من منا لا يتذكر تلك اللحظات الطفولية الجميلة عندما ترسله أمه إلى جارتها لجلب بعض المتعلقات أو المواد الناقصة في مطبخ البيت، فيطلق ساقيه للريح فرحا بهذه المهمة العظيمة، وتزداد الفرحة عند عودته محملا بالمطلوب ومنتشيا بطعم كعك الجارة وهو يزدرده في طريق عودته.
وترجع بنا الذكريات إلى تلك العهود الماضية، مرحلة الصبا، حيث كانت الحدود منعدمة بيننا وبين الجيران، فكنا ننط بين المنازل حاملين جواز المرور موقعا ببصمة الجوار، وكنا نخترق الأبواب الموصدة، ونتسلل فوق سطوح المنازل، أو نجتمع في فناء أحد المنازل الذي يتحول إلى حلبة لشتى أنواع اللعب. كانت البيوت تحتضننا بين ذراعيها فنحس بالطمأنينة الطفولية تتدفق من قلوبنا الصغيرة. وكيف لا ننعم بهذا الدفء وكل أبناء الجيران لنا إخوة، نشاركهم في لهونا ولعبنا ومرحنا فنغدوا منذ الصباح كسرب الطيور طلبا للعب والمرح، وكان لا يحول بيننا وبين الاستمرار في اللعب إلا سدول الليل، حيث يطاردنا الظلام من أزقة حينا ليرغمنا على الدخول إلى منازلنا وكلنا أمل وشوق للقاء قريب مع إشراقة يوم جديد.
معظم الأوقات كنا نقضيها مع الجيران، وكأن عفويتنا الطفولية المتدفقة نحوهم تسقى من سقاء والدينا، وتربوا بين أحضان الأخوة الصادقة التي كانت تجمع بين الكبار، نعم، لقد غرسوا بحسن جوارهم لبعضهم بعضا، وبعاطفتهم الصادقة، في قلوبنا الصغيرة شتائل المحبة والأنس فغدت جنة خضرة، ظلالها ممتدة في حياتنا إلى اليوم. لقد عرفوا مكانة الجار، وضرورة الجار، ودفء الجار، وكأنهم يمتثلون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أوصى بالجار، وجعل له حقوقا، ومنع الإضرار به أو أذيته. عشنا هذه المعاني السامية وارتشفنا كأسها ماء عذبا زلالا ونحن ما زلنا صغارا على أيدي أمهاتنا وآبائنا. فأصبح بذلك الإحسان إلى الجار، زيارة وتفقدا ومساعدة وتضامنا ومشاورة، عادة حميدة ورثناها عن آبائنا، وأملنا أن تبقى هذه العادة حية في وسط مجتمعنا.
وها نحن الآن وقد تقدم بنا السن، وطوى الزمان تلك الأيام الطفولية الجميلة، ليبقى ذلك الطفل الصغير الذي يسكن في داخلي يأبى نسيان تلك اللحظات، فيحن إلى معاودة زيارة جارتنا الوقورة اللطيفة، ليحظى بعطية منها قد تكون حلوى أو تمرا، أو “بيضة بلدية” مسلوقة، أو كسرة خبز محشوة بإدام وخضرة أو مرطبة بزيت الزيتون وملعقة من العسل، وأحسن العطايا كعك لذيذ أقضمه على مهل حتى لا يختفي من يدي.
لقد كان للمجاورة طقوسها ومواعيدها بعضها خاص بالنساء والآخر خاص بالرجال، إذ إننا لا ننسى تلك اللحظات المفعمة بالحياة والحيوية عند اجتماع الأمهات في بيت إحدى الجارات، فينطلقن في تبادل أطراف الحديث، وننهمك، نحن الأطفال، في أكل ما لذ وطاب من الحلويات، ولا يصرفنا عن ذلك إلا نظرات حادة وشفتان مشدودتان من طرف أمهاتنا، وهن يتوعدننا بأشد العذاب، ورغم ذلك لا نتوقف عن استراق ما وصلت إليه أيدينا وغفلت عنه عين الرقيب. أما الرجال فكانت لهم مواعيدهم الخاصة، فقد يجتمعون على وجبة العشاء حيث نطرد منها ولا يسمح لنا بمشاركتهم في وليمتهم، وحتى إن تسرب بعضنا إلى المائدة، فبروية وهدوء، فيجلس وكأن على رأسه الطير. ومعظم لقاءاتهم تكون خارج الدار، في مكان العمل فلا يصلنا من حلواها إلا القليل.
وتعود بي الذاكرة إلى ذلك الزمن الجميل، لتبوح لعالم اليوم أن الجار هو بمثابة رب الدار، وأن الجار قبل الدار، فكما نفرح بهدايا الجار كنا نتألم من تأديبه لنا، فمسؤولية التربية والتأديب تمتد بين البيوت المتجاورة، ونحس بعيونهم تحرسنا من الدواهي والمصائب، وكثيرا ما تعرضنا لتأديب رفيق من طرف أحد الجيران، ولا أحد يعترض على ذلك من الكبار، وكأنهم اتفقوا على ذلك، وهذا ما خلق نوعا من طمأنينة والدينا علينا. وقد امتدت هذه العناية حتى غدا التناصح واجبا عينيا على كل من رأى في جاره عوجا أو تهاونا في واجب أو غفلة عن فعل الخير أو انحرافا وسقوطا في شر، فلا يجد الناصح حرجا في تقويم جاره، لأن نصيحته محمولة على بساط الأخوة والمجاورة.
وكان من بركات هذه المجاورة الصادقة، ذلك التضامن والتعاون بين الجيران في الأفراح والأحزان، فسرعان ما تنتقل نساء الحي إلى دار المعني بالمناسبة، فيتشكل فريق عمل للقيام بالمهام المطلوبة، فليسوا في حاجة إلى منظم حفلات ولا خدم مدفوعي الأجر. فالجميع يساهم بما وصلت إليه يده، إلى درجة لا تستطيع معها التفرقة بين صاحب المناسبة وجيرانه الأوفياء. فيغدو المنزل خلية نحل دائمة الحركة ولا تخفت إلا بعد انتهاء المناسبة.
ومع زحف السنين، طرأت تغييرات اقتصادية واجتماعية كثيرة أدت إلى تراجع هذه المعاني الجميلة والعلاقات الطيبة بين الجيران، فرغم كثرة البنايات والشقق والعمارات إلا أن سكانها سرقت منهم مشاغل الحياة الالتفات إلى بعضهم، ففي عمارة واحدة تجد عشرات البيوت، وقاطنوها يستعملون درجا واحدا ولا أحد منهم يسلم على الآخر بله معرفته ومصادقته، فكل واحد تقوقع على نفسه مقتنعا أن السلامة في الابتعاد عن الجيران، اتقاء لشر متوقع منهم، ودرئا للفضول ومنعا لحشر الأنف فيما لا يعنيهم. وبهذا أصبحت المجمعات السكنية كأجساد بلا روح، وكوجوه بلا ابتسامة، وكورود بلا رائحة، وأصبح الأطفال مساجين في أقفاص خرسانية وقد حرموا لذة ازدراد كعك الجيران، ومع الكعك معاني الرحمة والأخوة والأمان.
للأسف الشديد تراجعت معاني الجوار أمام ضربات الظروف الاجتماعية والعوائد الجديدة، وأصبح المجتمع يفقد أجمل ما فيه وهو ذلك الشعور الأخوي بين أصحاب الدور المتجاورة. فأصبح من اللازم التذكير بأهمية الحفاظ على لحمة الجوار لما لها من أياد بيضاء على تربية الأجيال على قيم التضامن والتعاون والتآزر.
في بعض الأحيان عندما أحضر لصلاة الجمعة في مسجد الحي، يكون موضوع الخطبة عن حقوق الجار فأنصت للإمام بكل مجامعي ومشاعري، فأجدني قد استدبرت الزمن الماضي، حيث تحملني الذاكرة لكعك الجيران، ما ألذه وأطيبه، فبقايا حلاوته تطيب فمي كلما تذكرت شكله ومذاقه وسرعة مضغه قبل اجتماع المتطفلين من بقية أطفال الحي، فكل يرفع صوته “ذوقني، اعطيني عضة”. أتذكر ذلك والإمام يسترسل في الحث على الإحسان للجار، ويستشهد بما صح من وصايا النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره” و“مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه”، ويسترسل الخطيب في الإشادة بحسن الجوار مبينا مظاهر هذا الإحسان إلى الجار كزيارته، والبشاشة في وجهه، ومساعدته، وعيادته في مرضه، ومواساته في أحزانه، وتهنئته، وكف الأذى عنه، والصبر على ما يصدر منه من الأذى، حتى تمنيت لو أدرج في ثنايا خطبته الترغيب في إكرام أبناء الجيران بالكعك والحلويات، نعم، تمنيت لو فعل ذلك.
ومن الأحاديث التي أوردها الخطيب وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: “إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، ثم انظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم منها بمعروف” فتذكرت أن هذه الوصية كان معمولا بها بيننا وبين جيراننا، فلا تمر أيام حتى نجد على المائدة نوعين من الطعام، أحدهما هدية مما طبخته الجارة، حتى أصبح من عادتنا تبادل الأطعمة بين الجيران، وأما في حالة غياب ربة البيت في زيارة لوالديها، فإن زوجها وأبناءها يتلقون جميع الوجبات من الجيران، وإن امتد ذلك الغياب لأيام أو أسابيع. وكثيرا ما نحظى نحن الأطفال بحسن الضيافة من طرف الجيران في حالة غياب والدينا لزيارة أو سفر، فنصبح ضيوف شرف، يعمنا ما يعم بقية أبنائهم من الرعاية والحماية والتربية، مع زيادة الإكرام بكعك لذيذ نكون سببا لإخراجه من مخبئه وتوزيعه على الجميع.
يا ليت عقارب الساعة ترجع القهقرى، لنعاود التمتع بتلك اللحظات الجميلة مع جيراننا، ويا ليت الناس يدركون أهمية تلك العلاقات بين الجيران، فيفتحوا أبوابهم وقلوبهم لجيرانهم، ويا ليت الزمان يعود يوما فأخبره بما فعلته الأنانيات والماديات وشواغل الحياة بمعاني الجوار، حتى لا تكاد تجد أحدهم إلا متوجسا وخائفا من جاره، رافعا شعار أن السلامة في توقير الجار، ومنتهى الأمان أن يحبس كل واحد شروره عن الآخر، فلا سلام ولا كلام ولا كعك ولا حلوى.
لقد كان حسن الجوار سمة جميلة تميز المجتمع المغربي، وعلامة على قيم التضامن التي كانت شاهدة على حرارة المودة والمحبة والألفة التي كانت تجمع بين البيوت المتجاورة، فمهما كانت رياح التغيير هوجاء عاتية، ينبغي لسفينة الجوار أن تمخر عباب المحيط، رغم أمواجه المتلاطمة، لتصل إلى بر الأمان، كي يستعيد الناس معاني الإحسان إلى الجيران، وينالوا بذلك الخيرية التي وعدهم بها النبي محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال: “خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله تعالى خيرهم لجاره” رواه الترمذي.