الحنيفيَّةُ السَّمْحةُ

Cover Image for الحنيفيَّةُ السَّمْحةُ
نشر بتاريخ

روى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قِيلَ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيُّ الأديانِ أحبُّ إلى اللهِ، قال: الحنيفيَّةُ السَّمْحةُ. (مجمع الزوائد، 1/65).

جاء في معجم المعاني؛ السَّمْحَةَ: مؤَنَّتُ السمْحِ والجمع: سِمَاحٌ، يقال: شريعةٌ سَمْحَةٌ: فيها يُسْرٌ وسهولةٌ، ودينٌ سَمْحٌ: فِيهِ يُسْرٌ وَتَسَاهُلٌ.

“الحنيفيَّةُ السَّمْحةُ”؛ سمحة بعقيدتها، سمحة بأحكامها، سمحة بتعاليمها… سماحة دعا إليها الله ورسوله وحبب فيها وجعلها كنه ديننا وعنوانه، قال الله تعالى: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت، الآية: 34]. روى أبو يعلى في مسنده عن جابر بن عبد الله -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- “أنّ النَّبيّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُئِل: أيُّ الإيمان أفضل؟ قال: الصَّبر والسَّماحة”.

نظم الإسلام العلاقات الإنسانية في كل مستوياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.. وجعل مبناها عل التسامح والدفع بالتي هي أحسن، وأكد على أهمية التيسير والاعتدال والحوار والعفو واحترام الحقوق، وأمر بالتربية على هذه المبادئ والأخلاق، وجعل التحلي بها عبادة لله تعالى وقربا منه. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله” [رواه مسلم]. وعنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من كان هيناً ليناً قريباً حرمه الله على النار” [رواه الحاكم]؛ أي متسامحا في كل أحواله وتعاملاته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله يحب سَمْحَ البيع سمح الشراء سمح القضاء” [رواه الترمذي عن عمرو بن شعيب].

كان صلى الله عليه وسلم سيد من تحلى بهذا الخلق، يروي عنه سيدنا أنس رضي الله تسامحه ورفقه بالأعرابي الذي بال بالمسجد؛ كيف نهره الصحابة، وكيف منعهم رسول الله من زجره وأمرهم ألاّ يعنفوا عليه، وقال له بعد ذلك بكل لين: “إن المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر، إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن”، و قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: “إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين، صبوا عليه دلوا من الماء”.

وصورة أخرى يرويها لنا البخاري فيقول: “إن كانت الأَمَة من إماء المدينة لتأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت فيمضي معها حتى يقضي حاجتها”. وعن أنس -رضي الله عنه – قال: “كنت أمشي مع النبي – صلى الله عليه وسلم – وعليه بُرْدٌ نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة – أي: شده وجذبه – ثم قال: مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفتَ إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء” [رواه البخاري].

ومن سماحته صلى الله عليه وسلم أنه “ما انتقم لنفسه من شيء قط، إلا أن تنتهك حرمةُ الله فينتقمُ لله” [رواه البخاري].

هذه السماحة التي دعا إليها الإسلام وحبب فيها، لم يجعلها مقتصرة على علاقة المومنين فيما بينهم بل تتعداهم لتؤطر علاقاتهم بغيرهم من غير المسلمين. فأول ما علم الله عز وجل، علم المؤمنين الإيمان بجميع ما أنزل من الأنبياء والرسل وبكتبهم، وأمر بعدم إكراه الناس على ديننا لَا إِكْرَاهَ فِى ٱلدِّينِ [البقرة، الآية 256]، ولكن أمر بدعوتهم برفق وعلى أساس الرحمة، ومحاورتهم بالتي هي أحسن قال سبحانه: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل، الآية 125].

ويعلم ديننا أن الاحترام المتبادل والاعتراف بالحقوق والحريات الإنسانية، هو وحده الكفيل بتحقيق العيش المشترك بين شعوب متنوعة ومختلفة، وأنه يجب علينا أن نحاور العالَم برحمة الإسلام، وببلاغ الآخرة وبيانها؛ بالرحمة لا بلغة العنف والحروب ما لم يعتدى علينا.

وفي تاريخ الإسلام صور ناصعة لأبهى نماذج هذه التربية. عن البراء بن عازب قال: كتب علي بن أبي طالب الصلح بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين يوم الحديبية فكتب: “هذا ما كاتب عليه محمد صلى الله عليه وسلم، فقالوا: لا نكتب رسول الله، فلو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: امحه، فقال: ما أنا بالذي أمحوه، فمحاه النبي صلى الله عليه وسلم بيده).

وفي فتح مكة عفا صلى الله عليه وسلم عن أهل مكة وهم الذين نكلوا به وبالمسلمين وأخرجوه من دياره، فلما أمكنه الله منهم قال لهم: “من أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن”، ونهى عن القتل، وقال لهم: “اذهبوا فأنتم الطلقاء” امتثالا لقول الله عز وجل: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة، 13]، وقوله: فَٱصْفَحِ ٱلصَّفْحَ ٱلْجَمِيلَ [الحجر، 85].

وكانت علاقته صلى الله عليه وسلم مع أهل الكتاب علاقة تسامح ورفق؛ فقد كان يزور مرضاهم، ويبَرُّ بجاره منهم، ويقترض منهم، وقد توفي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي، وكان صلى الله عليه وسلم لا يخرق عهد وأمان من عاهد منهم، ولا يعتدي عليه، ويربي أصحابه على ذلك فيقول: “ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة” [رواه أبو داود].

وهذا سيدنا عمر بن الخطاب حين دخل بيت المقدس أعطى الأمان لسكانها من النصارى “ألا تسكن مساكنهم ولا تهدم ولا ينقص من أموالهم شيء ولا يكرهون على دينهم”.

والتاريخ حافل زاخر بنماذج كثيرة تشهد على كون الإسلام دين السماحة والعفو، دين الحنيفية السمحة التي لا تعصب فيها ولا غلو ولا عنف ولا إرهاب… فما أحوج الإنسانية في عهد تعالت فيه الأنانيات، وتعاظمت البغضاء، وتطاحنت الأنفس، وجلبت عليها الشدة والعسر، والهون والعذاب، والشقاق والاختلاف… ما أحوجها إلى هذا الخلق الحضاري الرفيع الذي طبع المجتمع النبوي ومجتمع جيل الصحابة ومن تبع نهجهم. وسيظل هذا الخلق مطلب ذوي المروءات طلاب دين الحق والكرامة، سفراء الرفق والرحمة وداعيها.

كيف السبيل إذن للتخلق بخلق الحنيفية السمحة؟ كيف السبيل لإفشاء التسامح والسلام لتسود بيننا المحبة والاطمئنان والسلام؟

يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى: “ويكون من صلب التربية والتعليم النظر في أمثلة حلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأناته، وصبره، وتحمله، وشفقته على الخلق، ليكون ذلك لنا نموذجا يحتذى. فإننا لن نسع الناس، ولن ينفتح لنا الناس، إن تقدمنا إليهم بالوجه العابس والتشديد والتعسير. وفي السيرة المطهرة أمثلة رفيعة لرفق رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعليم الناس دينهم، وتدرجه بهم، وحلمه على ذوي الطباع الخشنة وقليلي الفقه… أمرنا في الدين بالتيسير والتبشير، فهذا رفق يقابله عنف فقيه يكفر المسلمين، وداع لا يفتح أبواب التوبة، ومشتاق لحكم الإسلام يتصوره ويصوره وجها حانقا، وسيفا مصلتا، وقلوبا لا ترحم” [المنهاج النبوي، ص 78].

يجب معاشرة الناس بهدي النبوة وأدب الإسلام الذي أمر بإفشاء السلام، وإفشاء السلام الذي أمرنا الله به لا ينتهي عند طرح الكلمة المباركة، بل يستدعي إحلال السلام محل الحرب، والرفق محل العنف، والتبشير محل التنفير، والتيسير محل التعسير.. نبرز من خلال ذلك ما تحمله قلوبنا من رحمة للعالمين، وراثة نبوية.