا من الاستعلاء والتجاهل.
حوارنا مع عمار الساحة السياسية ضرورة سياسية وتبليغنا مقالة الإيمان واجب دعوي فالمرجو من العمار الفضلاء أن يبذلوا جهدا ـ حدا أدنى من الجهد ـ لكي يستبينوا من خطاب دعوي أصلا سياسي ضرورة، كلمة الوعظ متشابكة مع كلمة السياسة) (الشورى والديمقراطية ص: 274).
ويقول مخاطبا الفضلاء الديمقراطيين: وأنتم جزء لا يتجزأ من الأمة، والقفز على حضوركم وكأنكم عدم وهمٌ لا يساور عقولنا، فلا مناص من التعامل بيننا) (الشورى والديمقراطية، ص: 270).
ويؤكد في كتب العدل قائلا: لا مناص لنا ولكم معشر الديمقراطيين من حوار يصفي الأجواء). (العدل الإسلاميون والحكم، عبد السلام ياسين، مطبوعات الصفاء للإنتاج، الطبعة الأولى، 2000، ص: 584).
من المغامرة أن يزعم زاعم أن مكونا وحيدا من مكونات الشعب يستطيع مهما بلغ من قوة عددية وعُددية أن يحمل على كتفه أوزار الماضي وكوارث الحاضر وآمال المستقبل). (العدل الإسلاميون والحكم، عبد السلام ياسين، مطبوعات الصفاء للإنتاج، الطبعة الأولى، 2000، ص 576).
ثانيا مقدمات الحوار وعقباته
إن الحوار في الفقه المنهاجي ينطلق من مقدمتين كليتين:
الأولى رفض منطقي للتكفير
يقول الإمام: الذين يحيلون دين الله، الذي جعله رحمة، دين نقمة وعذاب وتزمت، ما في جعبتهم إلا تكفير المسلمين وتبديعهم، ولا في صيدليتهم لعلاج أمراض المجتمع إلا آلات بتر الأعضاء وقطع الرؤوس وإسالة الدماء وقذف النساء بالأحماض التي تُحرق الأجسام وتُعمي العيون. ” “تلك عقول مدبرة عن دين الهداية والرفق والرحمة. عقول تعجز عن التفكير في المتشابكات السياسية الاجتماعية الاقتصادية، كما تعجزُ عن تصورٍ إنساني لمشاكل الإنسان، تحسِب أن لها القِدْحَ المُعلَّى في الفقه الديني لاطلاعها على أحكام الشرع وحدوده. النية الحسنة قد تكون مَدْرَجَة للعنف الفظيع والظلم الأفظع). (ياسين عبد السلام، حوار مع صديق أمازيغي، ص: 52 – 53).
الثانية رفض التوسل بالعنف
في غير موضع من كتاباته رحمه الله تعالى، يثبت رفضه للعنف وكرهه له، يقول: ولا نحب العنف ولا نقول به. ونعوذ بالله العلي العظيم من خصلة العنف وهي ملمح من ملامح الجاهلية، ولازمة من لوازمها، ومعنى من معانيها). (العدل، الإسلاميون والحكم، ص: 582).
إن من بنى فقهه على الدعوة إلى الله بالرفق والرحمة، ورفض التكفير منطقا، والعنف وسيلة، كان الحوار جسره للتواصل مع المختلف معهم، إلا أن نجاح أي حوار جامع تعوقه عقبات كثيرة ومتنوعة يقول الإمام: حساسية الفضلاء الديمقراطيين الوطنيين، والرصيد العتيد من تضحية الأحرار التقدميين، يقفان حاجزا نفسيا وعقليا موقعيا دفاعيا بينهم وبين دعوتنا إلى توبة عامة وكلمة سواء). (الشورى والديمقراطية، ص: 229).
ويقول أيضا إن سوء التفاهم بيننا وبين بعضهم ناتج عن أننا نتكلم من مواقع مختلفة ومن مستويين اثنين، ومن يراد منه أن يبذل جهودا ليسع ويتأمل ويقدر الحاضر والمستقبل منهمك في الحاضر لا يلوي على شيء) (الشورى والديمقراطية، ص: 269).
وعلى العموم يمكن تصنيف معوقات الحوار إلى ثلاث عقبات نفسية وفكرية وموضوعية تمنع من وصول أي مبادرة حوار إلى أهدافها المنشودة:
عقبات نفسية:
من قبيل التعصب للرأي، وكراهية المخالف، والاعتداد بالرصيد النضالي السابق، إلى جانب المصالح الشخصية والفئوية، والنعرات العرقية واللغوية.
عقبات فكرية:
يدخل ضمنها اختلاف المرجعيات، والأحكام المسبقة، وكيل التهم الجاهزة، يضاف إلى ذلك وبشكل أشد حضورا وأكثر تأثيرا اختلاف آفاق التغيير وأسقفه وأولوياته.
عقبات موضوعية:
يقصد بها العقبات التي تكتنف البيئة المجتمعية والسياسية، من انقسامات وانشقاقات، إضافة إلى السعي الحثيث الدي يبدله الاستبداد لإجهاض فرص التواصل ومحاولات التقارب والتقريب بين الفرقاء.
ثالثا: أرض الحوار وسماؤه
إن السؤال المنهاجي الكبير الذي يطرحه الإمام وهو يحدد ويدقق في المدخل إلى مستقبل حر وكريم ومستقل وآمن ومطمئن فيه المواطن والوطن: كيف اللقاء اليوم وغدا، مع العناصر المخلصة الجادة من الفضلاء على كلمة سواء ترجعنا وإياهم إلى إفراد الله وحده لا شريك له بالعبادة، وإلى كسر الأغلال التي يَرْسُف فيها الشعب…؟) (حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1994، ص: 5).
إن الهدف الكبير للحوار الذي ما فتئ يدعو له الإمام هو جمع الفرقاء السياسيين وفئات المجتمع على ميثاق مسلم المبنى والمعنى، ميثاق يوضع ويقترح على الشعب، ويسهم فيه عبر النقاش والصياغة النهائية للمصادقة، صياغة ميثاق ومناقشة ميثاق وإشراك الشعب لتستنير الطريق وينكشف ويعرف الحق وتختار الأمة، وينفضح الدخيل، ويخزى المنافق) حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، ص. 6. ميثاق يحولنا من عهد لعهد ومن كذب لصدق ومن نفاق لإسلام “. الشورى والديمقراطية 345 “لابد من كتابة ميثاق إسلامي بعد مناقشة عميقة طويلة على ملأ من الأمة. وبعد نقد صريح صادق لحاضر الناس وماضيهم وكفاءتهم، وعرض الأفكار والاقتراحات والبرامج بين يدي الناس في الصحف والتلفزيون ليحكم الناس على صلاحية من يصلح للناس وليرفض مالا يليق بالناس ومن لا يمثل الناس) (الشورى والديمقراطية، ص: 346).
إن فكرة الميثاق التي يقترحها الإمام ياسين هي وسيلة مقصدية جامعة في أفق البناء الكلي لجسم الأمة خطوات من بعد خطوات وأجيال من وراء أجيال حتى تكتمل المراحل وتستقر المباني وتعلم المعاني.
رابعا: خاتمة نسأل الله حسنها
إن ما كتبه الإمام عبد السلام ياسين، وعاش من أجله ومات في سبيله ليتصف بالشمولية والدقة والعمق في بناء نظرية منهاجية متكاملة تقرأ التاريخ والواقع والمستقبل، الأنفس والآفاق، في أفق بناء واقع إنساني بديل. فهو إلى جانب حواراته المتعددة داخل القطر، حاور الإنسان في كليته وجغرافيته معلنا ضرورة الحوار وحسن الجوار) عملا بقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا (الحجرات: 13).
يقول الإمام عبد السلام ياسين: نحن مدعوون غدا لنتحالف مع مستضعفي الأرض ضد الاستكبار العالمي. معنا رسالة الله نحن المستأمنون عليها لنبلغها مضيفا: على أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ندخل في الأحلاف ضد الظلم، رائدنا هذه الكلمة العزيزة “ولو دُعيتُ إليه في الإسلام لأجبتُ” قال الإمام السهيلي رحمه الله: تعليقا على هذه الجملة من الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: ولو دُعيتُ إليه اليوم لأجبت، يريد: لو قال قائل من المظلومين: يا لَحِلْفِ الفضولِ ! لأجبت. ذلك أن الإسلام جاء بإقامة الحق ونُصرة المظلومين، فلم يزدد به هذا الحِلف إلا قوةً) (إمامة الأمة، عبد السلام ياسين، دار لبنان للطباعة والنشر، 1430هـ، 2009م، ص 263 , 264).
رحم الله الإمام المجدد الأستاذ عبد السلام ياسين الذي حاور منذ أن بلغ أشده وعمل على توريث ذلك تلامذته منذ أن وفقه الله. وهاهي جماعة العدل والإحسان تتقدم خطوات مباركات في صرح البناء وفاء بالعهد واستبشارا بالموعود.