الحمد لله أنجز وعده ونصر غزة وحده

Cover Image for الحمد لله أنجز وعده ونصر غزة وحده
نشر بتاريخ

ها نحن اليوم نسجِّل بمداد من فخر ونكتب بماء الذهب انتصارا أسطوريا على مرأى العالم. انتصار عظيم وغير مسبوق في تاريخنا المعاصر، انتصار هو بمثابة معجزة، انتصار الحق في مواجهة جحافل الباطل في معركة غير عادية وفي زمن استثنائي.

مواجهة بين كافة قوى العالم المدجج بأعتى الأسلحة ويمتلك القوة المادية وكل أصناف الذخيرة والعتاد التي لم يسبق لها أن جُرِّبت في أي حرب من الحروب، معسكر الشر وقف بخيله ورجله أجمع على إبادة أمة صاحبة حق في بقعة صغيرة اسمها (غزة).

ولك أن تتخيل أو تحلم أن هذه القوى الغاشمة بزعامة الشيطان الأكبر أمريكا، وبمباركة حكام العرب المتصهينين الذين رضعوا لبن الأم تل أبيب، كانوا مطمئنين على محو أمة شكلت استثناء في دنيا الناس، ربما كانوا يظنون أن الأمر لا يحتاج سوى ليوم أو لبعض يوم، وربما كانوا يهيئون مسرح إقامة الحفل وقد استدعوا الجوقة وأعدوا الكورال للاحتفال بالقضاء على المقاومة في غزة.

هل كان يخطر لهم على بال أن المعركة ستسمر خمسة عشر شهرا وتكون الغلبة كما هي دوما حليفة جند الله؟

ولست هنا من الحالمين أغير الحقائق وأغفل عن عدد الشهداء الذين سقطوا وقد قرب عددهم الخمسين ألف شهيد ومائة ألف مصاب وجريح، ناهيك عن الدمار الشامل لكل شبر من أرض العزة والكرامة (غزة)، وفي نفسي ولست أرحم بهم من الله أتذكر حديث عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه قَالَ: “قَدِمَ رسُولُ اللَّهِ ﷺ بِسَبْيٍ، فَإِذَا امْرَأَة مِنَ السَّبْي تَسْعَى، إِذْ وَجَدَتْ صَبِيًّا في السَّبْي أَخَذَتْهُ فَأَلْزَقَتْهُ بِبَطْنِها، فَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ رسُولُ اللَّه ﷺ: أَتُرَوْنَ هَذِهِ المَرْأَةَ طارِحَةً وَلَدَهَا في النَّارِ؟ قُلْنَا: لا وَاللَّهِ، فَقَالَ: للَّهُ أَرْحَمُ بِعِبادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا” 1

ولك أن تتأمل هذا الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه أيضا: إِنَّ للَّهِ تَعَالى مئَةَ رَحْمَةٍ، أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الجِنِّ والإِنْسِ وَالبَهَائمِ وَالهَوامِّ، فَبِهَا يَتَعاطَفُونَ، وبِهَا يَتَراحَمُونَ، وَبها تَعْطِفُ الوَحْشُ عَلى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ اللَّهُ تَعالى تِسْعًا وتِسْعِينَ رَحْمَةً، يَرْحَمُ بِهَا عِبَادهُ يَوْمَ القِيَامَةِ” 2

ويشاء ربك أن تنتصر الفئة القليلة المؤمنة المجاهدة التي بقيت صامدة في زمن الخذلان لا يضرها من خذلها، فئة بشَّر بها المصطفى صلى الله عليه وسلم فكانت من معجزاته ونبوءاته التي لم ولن تخطئ أبداً. كنت على يقين أن النصر قريب قاب قوسين أو أدنى وأن العاقبة للمتقين، وكنت قرأت في السيرة النبوية العطرة أن ملائكة الرحمان نزلت مرة واحدة في غزوة بدر، لكن ثبت عندي باليقين الذي يفيد القطع أن الملائكة تقاتل هناك وأنه لا يوجد شبر في غزة إلا وعليه ملائكة تنادي: يا مجاهد يا قسامي يا غزِّي يا فلسطيني هذا محتل يختبئ خلفي تعالى إليه فاقتله ولا تأخذك فيه لومة لائم.

ولك أن تتأمل أيضا شهادات الجنود الذين بترت أطرافهم أو أجزاء منها وأصبحوا كبعض الآليات خارج الخدمة كيف يخبرون عن بعض ما عاشوا وما شاهدوا، وسيأتي يوم نقرأ شهادتهم، أو إن صح القول شهادات بعضهم من هول ما ذاقوا وكأنهم يسمعون: (حيزوم أقبل…) فأنزَل اللهُ: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال: 9] فأمَدَّه اللهُ بالملائكةِ، قال: أبو زُميلٍ: حدَّثني ابنُ عبَّاسٍ قال: بينما رجلٌ مِن المسلمينَ يومَئذٍ يشُدُّ في أثرِ رجلٍ مِن المشركينَ أمامَه إذ سمِع ضربةً بالسَّوطِ فوقَه، وصوتَ الفارسِ فوقَه يقولُ: أقدِمْ حَيْزُومُ إذ نظَر إلى المشركِ أمامَه خرَّ مستلقيًا فنظَر إليه فإذ هو قد خُطِم أنفُه وشُقَّ وجهُه كضربةِ سَوطٍ فاخضَرَّ ذاك أجمعُ فجاء الأنصاريُّ فحدَّث ذلك رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (صدَقْتَ، ذلك مِن مَدَدِ السَّماءِ الثَّالثةِ). 3.

وصدق الله ربنا: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ سورة الأنفال آية:17.

حرب أرادها الله تعالى أن تكون مقدسة، مجرياتها على الأرض وكل تفاصيلها وإدارة عملياتها في السماء، وشتان بين من يتلقى أوامره من الأرض ومن يبسط يده آناء الليل وأطراف النهار ينادي بكل كيانه وجوارحه إنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ سورة القمر آية 10.

وما أعظمها تلك القوة التي يَستشعرها جند الله في لجوئهم إلى الله، وركونهم إليه! لأنه يعلم عِلْم اليقين بأنه إن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْـمُؤْمِنُونَ [آل عمران: 160]؛ فمن يلجأ إلى الله يُوقِن بأن الغالب هو الله، وأما الناس «فلن يغلبكم مع نَصْره إياكم أحد، ولو اجتمع عليكم مَن بين أقطارها من خلقه، فلا تهابوا أعداء الله لقلة عَددكم وكثرة عَددهم؛ ما كنتم على أمره، واستقمتم على طاعته وطاعة رسوله؛ فإن الغلبة لكم والظَّفر دونهم» 4.

جرت عادة الحق عز وجل في خلقه أنه لا يأتي الامتكان إلا بعد الامتحان، ولا يأتي الـسُلوان إلا بعد الأشجان، ولا يأتي العزّ إلا بعد الذّلّ، ولا يأتي الـوَجد إلا بعد الفقد. فبقدر مـا يـَضِيق على البشرية، تتّسع ميادينُ الروحانية. 5.

وكما يقال الحق ما شهدت به الأعداء:

ولك أن تقرأ ما كتبه المحلل العسكري في “يديعوت أحرونوت”، يوسي يهوشوع تعقيبا على صفقة التبادل، “بعد 15 شهرًا من الحرب، لم ينجح الجيش فعليًا في تدمير الذراع العسكرية لحماس، وهو مسؤوليته الأساسية. في الوقت نفسه، لم تعمل القيادة السياسية على خلق بديل حكم في غزة”

وأضاف، وبهذا نحصل على اتفاق ندفع فيه ثمنًا باهظًا كان يجب أن ندفعه مقابل صفقة شاملة، وليس صفقة جزئية ستفقد بعدها وسائل الضغط اللازمة لضمان المراحل المقبلة.

وكتب المحلل السياسي الإسرائيلي ألون مزراحي في تغريدة له في منصة (X): «ما أصبح أكثر وضوحاً في هذه اللحظة الفريدة، هو أن حماس، وهي حركة فلسطينية صغيرة، لم تَهزم «إسرائيل» فحسب، بل الغرب برمّته..! لقد انتصرت في ساحة المعركة، وانتصرت في ساحة الرأي العام”. وتابع: ” لقد تمكّنت من الاستفادة بشكل مذهل من قراءتها وفهمها للعقلية الإسرائيلية، واستخدمت كل ما لديها بكفاءة عالية. لقد كسبت القلوب نحو القضية الفلسطينية، في جميع أنحاء العالم. ولم يتم تدميرها أو تفكيكها. لقد احتفظت تقريباً بكل أسير، أسرته، ولم تستسلم لأي ضغوط. سيحكم التاريخ باعتبارها واحدة من أكثر الإنجازات عبقرية، ربما في التاريخ العسكري كله. وهذا أبعد من أن يتم سبر غوره من خلال شن هذه الحرب بهذه الطريقة، ومن دون التفكير أو الإحساس، جعلت «إسرائيل» من حماس أسطورة المقاومة التي ستعيش في الذاكرة الثقافية على مر العصور».

خلاصة القول كما يشير الكاتب الفلسطيني عليان عليان هي أن  محصلة العدوان الصهيوني في المراحل الثلاث في تقدير العديد من الخبراء العسكريين بمن فيهم الخبراء الصهاينة ”صفر مكعب”، فرغم دخول قوات الاحتلال كل مناطق قطاع غزة، إلا أنها لم تفلح في السيطرة على أي شبر فيه، وما يعزز من هذا الاستنتاج، صدور تصريحات من أكثر من مسؤول عسكري صهيوني سابق مفادها أن (إسرائيل) خسرت الحرب بصورة كبيرة في قطاع غزة.

كما نقل الكاتب الفلسطيني عن الجنرال بريك عن ضباطٍ يحملون رُتب لواء وعميد وقادة ألوية في الميدان، قولهم “إنّ الجيش ليس فقط لا ينجح، بل فشل وخسر أيضاً في الحرب في مقابل غزة”، بالإضافة إلى تصريحهم بأنّهم “يفقدون جنوداً في الاحتياط، يقولون إنّهم لن يلتحقوا بالخدمة في غزة”، مُضيفاً أنّهم “يفهمون أنّه لا يمكن الانتصار هكذا”، مُطالباً بوجوب “وقف القتال الآن، لأننا لا نقاتل فقط نُقتل”.

الكاتب الفلسطيني نفسه، جزم بأن الكيان الصهيوني، في ضوء كل ما تقدم، ليس بوسعه مواصلة الحرب، وليس أمامه سوى التسليم بشروط ومطالب المفاوض الفلسطيني في أية صفقة مطروحة، وهي:

  • وقف إطلاق نار دائم، وانسحاب قوات الاحتلال من عموم قطاع غزة.
  • وفتح المعابر وإدخال المساعدات لكافة مناطق القطاع وعودة النازحين من الجنوب إلى غزة ومناطق الشمال بدون قيد أو شرط.
  • والبدء في إعادة إعمار قطاع غزة وإنجاز صفقة تبادل تؤدي إلى تحرير معظم الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال.

أما الحديث عن مرحلة ما بعد وقف الحرب، فلن يخضع لرغبات العدو الصهيوني وتوجهات الإدارة الأمريكية، بل تقررها نتائج الحرب التي باتت محسومة لمصلحة المقاومة في قطاع غزة. 6

وكان الجنرال الإسرائيلي المتقاعد إسحاق بريك قد حذر من أن استمرار الحرب سيؤدي لهزيمة إسرائيل، لأن البلاد ستخسر دعم العالم واقتصادها وجيشها، وكذلك قوتها الوطنية والاجتماعية، مما قد يشعل حربا أهلية.

ووصف بريك -في عموده بصحيفة “هآرتس”- رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنه “بار كوخبا العصر الحديث” الذي يقودهم إلى الكارثة تماما كما فعل بار كوخبا الذي قُتل مئات الآلاف من اليهود تحت قيادته، وذهب من بقي منهم إلى المنفى، فها هو نتنياهو يتبنى وجهات نظر المتطرفين بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، ينفذ أوامرهما لرغبته في البقاء السياسي. وأشار إلى أن هؤلاء المتعصبين يقودون إسرائيل إلى حرب استنزاف مستمرة تدمر الاقتصاد والعلاقات الدولية والأمن الوطني، دون تحقيق أهداف كإطلاق سراح المحتجزين أو عودة النازحين أو هزيمة حماس وحزب الله.

ونبه الكاتب إلى ضرورة إدراك حقيقة مفادها أن إسرائيل لا تستطيع هزيمة حماس ولا هزيمة حزب الله، ولا هزيمة الحوثيين ولا إيران، وأن استمرار الحرب سوف يهزمها.

الحلم انتهى!

جاء في إفتتاحية صحيفة “هآرتس الصهيونية” مقال بعنوان “الفلسطينيون أفضل شعوب الأرض في الدفاع عن أوطانهم”: “أثناء الحرب على غزة وإطلاق صواريخ المقاومة علينا، خسارتنا كل ثلاث أيام تتعدى 912 مليون دولار مِن طلعات الطائرات وثمن صواريخ الباتريوت وتزويد الٱليات بالوقود بالإضافة إلى إستهلاك الذخائر والصواريخ على كافة أنواعها ناهيك عن تعطل الحركة التجارية وهبوط البورصة وتوقُّف مُعظم المؤسّسات وأعمال البِناء وشلل تام في جميع مجالات الزراعة والصناعة والتجارة وموت الدواجن على أنواعها في المزارع بعشرات ملايين الدولارات وتعطُّل بعض المطارات وبعض خطوط القطارات وثمن إطعام الهاربين إلى الملاجئ ناهيك عن التدمير في البيوت والمحال التجارية والسيارات والمصانع بفعل صواريخ المقاومة الفلسطينية.

فنحن نتعرض لحرب نحن مَن بدأها وأوقد نارها وأشعل فتيلها ولكننا لسنا مَن يُديرها، وبالتّأكيد لسنا مَن ينهيها أما نهايتها، فليست لمصلحتنا خاصة وأن المدن العربية في إسرائيل فاجأت الجميع بهذه الثّورة العارمة ضدنا، بعد أن كنا نظُن أنهم فقدوا بوصلتهم الفلسطينية.

فهذا نذير شُؤُم على الدولة التي تأكّدَ سياسيوها أن حساباتهم كانت كُلها مغلوطة، وسياساتهم كانت تحتاج لأُفُق أبعد مِمّا فكروا فيه.

أما الفلسطينيون، فإنهم هم فعلاً أصحاب الأرض. ومَن غير أصحاب الأرض يدافع عنها بنفسه وماله وأولاده بهذه الشراسة وهذا الكبرياء والتحدي؟

وأنا كيهودي، أتحدى أن تأتي دولة إسرائيل كلها بهذا الإنتماء وهذا التمسك والتجذُّر بالأرض. ولو أن شعبنا مستمسك بأرض فلسطين فعليا، لما رأينا ما رأيناه مِن هجرة لليهود بهذه الأعداد الهائلة في المطارات وهم يسارعون للهجرة منذ أوّل بدئ الحرب بعد أن أذقنا الفلسطينيين ويلاتنا من قَتل وسِجن وحِصار وفصل وأغرقناهم بالمخدرات وغزونا أفكارهم بخُزعبلات تُبعدهم عن دينهم، كالتحرُّر والإلحاد والشَّك بالإسلام والفساد والشذوذ الجنسي.

لكن الغريب في الأمر أن يكون أحدهم مُدمِن مخدرات ولكنّه يهُب دفاعاً عن أرضه وأقصاه وكأنه شيخ بعمامة وصوته يصهل: الله أكبر، هذا إضافة الى أنهم يعلمون ما ينتظرهم مِن ذل وإهانة وإعتقال البعض وهم لم يتردّدوا يوما عن الذهاب لأداء الصلاة في المسجد الأقصى”.

وإنه لجهاد نصر أو استشهاد.


[1] متفقٌ عليه.
[2] متفقٌ عَلَيهِ.
[3] صحيح ابن حبان.
[4] الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير، جامع البيان عن تأويل آي القرآن (تفسير الطبري)، دار التربية والتراث – مكة المكرمة، تحقيق محمود محمد شاكر، بدون تاريخ، ج 7، ص: 347
[5] ابن عجيبة، أبو العباس أحمد بن محمد بن المهدي، تحقيق أحمد عبد الله القرشي رسلان، الناشر: الدكتور حسن عباس زكي – القاهرة، طبعة: 1419 هـ، ج 2، ص: 596
[6] عليان عليان صحيفة رأي اليوم تاريخ 7 يوليوز 2024.