الحوار الأسري

Cover Image for الحوار الأسري
نشر بتاريخ

قال صلى الله عليه وسلم “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”

الحمد لله الذي جعل البنين زينة الحياة، ورفع الوالدين إلى أقدس المقامات، والصلاة والسلام على الحبيب الرسول والأب المربي وعلى آله وصحبه وحزبه.

أختي الفاضلة:

لعلك تعلمين مسبقا سبب كتابتي لهذه الرسالة، فقد تعودنا على الكتابة بعد حصول أي مشكل لأي واحدة منا، حتى تتدبر وتأخذ العبرة، وتبحث عن الحلول، وليس هناك مشكل يؤرق الآباء أكثر من هموم الأولاد، لقد فاجأني ابنك أحمد في تلك الليلة حينما طرق باب بيتنا في ذلك الوقت المتأخر من الليل، مدعيا أنه جاء يبحث عن ابني علي في أمر هام يخص الدارسة، ولم تكن حالة أحمد لتخفى على قلب أم، لقد كانت تظهر عليه علامات القلق والخوف والاضطراب، فتركته ساعة من الزمن في خلوة مع علي، لكنني في الأخير أجبرت على مكاشفته ومعرفة حقيقة أمره لأنه لم يشأ الرجوع إلى بيته.

أختي: لقد أدهشني تصرف والده القاسي طبعا، حينما رفض أن يفتح له الباب للدخول لأنه تأخر شيئا من الوقت في الخارج، وقد أقسم الولد أنه انشغل بالأنترنيت وغفل عن الوقت. أعلم أن حزم الوالد ضروري للتربية، لكن ألم يفكر الوالد في عاقبة طرد ابنه ليلا؟. تخيلي أختي لو أن أحمد قرر عدم العودة أو عدم اللجوء إلى بيتنا، كيف كان سيكون حالكما بعد فقدانه؟ ألن يندم الوالد على تسرعه حينما يطرد الوالد ابنه الشاب البالغ من العمر ثمانية عشرة سنة؟ إلى أي مصير مجهول يدفعه؟

أختي: الشارع معروفة أحواله، والمجتمع لا يخفى على أحد حاله؟ فقبل أن نعاقب الشاب على خطأ وقع فيه أو كاد، لابد أن ندرس العواقب جيدا، كما أن العقاب لا يكون إلا إذا كنا نحن الآباء قد أشبعنا الأولاد حبا وحنانا وتفهما، بل مصاحبة وتقربا. فكم مرة نقبل أولادنا قبلة تشعرهم بالدفء والأمان، أو كلمة نعبر بها عن حبنا، أو هدية نوقظ بها مشاعر المودة والقرب؟ قد يكون الابن لم يسمع كلمة “إني أحبك” منذ كان ابن السابعة من عمره أضف إلى ذلك انسداد طرق النقاش والحوار بيننا. بحيث يخشى كل واحد منا مواجهة الآخر، لأننا أصبحنا غرباء عن بعضنا. والأولاد دائما في حاجة إلى عطفنا وحبنا وحناننا.

أختي الفاضلة:

لقد قررت أن أكتب لأحدثك عن أهمية الحوار داخل الأسرة، وكيف يمكن أن نرقى بمستوى علاقاتنا الأسرية عن طريق التواصل متبعين بذلك هدي القرآن وسنة الرسول العدنان صلى الله عليه وسلم، حتى تكون ثمار تربيتنا طيبة فنؤجر ولا نؤزر، ونكون قد أدينا بإخلاص، أمانة تربية الأولاد. والمعول في النتيجة على الخالق الوهاب الذي بيده هداية الخلق أجمعين وليس بأيدينا.

أختي: لعل أغلب الأسر المغربية والعربية عموما تربي أبناؤها على السمع والطاعة، على اعتبار أن طاعة الوالدين تأتي في المرتبة الموالية تماما لطاعة المولى عز وجل، قال تعالى وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا. فرضى الوالدين مفتاح من مفاتيح الجنة، وعقوقهما قد يكون حجبا عن النظر إلى وجهه سبحانه وتعالى.

ونحن الآباء سعيا لرضى الله وحبا لأبنائنا. هذا الحب الذي يتجلى في وقاية فلذات أكبادنا من عذاب النار، نحرص على تنشئة أبنائنا على السمع والطاعة، لكن هذا الحرص وهذه المحبة وهذا الخوف، كل ذلك قد ينقلب إلى قمع لأولادنا وحرمانهم من حقهم في التعبير والمشاركة وإبداء الرأي، وهكذا يتحول حرصنا وخوفنا إلى سلطة يفقد معها أبناؤنا الشجاعة المؤدبة والجرأة الحكيمة على التحاور داخل البيت، مما قد يؤثر على تكوين نفسيتهم وشخصيتهم خارج البيت أيضا. في حين نجد –أختي- أن القرآن الكريم يقدم لنا النماذج المتتالية من الحوارات بين الآباء وأبنائهم، مما يؤكد لنا ضرورة الحوار وفائدته في التعليم والتربية. قال تعالى في سورة مريم: واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيئا، إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر، ولا يغني عنك شيئا، يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا، يا أبت لا تعبد الشيطان، إن الشيطان كان للرحمان عصيا، يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا، قال أراغب أنت عن ءالهتي يا إبراهيم، لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا، قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي صفيا، فلاحظي أختي كيف يتأدب سيدنا إبراهيم في إقناع والده بدينه، دون استعلاء. بل يظهر خوفه على أبيه ويرجو نجاته من النار، وحتى بعدما فشل في محاورته وإٌقناعه، لم يتركه إلا بعدما طلب منه الوالد ذلك، وحينما تركه ألزم نفسه بالاستغفار لأبيه، وحتى يصل الوالد إلى نتيجة يحاوره فيها ابنه بكل أدب وحب واحترام، عليه أن يكون هو نفسه قدوة في ذلك، ونأخذ مثالا على ذلك سيدنا لقمان عليه السلام، كيف يقنع ابنه ويوصيه بلين ورأفة قال تعالى: وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه، يا بني لا تشرك بالله، إن الشرك لظلم عظيم وتكرر كلمة “يا بني” لتؤكد على الرحمة والرفق والحب الذي يستطيع به الأب أن يوصل كلامه لابنه، رفق ورحمة لا غلظة وتسلط.

أختي الفاضلة:

لعل الرحمة والرفق ومساحة واسعة من المحبة بين أفراد الأسرة، أسس هامة لنجاح الحوار داخل الأسرة، خاصة إذا تم التعبير عن هذه المشاعر وإخراجها من مكامنها باللفظ الحاني والحركة المعبرة، وحتى يستمر الحوار ويدوم لابد من التشجيع والتحفيز عليه، بحيث لا تكون ضريبة التعبير عن الرأي غالية الثمن مرتفعة التكاليف بعقاب الابن، فمادام الولد محافظا على الأدب في حواره، فلا نعاقبه أبدا على جرأته وتعبيره عن رأيه.

وثمار التربية على التعبير والاقتراح والحوار تأتي متدرجة مع مرحلة الملاعبة والتعليم لتؤتي أكلها في مرحلة المصاحبة، حينها يتزامن مستوى الحوار بين الأب وابنه والبنت وأمها مع شوط مهم من حياة الأبناء، آنذاك يصبح الحوار ضرورة ملحة داخل الأسرة، تزاحمه وسائل الإعلام المتنوعة، وأصدقاء المدرسة والشارع، وأي فشل في مستوى التحاور والتواصل بين أفراد الأسرة يكون من أهم أسبابه إهمال الوالدين تنشئة أبنائهما منذ الصغر على النقد والمشاركة الفعالة والتحفيز والمبادرة، وكذا إحساس الأبناء للنقص العاطفي بسبب إغفال الآباء احتياجات الأبناء العاطفية مقابل انشغالهم باحتياجاتهم المادية.

أختي: لا ينكر أحدنا أن حصن الأسرة هو الأساس الذي ينمي الطاقات ويحرر الهمم ويفتح الصدر، ويستوعب الرأي والرأي الآخر، ليحتج ويدافع عن فكرته التي يظنها صحيحة ويتخلى عنها إن كانت حجة من يخالفه أقوى.

وحضن الأسرة –أختي- هو حصن للولد يحيطه ويحميه، ويجعله يعود في كل مسائله الخاصة ومشاغله الحساسة وتطلعاته إلى أهله للتشاور، والاستطلاع، وتأكيد المعلومة وتصحيح الخبر، دون اللجوء إلى الغرباء، من أصدقاء وجيران وإعلام، حيث ينعكس حياء الولد من أبيه والبنت من أمها، وجدار الصمت المضروب في البيت، وغياب ثقافة الحوار، إلى اضطرار الأبناء إلى البوح للآخر الذي وثقوا به للاستفسار عما استحيوا أن يبوحوا به لنا نحن الآباء، وغالبا ما يكون الجواب مخيبا لٍلآمال غير مراع لمتطلبات السن، ولا للمبادئ والأسس التربوية، فيكون تخلي الوالدين وهروبهما من المسؤولية خطرا على نتائج التربية التي ينشدانها.

أختي الفاضلة:

حضن الأسرة هو الأساس، والأسرة أم صالحة واعية بواجباتها في التربية، وأب صالح واع بدوره ومسؤولياته. يملآن البيت مودة وسكينة، مصدرها حب الله والخوف منه والرجاء فيه، أن يجعل ثمرة تربيتهما عملا صالحا يتقربان به إلى الحق عز وجل.

وفي الأخير أقول لك أختي لقد ابتلينا نحن الآباء والأمهات في زمننا هذا بتحديات تفوق تحكمنا وحتى إدراكنا، فلا نضيع الفرصة في أن نكون نحن الآباء حصنا لأولادنا من كل التيارات الجارفة والعادات المخلة وذلك بالحب والتربية والمصاحبة.

والصلاة والسلام على خير الأنام من جاء بدين رفع الوالدين إلى أعلى مقام، واعتبر الأبناء الصالحين عملا صالحا يجزي عليه ربنا المنان وعلى آله وصحبه وحزبه.